تيسيـر السبــول
إنحنـى.. وظلَّـت مشـاغِلـُه
بسـام الهلسـه
} طائرٌ غنّى قليلاً ..
فوق غصنٍ، ثم طارْ
قلتُ: هذا طائر العمرِ
إلى الأفق إستدارْ
للمدى الأرحبِ، قد إسلم جِنحيه، ونهباً للمدى
سوف يغدو ..
وَيْ لَعُمْرٍ، هو كالثوب المُعار!{
(من ترجمة "تيسير السبول" لرباعيات "عمر الخيام")
لا أذكر تماماً متى إلتقيته أول مرة.. ربما في بدايات العام 1973م.
كان ذلك في مكتب الشاعر "عز الدين المناصرة" في مبنى الإذاعة الاردنية، عندما دخل تيسير السبول، وقدمني له المناصرة كفتى شاعر واعد!
رمقني تيسير بنظرة ودودة، وتناول الدفتر الذي كنت أحمله وفيه محاولاتي الشعرية الأولى, وأخذ يقلب صفحاته ليدعوني من ثم إلى مكتبه طالباً أن يحتفظ بدفتري لبعض الوقت ليختار منه ما يقدمه في برنامجه الإذاعي: "الأدب الجديد" على ما أذكر.
عندما زرته في المرة الثانية, أعاد لي الدفتر وقد وشّاه بتعليقات وملاحظات مكثفة على عدد من القصائد, إن جاز لي تسميتها كذلك..
وربما ما زال هذا الدفتر موجوداً لدي، إذ إحتفظت به أُمي بين ما إحتفظت به من أشيائي القديمة, بعدما غادرت الأردن للدراسة الجامعية في خريف 1974م، لأعود إليها في أواخر سنوات القرن الماضي.
* * *
فيما بعد، إلتقيت تيسير (أبا عُتبَة) في لقائين خاطفين كتعليقاته. وقد بدا لي حيوياً، لمَّاحاً، يفيض حماسة, على تباين مع الصورة التي إرتسمت في ذهني عنه عند قراءتي لديوانه "أحزان صحراوية"، الغنائي الرومانسي الحزين، ولروايته "أنت منذ اليوم" المتوترة الساخطة التي كتبها غداة هزيمة حزيران 1967م المذهلة، والتي تركت فيَّ إنطباعاً قوياً إستحضرته في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معي المخرجة "ربى عطية" قبل سنوات ضمن برنامجها: "مئة كتاب في القرن العشرين" الذي بثه التلفزيون الأردني.
* * *
بناءً على الصور والإنطباعات التي كوّنتها عنه، ذهلتُ حينما سمعت بنبأ إختياره الرحيل ضحى يومٍ عَمَّاني خريفي في الخامس عشر من تشرين ثاني- نوفمبر- 1973.
بدا لي إنتحارُه مُحيِّراً, ولم أستوعبه، رغم ما قرأته وسمعته عنه، مما كتبه وقاله أصدقاؤه وعارفوه المقربون.
لكنني إحتفظت بتفهم وتقدير له، عبرت عنه في مقالة كتبتها في أواسط السبعينيات الماضية ونشرتها جريدة "الوطن" الكويتية، وكذلك في الندوة الإستعادية التي كُرِّست لذكراه السادسة عشرة (في خريف 1989) وأقيمت في مقر "الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين" بدمشق، وتحدثت فيها إلى جانب الصديقين الراحلين: "غالب هلسا" و"فواز عيد".
في كلمتي في الندوة، التي وسمتها بـ"محنة الوجود المنتهب والذات المُضَيَّعة"، سعيتُ لتقديم مقاربة لما فهمت أنه "تيسير السبول". أقول: "مقاربة"، لإعتقادي بأن الإنتحار يظل إختياراً شخصياً شديد الخصوصية، إستثنائياً وخارقاً للعادة، يصعب كثيراً إعطاء رأي قطعي بشأنه, وبخاصة، عندما يتعلق الأمر بشخصيةٍ مركَّبة متعددة الحضور مثل تيسير.
فهمتُ إنتحاره الذي حدث مباشرة بعد وقف إطلاق النار في حرب "رمضان" (تشرين الأول- اُكتوبر- 1973) العربية- (الإسرائيلية)، كفعلٍ إحتجاجي عنيف لمثقفٍ عربي مرهفٍ متوتر، شغله منذ بواكير وعيهِ، الوجود والمصير العربي, وعاينه بحساسية عالية كوجود مُنتَهبٍ، مُهانٍ مُبدّد، يسحقه غزاةٌ طامعون وطغاة قامعون.
مثقف إمتلأت روحه شوقاً لرؤية قيامة وخلاص اُمته, وتطلع مثلها لدور كبير ينهض به, وهو ما يمكن تتبّعه وإستقراؤه في حياة تيسير وفي كتاباته الأدبية والفكرية.
ومع خيبة آماله وتبددها؛ فقد تكثَّف الشعور بالفجيعة والإنكسار لدى "العربي الغريب"(إسم الشخصية المحورية في روايته "أنت منذ اليوم"). وإذ لم يكن لديه أيّما عزاء, وكانت الطريقة الإحتجاجية الدامية التي إقترحها الأديب الياباني "يوكيو ميشيما" ماثلة أمامه، فقد تناول تيسير المسدس، وضغط على الزناد مصوباً إلى الرأس، لينحني ويصمت إلى الأبد, فيمــا ظلت كتــابــاتــه -وإنشغـالاته- قـائمـة حيَّـة علـى جـدول أعمـال المعنييـن.
وربمــا بــإلحــاح أكبــر..