غسان كنفاني واستشراف المستقبل
بقلم: د. فيحاء قاسم عبد الهادي
"لقد دهشت حين سمعت مجدداً حوار أبطالي حول مشاكلهم، واستطعت أن أقارن حوارهم بالمقالات السياسية التي كنت قد كتبتها في الفترة الزمنية ذاتها، فرأيت أن أبطال القصة كانوا يحللون الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاتي السياسية".
غسان كنفاني
*****
بعد أربعين عاماً على استشهاد غسان كنفاني ـ الأديب والكاتب والصحافي والفنان والمناضل السياسي ـ ما زالت الشخصيات التي أبدعها ضمن إنتاجه الأدبي تتجوَّل بيننا، الشّخصيّات الإيجابيّة الكامنة في رواياته، وقد تجلَّى فعلها: الأستاذ "سليم"، في (رجال في الشّمس)، معلِّم المدرسة الذي لا يعرف كيف يؤم المصلين يوم الجمعة، ولكنه يعرف كيف يطلق الرصاص ليصدّ العدوان الصهيوني على القرية، و"سالم"، في (ما تبقّى لكم)، المناضل الذي أعدم رمياً بالرصاص، بسبب وشاية خائن، و"خالد"، في (عائد إلى حيفا)، الاتجاه الذي يشير إلى المستقبل، و"أبو حمدان" في (الأعمى والأطرش)، الفدائي الذي تعلم السياسة في السجن، والذي يشير إلى أهمية البندقية المسيَّسة، طريق الفكر الموجِّه للسلاح في معركة التحرير، و"سعاد"، في (برقوق نيسان)، المناضلة الفلسطينية المثقفة، التي تنخرط في العمل السياسي.
والشخصيّات السّلبيّة، وقد استفحل خطرها: "أبو الخيزران"، في (رجال في الشّمس)، حيث القيادة العاجزة، التي ناضلت قديماً، وما زالت تعيش على أمجادها، والتي تلجأ إلى المرونة الّتي تدلّ على التّكيّف حسب الظّرف، وليس الثّبات على المبدأ، والتي تعبت، وأصبح هدفها أن تجمع المال وتستريح، و"زكريّا"، في (ما تبقّى لكم)، حيث الهروب من المسؤولية، على المستوى الشخصي والمستوى الوطني، وحيث الخيانة الّتي يجدر التّخلّص منها، و"عبد المولى"، في (أمّ سعد)، حيث الانتهازيّة الّتي يجدر فضحها.
والشّخصيّات الملحميّة في رواياته، وقد أصبحت نمطاً ممتداً:
"أمّ سعد"، في (أم سعد)، الأمّ الفلسطينيّة، الشعب، المدرسة، المرأة الكادحة الصبورة المؤمنة بالمستقبل، والّتي تتحرّك لتحتضن الفعل وتباركه، في الوقت نفسه الّذي تحرص فيه على حماية أولادها من أيّ مكروه، و"العاشق" و"عبد الكريم" و"قاسم" و"السّجين رقم (362)"، و"حسنين"، في (العاشق)، الإنسان العادي، والنّمط الاستثنائيّ، والرّقم الّذي لا يهتمّ باسمه، بل يمثّل أسماء عديدة من أبناء الشّعب الفلسطينيّ، ممّا يجسّد بطولة الإنسان العادي الّذي يسعى إلى تغيير الواقع، والذي يدلّ تغيّر اسمه على ديمومة الثّورة وتجدّدها، رغم تغيّر الشّخصيّات.
وشخصيّاته الإيجابيّة الجنينيّة في قصصه القصيرة، وهي تتّجه نحو الوضوح: "الأسود الصغير"، في قصّة (الأخضر والأحمر)، الأسود الصغير الذي ولد من الرجل الذي قتل ظلماً، و"الرجل"، في قصة (العروس)، الرجل الذي انتزع بندقية كي يدافع عن قريته عام 1948، ولم يكفّ عن البحث عنها، حين فقدها، منذ عشر سنوات.
وشخصياته الإيجابية، وقد اتضحت معالمها، كما تجسّدها مجموعته القصصيّة الأخيرة (عن الرّجال والبنادق): "أبو القاسم" و"أبو حسن" و"منصور"، في اللوحة التي يحتويها القسم الأول (الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرِّق إلى صفد)، "أبو القاسم" والخال "أبو حسن"، هما وجه الماضي المشرق، و"منصور"، امتدادهما في الحاضر.
*****
في قصّته (الأخضر والأحمر)؛ دعا غسّان كنفاني إلى مقاومة الموت، مهما كانت المقاومة هزيلة وصغيرة، وعبِّر عن هذه الدعوة، من خلال الأسود الصّغير، الّذي يولد في الّلحظة نفسها الّتي يموت فيها الشّهيد.
لم يكن غسّان ليرى الموت فحسب؛ لكنّه كان يرى الحياة الّتي تنشقّ من الموت أيضاً، كان يرى ولادة الأمل من أعماق الهزيمة، فدعا الأسود الصّغير لأن يكون ندّاً: "أيّها الّذي يعيش تحت أكداس الأقدام.. اِكبر ..اِكبر .. لماذا لا تكون ندّاً قبل أن تموت؟!".
*****
ما كفَّ أطفال قصص غسّان كنفاني، أن يكونوا أمل المستقبل وصانعي التغيير؛ نراهم يتصدون لدباّبات الاحتلال وحواجزه العسكرية ومستعمراته الإحلالية وحائط فصله العنصري، ويعلنون تمرّدهم على البؤس وعلى التّشرّد وعلى المحتلّ، في آن، كما تنبّأ في قصصه القصيرة: (كعك على الرّصيف)، و(المنزلق).
أيا غسّان، لقد كبر الصّغير وصار ندّاً.