السبت 01-02-2025

لكل مرحلة انتفاضة ولكل انتفاضة جيلها وخصائصها

×

رسالة الخطأ

أبو علي حسن

لكل مرحلة انتفاضة ولكل انتفاضة جيلها وخصائصها

أبو علي حسن
لكل انتفاضة مرحلتها وجيلها ونكهتها.....الانتفاضة الفلسطينية المشتعلة منذ ثلاثة أسابيع...تؤشر في دينامياتها وفعالياتها على أنها ستعبر الزمان والمكان إلى الزمن الأطول والمكان الأوسع...بل هي متدحرجة كما كرة الثلج تحمل معها المزيد من الغضب والعنفوان...والمزيد من الالتفاف الجماهيري حولها...الأمر الذي يعني أن هذه الهبة وهذا الغضب الشعبي وتجسيداته على الأرض من حراك ومسيرات وعمليات طعن...واحتكاك مع حواجز الاحتلال قد تجذرت كهبّة شعبية...وتعمق محتواها وتعددت مظاهرها وهي ذاهبة نحو انتفاضة شاملة وطويلة زمنياً وقد تتعدد أشكالها وفعالياتها...وتخلق وضعاً أمنياً واقتصادياً وسياسياً مختلفاً للاحتلال...مما يجعل الاحتلال مجدداً أمام كلفة احتلاله وعنصريته...وتعديه على مقدسات الشعب الفلسطيني وأرضه وحريته..
إن انتفاضة اليوم لها خصوصيتها وسماتها وجيلها وأدوات كفاحها المختلفة عن سابقاتها... فلكل انتفاضة جيلها وبيئتها السياسية والإقليمية والدولية...فالانتفاضة الأولى عام 1987 جاءت رداً على ما آلت إليه م.ت.ف بعد رحيلها من لبنان إلى منافي الدول العربية...واشتعلت بجيل الشباب...المتحمس والثائر ضد الاحتلال الذي أراد أن يفرض خياراته السياسية مع المنطقة ومع عملائه...وكان عنوانها الحجر والمقلاع...وأحدثت دوياً هائلاً في الساحات العربية والدولية...وتحول اصطلاح الانتفاضة الى اصطلاح في كل لغات العالم...وأحدثت تحولاً نوعياً في الرأي العالم العربي والدولي...وأعادت مكانة القضية الفلسطينية وم.ت.ف مجدداً إلى واجهة الأحداث والأولويات...واستمرت خمس سنوات تراكم إنجازاتها...بيد أن اتفاق أوسلو قد أنهى هذه الانتفاضة دون أن يثمرها...أويقطف إنجازاتها ويحولها الى انتصارات...بل أضحت "الانتفاضة المغدورة".
وفي عام 2000 اشتعلت الانتفاضة الثانية عبر جيل آخر من الشباب..بعد أن فشلت محادثات كامب ديفيد الذاهبة إلى "سعي الحل الدائم و الشامل والمفضي إلى دولة فلسطين" وقد شكلت تلك الانتفاضة تطوراً نوعياً عن سابقتها عبر استخدام العنف والاشتباك المباشر مع جنود ومستوطني الاحتلال...وفي عمليات استشهادية في عمق الكيان...واستمرت سنوات...وانتهت بفعل عاملين...أهمهما هو منسوب العنف الاسرائيلي الذي كان عالياً وقاسياً في مواجهة الشباب المنتفض وسياسة العقاب الجماعي...وثانيهما غياب البعد العربي هذه المرة في دعم وإسناد الانتفاضة باستثناء بعض المسيرات والهيجان الشعبي العربي في بعض المدن العربية...وقد شكل مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2001 خنجراً في ظهر الانتفاضة وأضرّ من مكانة م.ت.ف حين أعلن عن المبادرة العربية للسلام التي أرادت أن تؤسس لجولات جديدة من مفاوضات السلام...وطي صفحة اللاجئين الفلسطينيين عبر ما سمي بالحل العادل المتفق عليه للاجئين الفلسطينيين...وانطوى فصل جديد من كتاب النضال الفلسطيني...غير أن هذه الانتفاضة قد أرغمت الاحتلال على اعتماد تكتيك سياسي وأمني واقتصادي لمعالجة عبء قطاع غزة على الكيان...عبر انسحابه من القطاع...واستبدال الاحتلال المباشر بالحصار الأمني والاقتصادي وتفضيل الجولات العسكرية ضد القطاع كما حصل في الحروب الثلاثة.
وبعد عقد ونيف نشهد اليوم انتفاضة ثالثة في زمن مختلف فلسطينياً وإقليمياً ودولياً مجافي لأبعد الحدود...وظهور الجيل الجديد من الشباب على مسرح الهبة الشعبية...وهوالجيل الذي ولد وترعرع مع اتفاق أوسلو وشعاراته وأوهام الحل السياسي والمرحلي "غزة..إريحا أولاً" وثقافة التعايش مع الاحتلال...وفي زمن هجوم وهيمنة ما سمي بالمؤسسات الأهلية الممولة من الغرب...والهادفة إلى خلق بيئة فلسطينية جديدة ومختلفة عن بيئة الكفاح والثورة الفلسطينية والتي أشرف على هندستها (دايتون) عبر خارطة الطريق.
هذا الجيل الذي أريد منه أن يسدل الستار على القضية الفلسطينية ويغرق في أوهام التنمية الاقتصادية "وسنغافورة الشرق والدولة الفلطسينية الوليدة"...هو اليوم الذي يحطم كل هذه الأوهام وعبادة صنم المفاوضات...وهو الجيل الذي يقدم النموذج الحي في تشكل الوعي الوطني في الظروف المجافية وتجديده...وإزاحة الغبش السياسي عن محتوى وجوهر الثقافة السياسية والوطنية...عبر الحراك الذي بدأ في الثلاثين من الشهر الماضي.
إن هذه الانتفاضة لها خصائصها ونكهتها وجيلها وشبابها... ومن أهم خصائصها أنها في حركتها ونشاطها..."انتفاضة أفقية وليست مركزية"...فالإطار المركزي أو التنظيمي "القيادة والفصائل" قد أخفقت في تحريك شباب الانتفاضة....وهنا أضحى الشباب والشابات في حراكهم وغضبهم عابرون للأيدولوجيات والشعارات الفصائلية...وغلبت الفردية واللافصائلية واللا مؤسساتية على طبيعة الحراك ومساحته وآلياته...وهي بهذه الخاصية تحررت من قيود الفعل المنظم الذي طالما انتظره الشباب...وكأن هذا الشباب يريد أن يقول "كفـــى".
أما الخاصية الأخرى لهذه الانتفاضة فهي ذلك الإبداع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال عبر المواجهة "في نطاق المسافة صفر" وعبر "ثورة السكاكين".
وهنا قد لا يبدو أن استخدام السكين إبداع عند البعض...فالكل يجيد استخدام السكين...غير أن الإبداع هو تحول السكين إلى سلاح مرعب...وإلى فكرة ثم هبّة...وإلى مقاومة...وإلى إرادة واعية..وإلى قرار مسبق بالاستشهاد...فالفكرة هي من يحرك السكين...كما كانت تكمن في الانتفاضة الأولى في الحجر والمقلاع...وفي الانتفاضة الثانية في استخدام السلاح.
إن استخدام السكين تحمل رمزية هائلة على قوة الإرادة...ولعل مشاهد الذعر التي ملأت حياة المستوطنين وحتى الجنود تعكس أهمية هذه الرمزية ودلالاتها.
إن هذا الجيل من الشباب الفلسطيني قد دخل إلى عمق السياسة بطريقته...ودخل معترك السياسة الفلسطينية الجديدة بأسلوبه وتقنياته الجديدة...وهو في ذات الوقت يواجه تحديات كبيرة تتمثل في مدى قدرته على تجاوز نمطية الحراك...وحاجته إلى تطوير أدواته السياسية والعملياتية...والبحث عن طرائق عمل مؤسساتية والانتقال من العمل الفردي إلى العمل المنظم الواعي والشامل..والسعي إلى تحقيق أكبر نشاط جماهيري يشكل سياجاً واقياً لهذا الجيل من الشاب المنتفض.
وكيف يمكن تحويل الجماهير من طاقة سلبية "عواطف ومشاعر" إلى طاقة إيجابية "حضور في الساحات والشوارع والميادين...وإحياء الصورة الجميلة لشعبنا عبر ما سمي "بالتكافل الأسري" وبناء المؤسسات الجديدة التي تصنع قيادات شابة واعدة متمرسة قادرة على خوض معركة الكفاح...وهنا قد يتجلى الاستبدال القيادي التلقائي لقيادة تاريخية عتيقة قد أزف رحيلها...أي فاتها الزمن...أي أن الخطوة القادمة هي الإعلان عن قيادة الانتفاضة من الشباب الذي يخوض غمار الفعل الثوري...وهنا من غير المنطقي أن يفهم أن هذا الاستبدال هو استبدال للفصائل الفاعلة بذاتها...إنما هو استبدال للأدوات والقيادات في ظرف تاريخي مختلف...ومن غير الجائز أن يتحول الإعجاب بالفردية إلى تقديسها وتفضيلها عن العمل المنظم والمؤسساتي...فالمشكلة لم تكن في مبدأ العمل المنظم والمؤسساتي...إنما كانت قائمة في من يحتل ويتربع على هذه المؤسسات ولا يجيد العمل المنظم.
إن صيرورة الانتفاضة وأدوات فعلها سوف تكشف في قادم الأيام عن الكثير من خصائصها وسماتها المختلفة والمتوافقة في آن عن الانتفاضات السابقة التي شكلت عملاً وكفاحاً وطنياً موصولاً على مدار عمر القضية الفلسطينية.

انشر المقال على: