الجمعة 31-01-2025

ما مِنْ عاقل يرمي نفسه في الحريق

×

رسالة الخطأ

سعود قبيلات

ما مِنْ عاقل يرمي نفسه في الحريق
سعود قبيلات

.يثير قلق كلّ إنسان مخلص لهذا البلد، السياق الذي بدأ يوضع فيه، مؤخّراً، الموقف الأردنيّ من الصراع الدمويّ الدائر في سوريَّة. حيث رأينا، خلال الأيَّام الماضية، عدداً مِنْ وزراء دفاع الدول المتورِّطة في هذا الصراع يتوافدون، تباعاً، إلى عمَّان؛ وفي الوقت نفسه، ارتفع نعيب الغربان المحرِّضة على توتير الأجواء بين الأردن وبين سوريَّة إلى حدّ الدفع الصريح باتِّجاه إشعال حربٍ مكشوفة بين البلدين الشقيقين.
لقد بلع جماعة أردوغان إهانة إسقاط طائرتهم في أجواء سوريَّة، وتجنَّبوا، حتَّى الآن، الانزلاق إلى حربٍ مباشرة معها.. لمعرفتهم بفداحة عواقبها وتداعياتها؛ لذلك، راحت القوى الدوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، المؤيِّدة للحرب، تتكالب على الأردن لدفعه إلى الخوض في المستنقع السوريّ، بالوكالة عنها. ومعروف أنَّ هذه القوى، جميعها، لا يهمّها الأردن ولا جيشه ولا شعبه، كما لا تهمّها سوريَّة وشعبها وجيشها؛ ولديها كلّ الاستعداد للتضحية بالجميع مِنْ أجل تحقيق أهدافها الأنانيَّة المشبوهة.
إذا اشتعلت الحرب بين سوريَّة وبين أيّ دولة من الدول، قريبة أم بعيدة، فستتحوَّل سريعاً إلى حرب إقليميَّة مدمِّرة.. هذا في أقلّ الاحتمالات سوءاً؛ أمَّا أسوأها، فهو الحرب الدوليَّة. وستضطرّ "إسرائيل"، في مرحلة ما مِنْ مراحل الحرب، إلى دخولها كطرف مباشر. وعندئذٍ، بغضّ النظر عن أيّ شيء، من المحرج لأيّ طرف عربيّ أنْ يجد نفسه معها في خندق واحدٍ (فعليّاً، وليس موضوعيّاً فقط). وفي النهاية، فإنَّ حجم الدمار والويلات والخسائر، التي ستخلّفها الحرب، سيكون فوق كلّ تقديرٍ وتصوّر. ثمَّ أنَّه من المتوقَّع لصراعٍ كهذا أنْ ينتهي بإعادة رسم خرائط المنطقة على نحوٍ سيغيِّر ملامحها تماماً. وأخشى أنْ نكون من الدول التي ستطالها هذه العمليَّة.
فما هي مصلحة بلدنا في التورّط في مثل هذه المغامرة الخطيرة التي لا يمكن التكهّن بعواقبها واحتمالاتها؟
هناك أوساط تحاول إقناع النظام بأنَّ الدخول في صراعٍ مكشوف مع سوريَّة سيوفِّر عليه كلفة الإصلاح الباهظة؛ بل إنَّ السفير الأميركيّ أعلن، مؤخّراً، أنَّ الاصلاحات التي أُجريتْ في الأردن، حتَّى الآن، كافية. وقد تزامن ذلك مع المؤشِّرات المقلقة لاحتمال توريط البلاد في المستنقع السوريّ. كما أنَّ "الإسلاميين" قلَّصوا أنشطتهم المطالبة بالإصلاح وخفَّفوا لهجتهم تجاه النظام، في هذه الفترة نفسها؛ ويمكن فهم ذلك بسهولة، فسقوط سوريَّة، معناه أيلولة الوضع في الأردن إليهم بسهولة.
لكن الحرب ليست لعبة؛ فأنت إذا اتَّخذتَ قرار بدئها لن تكون مَنْ يقرِّر نهايتها ونتائجها. وفي هذه الأثناء، ستقع ويلاتٌ كثيرة وتُسفك دماء غزيرة؛ فمن الذي سيتحمَّل مسؤوليَّتها؟
أنا مِنْ قرية كان قسم كبير مِنْ أبنائها جنوداً وضبّاطاً في جيشنا العربيّ (الأردنيّ)؛ وكنتُ، في مطلع شبابي، أتباهى بلبس الشماغ والبسطار والفِلدة، التي كان يهديني إيَّاها أقربائي الجنود. لذلك، فإنَّ مِنْ أشدّ الذكريات التصاقاً بأغوار نفسي، المشاهد المؤثِّرة لأهالي الجنود القلقين على أبنائهم، كلّما وقع اشتباك مع العدوّ أو اندلعتْ حرب. كان ذلك في الصراع مع العدوّ العدوّ. لكنَّنا، مع الأسف، جرَّبنا، أيضاً، مرارة الصراع بين الأخوة والأشقّاء؛ بالمعنى الحرفيّ لهذه الكلمات؛ ففي أيلول السبعين، قاتل شقيقان مِنْ أقربائي في موقعين متواجهين (فعليّاً وليس مجازاً). وقد جُرح أحدهما في ذلك القتال المؤسف؛ ليس مهمّاً أيّهما؛ الجنديّ أم الفدائيّ؛ وليس مهمّاً مَنْ كان منهما على حقّ ومَنْ كان على خطأ؛ المهمّ أنَّ احدهما كان من الممكن أنْ يقتل الآخر.
والآن، يريد البعض أنْ يدفعنا إلى جحيم صراع الأشقّاء، مجدَّداً. وهؤلاء، بالطبع، لن يرموا أنفسهم أو أبناءهم في أتون الحرب، ولن تشغل بالهم الكوارث والنكبات التي ستلمّ بالناس والبلاد بسببها؛ وسيكتفون، في أثناء ذلك، بإطلاق صيحات التشجيع والتحريض المنافقة، مِنْ بعيد، وهم يأملون أنْ ينالوا، في النهاية، قسطاً، حتَّى لو تافهاً، مِنْ ثمار الدم المسفوح على مذبح أطماعهم وأحقادهم.

انشر المقال على: