فجأة باركت الإدارة الأميركية، وخلال زيارة قصيرة ــ دامت ساعتين فقط قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية لجوباــ عاصمة جنوب السودان باركت الاتفاق الذي تم بين جنوب السودان وشماله حول بعض المشاكل المتعلقة بالنفط وتصديره.
الزيارة لجوبا دامت ساعتين فقط، استطاعت كلينتون أن تعطي رجالها في السلطة في جوبا "كلمة السر" وقعوا!
بعد أن كانت قد أخذت موافقة مبدئية من حكومة الخرطوم وكان الاتفاق مع الخرطوم من تحت الطاولة مع حكومة البشير. أوباما وصف الاتفاق بأنه سيفتح الباب أمام ازدهار أكبر لشعبي البلدين.
وزير خارجية بريطانيا وصف الاتفاق بأنه اختراق لكنه لم يقل اختراق لمن؟ ثم أضاف أنه سيكون حافزاً لاقتصاد البلدين! مرحباً بروح التسوية بين الشمال والجنوب، والمعروف أن معظم ثروة السودان ما قبل التقسيم كان بنسبة 70% في الجنوب وينقل عبر أنابيب إلى مصبات في مرافئ الشمال، وكل خطوط النقل موجودة في الشمال.
الاتفاق رغم الشوائب التي تعتريه، ينص على أن تدفع حكومة الجنوب مبلغ 10 دولارات عن كل برميل نفط يمر عبر أراضي الشمال، لحكومة الخرطوم. كما ينص على أن تدفع حكومة جوبا مبلغ 3 مليارات دولار لحكومة الخرطوم تعويضاً لها على قطع ضخ النفط في فترة ما بعد الانفصال، الانقطاع الذي فرضته حكومة جوبا بإيعاز من واشنطن وقد حاولت حكومة الجنوب تخريب آبار النفط لمنع ضخه، كما حاولت مد خطوط نقل بديلة عبر كينيا إلى المحيط، ولكن التكاليف وإفلاس حكومة جوبا غيرّ المعادلة.
لماذا هذه الغيرة المفاجئة من قبل واشنطن ولندن (ومن خلفها تل أبيب) على مصالح السودان وشعبه؟ هل هناك صفقة ما بين الخرطوم وواشنطن؟ وهل نسي الشعب السوداني الحرب الاقتصادية والسياسية التي تزعمتها واشنطن على الخرطوم طوال عقود لأنه فتح اقتصادياً على الصين؟ وهل نسي الشعب السوداني الغارات التي شنتها طائرات واشنطن ودمرت مصانع الأدوية في ضواحي المدن السودانية عام 98؟ وهل نسي البشير الذي يحكم السودان منذ 23 سنة أنه ما زال ملاحقاً بأمر من واشنطن من قبل محكمة الجنايات الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في دارفور؟
كل الحروب التي أشعلتها القوى الاستعمارية بين الشمال والجنوب كانت تهدف إلى التقسيم وقد تم فعلاً عام 2011 وكان أول إسفين يدق في وحدة البلاد العربية.
وهل نسي البشير عندما كان يقف خطيباً، حاملاً الرشاش بيد والقرآن بيد متوعداً بتطهير الجنوب من الصهاينة؟ أين أصبحت العصا المارشالية التي يلوح بها البشير دائماً، علامة القوة؟
لا نريد أن نظلم سكان الجنوب وأهلها الذين عانوا الحرمان طوال عقود ما بعد الاستقلال، فلا طرقات، ولا مستشفيات، ولا بنى تحتية... وكان السبب سياسة الحرمان والظلم التي مارستها معظم الحكومات العسكرية المتعاقبة وآخرها حكومة البشير. السودان لم يعرف الحكم المدني الحقيقي طوال تاريخ استقلاله عن بريطانيا عام 56.
"الربيع"، الذي تحاول المخابرات الأميركية تفصيله على قياس بعض الأنظمة العربية المنهارة، كان قد بدأ يعطي نتائجه في السودان بعد تقسيمه "ديمقراطيا"، وكان أول دفعة على حساب التمزيق الذي خططت له الدوائر الاستعمارية والصهيونية.
فالسودان الذي خسر حياته السياسية على يد الانقلابات العسكرية المتتالية، لم تعد فيه أحزاب سياسية فاعلة وأصبحت بمعظمها ملحقة بالنظام العسكري. والنقابات العمالية مشتتة والحركات الشبابية ضائعة والبطالة تعم جيل الشباب وخاصة الجامعي منه، وأخطر من ذلك كله فإن البشير الذي ما زال ممسكاً ببعض الأجهزة العسكرية وشبه العسكرية، يتعرض اليوم لضربات مخابراتية كان آخرها سقوط طائرة على متنها أكثر من 30 مسؤول بينهم وزراء عسكريون كبار مما استدعى إقالة مدير الطيران المدني، مما يؤكد أن الحرب على جهاز الدولة قد بدأ من قبل المخابرات الأميركية والصهيونية المنتشرة ليس في السودان وحسب بل في معظم أجهزة الدولة في العالم العربي.
ويحاول حكم البشير الإيماء بأن حل هذه المشاكل السياسية الاجتماعية والأمنية لا يكون إلا بالعودة إلى الإسلام... والإسلام هو دين العدالة الاجتماعية أولاً وأخيراً.
والشعب السوداني شعب مؤمن لا يعرف التعصب، وإذا كان السودان ومصر وليبيا، فيه حكومات يحكمها الإسلاميون فإننا لم نر حتى اليوم أية خطوة ايجابية نحو نوع من التكامل الاقتصادي بين هذه الدول، ففي مصر فائض سكاني وفي السودان فائض زراعي ومائي وفي ليبيا فائض البترول وأمواله. فهل هناك ما يمنع من اتخاذ خطوات "إسلامية" لتوحيد الجهود نحو نوع من التكامل الاقتصادي، ولا نقول الاندماج؟
أم أن الدين الحنيف هذا الآخر أصبح خاضعاً لتفسيرات واشنطن وتل أبيب ويمنع أي وحدة وإنماء لصالح جماهير الناس في السودان ومصر الذي يعاني من الفقر والإهمال والاستغلال؟ إلا يكفي الدين الحنيف من آفاق التزوير والتدمير الذي أدخلوه فيها، وخاصة حكومة البشير؟
محمد عبدو