الأحد 24-11-2024

في الذكرى الـ 47 لانطلاقة الجبهة الشعبية

×

رسالة الخطأ

د. عاطف ابو سيف)

في الذكرى الـ 47 لانطلاقة الجبهة الشعبية
د. عاطف ابو سيف)
تمر ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السابعة والأربعون في أوقات نحن بحاجة فيها لتعلم الدروس من هذه المسيرة الغنية والطويلة واستذكار بعض العبر التي تصلح فانوساً يضيء عتمة الطريق الوعرة بالانقسام والشقاق وتغليب الحزبي على الوطني بجانب اختلاف البرامج والطرق وتصارعها.
لم تكن انطلاقة الجبهة مجرد تشكل حزبي آخر بل كانت استكمالا لخروج المارد الفلسطيني من القمقم.
لا يمكن قراءة تاريخ الثورة الفلسطينية دون الإشارة المتكررة لهذا الحضور المهم والدور الفاعل الذي قامت به الجبهة خلال مسيرتها النضالية والتكاملية، والتي ارتكزت على التنوع في الأساليب والأدوات واتفاق مطلق حول الخطوط العريضة مع الاحتفاظ بحق ومنهج الاختلاف الإجرائي والتكتيكي.
لقد كان حضور الجبهة الشعبية في أتون انبعاث المارد الفلسطيني من رماد النكبة إلى جمر الثورة أساساً في اكتمال اندلاع النيران في هشيم الهزيمة. لم تكن ولادة الجبهة مجرد ولادة رقمية ولا إضافة جانبية، بل كانت ولادة من رحم الحاجة والضرورة الفلسطينية وإن كانت ذات أبعاد قومية، لكنها ذات الأبعاد التي ستعطي هذه الإضافة أهميتها في الساحة الفلسطينية، إنها التذكير الدائم بهذا البعد الذي لم يغب عن آباء الجبهة ولا عن رفاق دربهم من فصائل الثورة المختلفة.
أذكر حين كنا فتية ونخرج في تلك التظاهرات العامة التي كانت تجوب شوارع المخيم، كنا نهتف لياسر عرفات ولأبي جهاد ولجورج حبش ولأبي إياد ولجيفارا.
باستثناء وعينا التنظيمي البسيط في ذلك الوقت، لم نكن حزبيين حين نهتف لكل واحد منهم.
لم نكن نقول إن ياسر عرفات لفتح وجورج حبش للجبهة، كانت تلك المسيرات كرنفالاً من الهتاف والشعارات التي كان غايتها أن تندفع الجماهير الغاضبة للاشتباك مع الجيش.
كبرنا ونحن ندرك الحاجة لهذا الاندفاع، وضرورة الحفاظ على هذا الوهج، إذ إن التنظيم ليس الغاية بحد ذاتها - رغم أن كلاً منا قد يعتبر تنظيمه مقدساً - لكنه الطريق المقدس الذي يقود إلى غاية اكثر قداسة.
كانت صورة الحكيم تعكس القلق الفلسطيني والتوق الكامن في كنه الروح الفلسطينية للحرية، كان ذلك القلق الذي يحمل الفلسطيني على جناح المخاطرة بحثاً عن فلسطين.
كان ثمة شيء جمعي في تلك النظرات، شيء يصلح أن يكون لنا كلنا في آخر الأمر حتى لو انطلق من أيدلوجية ووعي مختلفين.
كان النسيج الوطني المتكامل فسيفساء كبيرة ممتزجة الألوان والظلال والتشكيل، وكانت كلها في آخر المطاف تعكس صورة فلسطين في أبهى حللها.
في غابة البنادق تلك كانت الديمقراطية الثورية تترعرع وتنمو ويجد الجميع مكاناً له ومنبراً ليقول كلمته.
كانت فلسطين، رغم قسوة الظروف وشدة الأحوال، تتفاعل وتعيد إنتاج نفسها دون أن تفقد بوصلتها وتنزلق نحو الصراع الداخلي المدمر، دون أن يعني هذا أن الجميع تماهى في كل شيء، بل كان الهدف الأسمى هو الذي يجعل من الخلافات والاجتهادات والتفسيرات مجرد قضايا جانبية لا يمكن لها أن تحرف بوصلة النضال الوطني.
بمعنى آخر لم يتم تغليب التناقض الثانوي على التناقض المركزي، إذ ظل النضال من أجل فلسطين هو أساس المعركة، ولم يتم استحضار صراع ما على القوة، أو خلاف ما على توزيع الحصص، بوصفه الطريق الذي يحدد وجهة الوصول.
الدرس الآخر الذي لابد من استذكاره في هذا النقاش هو الحاجة للوحدة الوطنية وللدروس الكبيرة التي يمكن تعلمها من هذا الدور الريادي للجبهة في هذه المسيرة العظيمة.
وهي دروس لابد من أن تتذكرها حركة حماس تحديداً حيث يبدو الخلاف لا الوحدة هو سيد الموقف الآن داخل الساحة الفلسطينية.
فالجبهة الشعبية حين كانت التنظيم الثاني في الساحة الفلسطينية وكان لديها ما لديها من قدرات وعتاد ونفوذ وعلاقات لم تسع يوماً لهدم المعبد، بل كانت حتى وإن احتجت وجمدت عضويتها في مؤسسات منظمة التحرير، تسعى للحفاظ على هذا الشيء المقدس الذي جُبل بدماء الشهداء، كما لم تنقض على المؤسسات بالسلاح ولا استعانت بقوى خارجية.
بالطبع الخلاف سمة البشر وديدن العقول النشطة والقلوب القلقة على المستقبل، وأظن أنه ضروري في الساحة الفلسطينية، لكن ونحن نحتفل بانطلاقة الجبهة الشعبية السابعة والأربعين لابد من التذكير بضوابط الخلاف وحدوده، والمدى الذي يمكن الوصول إليه حتى حين يكون الخلاف بين تنظيمين كبيرين.
في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية يظل السؤال حول فرص نهوض اليسار الفلسطيني كقوة فاعلة في المشهد السياسي والنضالي، وعودة دوره الكبير، ذلك الدور الذي كان في لحظة تاريخية فيصلاً في التقرير في الكثير من القضايا الوطنية.
اليسار كقوة اجتماعية وثقافية في ظل تراجع الوعي وتلوثه ودخول مكونات غريبة عليه، يبدو ضرورة وطنية، كما بوصفه قوة سياسية قادرة على أن تقوم بدور تغييري كبير في الحقل السياسي وفي توجهات النظام السياسي.
لا يقتصر بالطبع السؤال حول دور اليسار المستقبلي على الجبهة الشعبية وحدها وإن كانت هي قلب اليسار وبوصلته، ولكن أيضاً على مجمل التنظيمات الفلسطينية اليسارية، كما على اليسار العربي الذي أيضاً بات يعاني منذ عقود من أزمات متتالية أخرجته من فاعلية المشهد، وربما دوره غير المنجز في الربيع العربي خير مثال على ذلك.
إن نهضة اليسار مرة أخرى كقوة سياسية واجتماعية وثقافية فاعلة هي ضمانة من ضمانات استعادة المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لعافيته، وإن مهمة كبرى في ذلك تقع على عاتق الجبهة الشعبية قائدة اليسار وصاحبة البصمة الأهم فيه، وما لم يتم إجراء مراجعات شاملة حول هذا الدور وماهيته وأدواته وسبل إنجازه فإن أي حديث عنه سيكون مجرد حديث صالونات.
تبقى ملاحظة مؤلمة في هذا النقاش هي أن غزة لا يوجد بها شارع على اسم حكيم الثورة الفلسطينية وأحد أبرز قادة التحرر الوطني الفلسطيني جورج حبش، في مفارقة مؤلمة أن غزة مدينة الوطنية الفلسطينية لا يخلد فيها جورج حبش بشارع أو مدرسة كما لم يخلد زعيم الشعب الفلسطيني ياسر عرفات أيضاً إلا في قلوب محبيه وعشاقه وجنوده.

انشر المقال على: