تجاوز الموقف الملتبس من العلمانية أحد مداخل تجديد الفكر القومي
بقلم الدكتور ماهر الشريف
تنطلق هذه الورقة، التي تندرج في حقل تاريخ الأفكار، من افتراض يزعم أن المعبّرين عن الفكر القومي العربي قد أخفقوا، بوجه عام، في التعامل مع المسألة الدينية في مجتمعاتنا العربية؛ أما السبب في هذا الإخفاق فيعود إلى التباس علاقتهم بالعلمانية وتقاعسهم عن توفير شروط استكمال الثورة الثقافية في مجال فهم الدين التي أطلقها رواد الإصلاح الديني، الأمر الذي ساهم في تهيئة الأرضية لانتعاش التيارات النكوصية.
ولتزكية هذا الافتراض، تعود الورقة إلى خطاب الإصلاح الديني وتحاول أن تُظهر طبيعته " العلمانية "، ثم تنتقل إلى استعراض العوامل التي أدّت إلى غروب هذا التيار وخطابه وساعدت على بروز الخطاب الديني " الإيديولوجي" الذي عبّر، بتلاوينه المختلفة، عن قطيعة مع خطاب الإصلاح الديني ومثّل مظهراً من مظاهر انتكاسة التنوير. وبعد أن تبيّن الورقة كيف أن الفكر القومي العربي، لدى ظهوره، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلمانية، تتوقف عند بعض الثغرات في بنيان هذا الفكر التي ساعدت، فيما بعد، على التباس علاقته بالعلمانية، لتنتهي إلى استخلاص مفاده أن تجديد الفكر القومي العربي يتطلب اليوم إعادة إبراز الطابع العلماني لهذا الفكر
.
وأبدأ عرضي هذا بالإشارة إلى أنه بخلاف موقفين اثنين، يرى أولهما أن العلمانية لم تترّسخ في المجتمعات العربية لأن الإسلام يختلف عن الأديان الأخرى في أنه " دين ودنيا "، كما يزعم أنصار الجماعات الإسلامية، ويرى ثانيهما أنها لم تترّسخ لأن الإسلام هو، من حيث " جوهره "، دين لا يتوافق مع الحداثة ومبادئها، كما يدّعي بعض المستشرقين الغربيين، اعتبر، من جهتي، أن العلمانية لم تترّسخ في مجتمعاتنا العربية لأنها لم تشهد استكمال الثورة الثقافية في مجال فهم الدين التي أطلقها رواد الإصلاح الديني.
والعلمانية التي أعنيها هنا ليست عقيدة، ولا يجمعها جامع بمعاداة الدين، بل هي مبادئ لتنظيم مجتمع ودولة حديثين، يأتي في مقدمها إحلال مفهوم الفرد المواطن محل مفهوم الرعية، واعتبار أن السلطة مدنية وتنبع من الشعب، وأن العلاقة بين الإنسان وربه هي علاقة شخصية لا تحتاج إلى رقيب ولا وسيط، والابتعاد عن التكفير، وضمان استقلال الإرادة وحرية البحث والتفكير في كل المسائل، بما فيها المسائل الدينية.
وأزعم أن رواد الإصلاح الديني، الذين شكّلوا جزءاً من الانتلجنسيا الحديثة الناشئة ومن حركة التنوير بأسس الحداثة المجتمعية وسبل بلوغها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قد تبنّوا هذه المبادئ العلمانية وروّجوا لها، حتى وإن لم يلجأوا بصورة صريحة إلى المصطلح.
من الصحيح أن أولئك الرواد قد أكدوا ضرورة احترام تنوع تقاليد الأمم وثقافاتها في إطار وحدة النوع الإنساني، ورفضوا التقليد الأعمى للغرب، لكنهم اعتقدوا اعتقاداً راسخاً بأن الحداثة التي برزت في الغرب قد تحوّلت مع الوقت إلى مكتسب إنساني، بل أكثر من ذلك قدّروا، من منطلق قناعتهم بمبدأ دوران الحضارة الإنسانية، أن المسلمين في عصر ازدهارهم العلمي والحضاري قد ساهموا في تجميع شروط ولادة هذه الحداثة بأوروبا.
فقد سعى الإمام محمد عبده إلى تحرير الفكر من التقليد، ورفض احتكار تفسير النص الديني من قبل فئة واحدة، ودعا إلى ضمان حرية الاعتقاد والتفكير وإلى الابتعاد عن التكفير وعن الغلو في الدين، بعد أن أرجعهما إلى الجهل بالإسلام الحقيقي، وشدّد على مدنية السلطة في الإسلام، واعتقد بالتآلف بين أتباع الديانات التوحيدية. وأشار عبد العزيز الثعالبي إلى أن القرآن يوصي بالتسامح إلى أقصى حد ممكن في الأمور الدينية، ويستنكر أي اعتداء على المعتقدات، سواء منها الفردية أو الجماعية، ويعتبر أن على الناس أن يهتدوا عن طريق الاقتناع الذاتي، حيث " لا يجوز أن تفرض عليهم الآراء، ولكن الذي ينبغي أن يوجّه اقتناعهم هو حرية الاختيار والمقارنة بين الحق والباطل حسبما يمليه عليهم التأمل وإعمال العقل". وقدّر محمد رشيد رضا، عندما كان لا يزال وفياً لأفكار أستاذه الإمام، أن نهضة المسلمين تتوقف على أمر عظيم هو الحرية الشخصية واستقلال الفكر في الموقف من جميع المسائل " بما فيها المسائل الدينية "، وأكد، بعد أن أشار إلى أنه لا يخاف على دينه من حرية البحث إلا " من لا ثقة له بدينه "، ضرورة احترام المخالفين بالرأي وإباحة شرعية الاختلاف. وحذّر عبد الرحمن الكواكبي من خطورة الخلط بين حقلي السياسة والدين ومن "الاتجار " بالدين، ودعا إلى الفصل بين وظائف السياسة والدين والتعليم منعاً لاستفحال السلطة، وإلى إلغاء الدولة الدينية، كدولة سياسية، وتحويل الخلافة، التي ينبغي أن ترجع إلى العرب، إلى رمز للرابطة الدينية، مشدداً على أهمية استبدال الاتحاد الديني ب " الاتحاد الوطني "، والوفاق المذهبي ب " الوفاق الجنسي ". وبانطلاقه من فكرة دنيوية كل أنماط السلطة السياسية، ومن مبدأ التوكيل، أكد محمد حسين النائيني، الذي ارتبط اسمه بثورة " المشروطة " في إيران، ضرورة أن تتولى الأمة سد مناطق الفراغ في التشريع، معتبراً أن النظام الدستوري هو
أنسب أنظمة الحكم.
غير أن الوعد الذي حمله الإصلاح الديني بتحقيق ثورة ثقافية في مجال فهم الدين ما لبث أن خاب بعد الحرب العالمية الأولى وما أسفرت عنه من نتائج، كان من بينها تعزيز الظاهرة الاستعمارية الغربية في بلداننا العربية، وإلغاء الخلافة الإسلامية، وانفجار أزمة اقتصادية خطيرة على مستوى العالم، وتنامي النزعات الفاشية والنازية في أوروبا. وقد ساهم ذلك كله، بالإضافة إلى الانقلاب الذي طرأ على تفكير الشيخ محمد رشيد رضا، في المرحلة الثانية من حياته، والذي جعله يتنكر لأفكار أستاذه الإصلاحية، في توليد إيديولوجية إسلامية متعصبة، دعا المعبّرون عنها إلى إحياء العادات والتقاليد الإسلامية القديمة، وإلى مقاطعة كل المؤسسات الحديثة، كما طالبوا بنبذ الفلسفة العربية الإسلامية، واحتكروا تفسير النص الديني وعارضوا اللجوء إلى تأويله ليوافق مفهوم العقل ويتماشى مع مبدأ المصلحة.
وإذا كانت هذه الإيديولوجية الإسلامية المتعصبة والمنغلقة قد أسهمت في قطع الطريق على إنجاز الإصلاح الديني وتحقيق الثورة الثقافية في مجال فهم الدين، فإن قسطاً من المسؤولية عن هذا الإخفاق يتحمّله المعبّرون عن إيديولوجية القومية العربية، الذين استخفوا بأهمية المسألة الثقافية بمفهومها الواسع، ومن ضمنها المسألة الدينية، ولم يدركوا ضرورة استكمال ما بدأه رواد حركة التنوير، علماً بأن
الأفكار القومية الأولى، التي راحت تبرز في المشرق العربي اعتباراً من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، قد ارتبطت بحركة التنوير وتشابكت فيها نزعتان حديثتان هما النزعة العلمانية، من جهة، والنزعة الديمقراطية الدستورية، من جهة ثانية.
فإذا رجعنا إلى بطرس البستاني نجد أن تشابك هاتين النزعتين في فكره هو الذي قاده إلى تبنّي الفكرة الوطنية. ففي " وطنياته "، التي نشرها في نشرة " نفير سوريا "، رداً على المصادمات الطائفية التي شهدها جبل لبنان في عام 1860، شدّد البستاني على أهمية تمتع أهل الوطن بحرياتهم، ومن ضمنها " الحرية المدنية والأدبية والدينية، ولا سيما حرية الضمير "، وطالب، بصورة صريحة، بفصل الدين عن الدولة، وذلك عبر التمييز الذي أقامه بين الأديان " التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه "، وبين المدنيات " التي هي بين الإنسان وابن وطنه "، وبينه وبين حكومته، كما دعا إلى الابتعاد عن جمع السلطتين الروحية والمدنية في يد شخص واحد، معتبراً أن الجمع بينهما " من شأنه أن يوقع خللاً بيّناً وضرراً واضحاً في الأحكام والأديان، حتى لا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه ".
وكانت النزعة العلمانية جليّة في مواقف أعضاء المؤتمر القومي العربي الأول، الذي انعقد في باريس في حزيران 1913، ولا سيما في مواقف رئيسه عبد الحميد الزهراوي، الذي ندّد، في حديث صحفي أُجري معه عشية انعقاد المؤتمر، بمحاولات استثمار العاطفة الدينية لمقاومة الإصلاح داخل الإمبراطورية العثمانية، وأشاد بفكرة الاتحاد بين المسلمين والمسيحيين وتساوي تمثيلهم في المؤتمر، معتبراً أن الرابطة الدينية " قد عجزت دائماً عن إيجاد الوحدة السياسية ".
كما كان هذا التوجه العلماني واضحاً في " قوميات " أمين الريحاني، الذي أكد ضرورة علمنة الفكر وعلمنة التعليم وعلمنة السياسة، وشدّد على أن الأمة لا يمكنها أن تصبح راقية إلا بعد أن يتمتع مواطنوها بالحرية الروحية، ويصير " مفكرو المسيحيين ومفكرو المسلمين يتباحثون في أي موضوع، دينياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً، دون أن يثير ذلك في الجمهور غبار الجهل وسموم التعصب ". ونظر الريحاني إلى تنقية الدين وتخليصه من السياسة بوصفه شرطاً جوهرياً للإصلاح الحقيقي، كما نظر إلى التحزب الديني باعتباره " حجر العثرة في سبيل الوحدة القومية "، وإلى الحكومة المؤسسة على الطائفية بوصفها " حكومة ظالمة مظلومة، كفاءتها ضائعة وعدلها مقيّد بقيود أرباب الأديان "، وأنها حكومة " بائدة، وإن طال يومها أو نومها ".
ومع أن النزعة الديمقراطية الدستورية لم تحتل مكانة واضحة في فكر ساطع الحصري، رائد إيديولوجية القومية العربية، إلا أن النزعة العلمانية كانت حاضرة بوضوح في كتاباته، حيث رفض الحصري اعتبار الدين أحد مكوّنات القومية، ورأى أن تأثير الرابطة الدينية في السياسة لا يبقى متغلباً على تأثير اللغة والتاريخ، وأن الحركة الإسلامية لم تبقَ مرتبطة بالقومية العربية، وذهب إلى حد التأكيد على أن يقظة العرب القومية قد تأخرت بسبب الدعوة إلى الوحدة الإسلامية.
غير أن علاقة القوميين العرب بالعلمانية راحت تلتبس شيئاً فشيئاً، وبخاصة بعد أن صار الإسلام السياسي يبرز كمنافس لتعبيراتهم السياسية. وقد ظهر هذا الالتباس بصورة جليّة في مواقف ميشيل عفلق، الذي اعتبر أن فهم القومية كأنها شيء مستقل عن الدين هو فهم جزئي لها؛ فالقومية – كما كتب - " ليست محصورة بالأرض كما يُظن، بعيدة كل البعد عن السماء "، حتى يُعتبر الدين "شاغلاً عنها مبذّراً لبعض ثروتها، بدلاً من اعتباره جزءاً منها مغذياً لها "؛ أما الخوف من أن تصطدم القومية بالدين فهو غير مبرر، في اعتقاده، لأن القومية مثل الدين " تنبع من معين القلب وتصدر عن إرادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة إذا كان الدين يمثّل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها ". وبهذا الخصوص، أكد عفلق أن العلاقة بين القومية والدين في الغرب تختلف عن علاقتهما في بلاد العرب، حيث أن انفصال القومية عن الدين في الغرب كان أمراً منطقياً، " لأن الدين دخل أوروبا من الخارج [و] لم ينزل بلغاتها القومية "، في حين أن الإسلام كان أمره بالنسبة إلى العرب "مختلفاً "، حيث انفرد العرب عن سائر الأمم في اقتران يقظتهم القومية " برسالة دينية "؛ والإسلام " في حقيقته الصافية نشأ عن قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها ".
ويمكن القول إن التباس علاقة القوميين العرب بالعلمانية وخلطهم بين حقل القومية وحقل الدين قد تعمق إثر الأزمة التي صار يواجهها الفكر القومي العربي في العقود الأخيرة، والتي ترافقت مع تنامي نفوذ تيار الإسلام السياسي وانتعاش الأفكار التي يحملها. ففي مواجهة هذه الأزمة، استخلص بعض المعبّرين عن الفكر القومي العربي أن نقطة الضعف الأساسية في هذا الفكر، بصورة عامة، تمثّلت في " ضعف العنصر الإسلامي فيه "، معتبراً أنه " لا يمكن تصوّر وجود العروبة بمعزل عن الإسلام "، وأنه لا بدّ للتيار القومي " من أن يتصالح مع الإسلام ويدمج المعطى الإسلامي في مفهوم العروبة ". وقد أفضى هذا الالتباس في العلاقة بالعلمانية، والذي تكرّس في ممارسات بعض الأنظمة العربية التي حكمت باسم القومية العربية، إلى بروز ما أسماه عزيز العظمة بظاهرة " تمشيخ " الدولة الوطنية.
ولكن من أين نبع هذا الخلط بين حقل القومية العربية وحقل الإسلام؟
يبدو لي أن هذا الخلط قد نبع من بعض الثغرات في بنيان الفكر القومي العربي.
ففي تعامله مع مفهوم الزمن، أعطى هذا الفكر الأولوية للماضي على حساب المستقبل، وانطلق من اعتبار القومية العربية حقيقة قائمة منذ القدم وليست ظاهرة مجتمعية لم تظهر إلا في العصر الحديث؛ فتعامل معها بوصفها إنجازاً من إنجازات الماضي وليست مشروعاً تقدمياً للمستقبل، ولم يتوقف بالتالي، كما يشير ياسين الحافظ، عند الظاهرات التي كانت تدل على غيابها، لا على حضورها، ومن أبرزها ظاهرة نقص الاندماج القومي التي كانت تتمظهر في البنى ما قبل القومية وفي أشكال التضامن التقليدي.
ومن ناحية ثانية، لم يفلح هذا الفكر في إدراك الطابع الإنساني للحداثة، وفي التمييز، على حد تعبير الحافظ نفسه، بين " غرب " و " غرب "؛ فماهى بين الحداثة ومبادئها وبين الوجه الاستعماري والاستئثاري لهذا الغرب. وهذا الموقف من الحداثة عكس نفسه على الموقف من الديمقراطية السياسية، حيث عارض القوميون العرب، لا سيما بعد وصولهم إلى السلطة، الشرعية الديمقراطية الدستورية ب " الشرعية الثورية "، أو وضعوا الديمقراطية الاجتماعية في مقابل الديمقراطية السياسية، التي نظر إليها جمال عبد الناصر، على سبيل المثال، باعتبارها ديمقراطية "مزيفة " ووصفها بأنها " ديمقراطية الواجهات الدستورية ".
ومن ناحية ثالثة، ونتيجة افتقاره إلى النزعة الإنسانية التي تضع الإنسان الفرد في مركز اهتمامها، تعامل هذا الفكر مع الحرية، وهي روح العلمانية، تعاملاً مجزوءاً، حيث ركّز على حرية الوطن على حساب حرية المواطن، ولم يستوعب حقيقة أن الأوطان القادرة على مواجهة تحديات الخارج، مهما عظمت، هي الأوطان التي تستند إلى مواطن يتمتع بحريته وكرامته.
ومن ناحية رابعة، لم يعر الفكر القومي العربي اهتماماً يُذكر لإشكالية الدولة، حيث قدّر المعبّرون عنه، استناداً إلى ثنائية التجزئة / الوحدة التي شغلت تفكيرهم، أن الدول القطرية العربية القائمة " كيانات مصطنعة "، نتجت عن التجزئة الاستعمارية وستزول سريعاً لصالح الدولة القومية الواحدة؛ وعجزوا بالتالي عن بلورة نظرية في الدولة الحديثة والأسس التي تقوم عليه.
وفي ظني، فإن أي حديث اليوم عن توليد خطاب قومي جديد لن يستقيم ما لم يتم تجاوز الثغرات التي أشرت إليها في بنيان الفكر القومي العربي، وما لم يحسم المعبّرون عن هذا الفكر موقفهم من العلمانية ومن الديمقراطية، بوصفهما وجهين لعملة واحدة هي الحداثة.
من الصحيح أن علاقة العرب بالإسلام تبقى علاقة خاصة، حيث أن كتابه الكريم قد جاء بلغتهم، وهو ما حال دون تفرع هذه اللغة إلى لغات عديدة، وأن نهضتهم القديمة قد ارتبطت بهذا الدين؛ ومن الصحيح أيضاً أن التعاون والتنسيق بين القوميين وأنصار الجماعات الإسلامية قد يكون مطلوباً، بل وضرورياً، في بعض الأحيان، ولاسيما في النضال ضد الاحتلال الأجنبي والعدوان الخارجي، إلا أن ذلك كله لا ينفي حقيقة أن الدولة الحديثة، في المجتمعات المتنوعة دينياً ومذهبياً واثنياً، لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة الديمقراطية والفصل بين المجال الروحي والمجال الدنيوي.
وسيجد الطامحون إلى بلورة هذا الخطاب القومي المتجدد في نتاجات العدد القليل من دعاة القومية العربية العلمانية والديمقراطية والمستقبلية، مثل زكي الأرسوزي وقسطنطين زريق، ما يساعدهم على إنجاز هذه المهمة.
فاعتباراً من نهاية خمسينيات القرن العشرين، راح زكي الأرسوزي يتخلى عن صورة المفكر القومي المثالي والماضوي ليبرز بوصفه مصلحاً اجتماعياً حداثياً، وصار الطابع السياسي لكتاباته يطغى، شيئاً فشيئاً، على طابعها التأملي الميتافيزيقي، وهو ما تجلّى بوضوح في المؤلفات السياسية، التي أصدرها ما بين عامي 1959 و 1964، والتي ركّزت على مسائل مرتبطة بالدولة والحكم الديمقراطي والعلمانية، كان من أهمها مؤلفه: " الجمهورية المثلى "، الذي أراده، على ما يبدو، مؤلفاً كلاسيكياُ في الدولة يكون المقابل العربي ل " جمهورية " أفلاطون، ومؤلفه:
" كيف يكون الحكم ديمقراطيا ".
فلدى بحثه عن أسباب تخلف العرب وإخفاق نهضتهم، اعتبر الأرسوزي أن هذا التخلف يتمظهر في مشاكل ملموسة يواجهها العرب، يأتي في مقدمها الطائفية وسيادة المنطق الرجعي. فمشكلة الطائفية التي ظهرت في البداية، كما قدّر، نتيجة استغلال الاستعمار الأجنبي بذور التفرقة في الدين وقيامه بإذكاء النزعات الطائفية، قد ظلت قائمة فيما بعد بسبب التغاضي عن وجود المحاكم الطائفية والمدارس الطائفية الخاصة، ورأى أن علمنة التعليم ونشره كفيلان باستئصال جذور الطائفية وضمان تحوّل المجتمع من الطائفية إلى القومية. أما الرجعية فقد عرّفها بأنها " منهج في التفكير وفي نمط المعيشة " ينزع إلى بعث الماضي وإلى المحافظة على العادات والتقاليد الموروثة، ويتبدّى، على مستوى العقلية، في ضيق الأفق والتعصب الفكريين، وعلى المستوى المجتمعي، في الكسل والخوف من المجهول، بحيث يظهر المجتمع الرجعي " كمجتمع تحمل فيه الأجيال طابع الشيوخ ". ورأى بأن استغراق العرب في التقاليد قد أدّى إلى تحوّل الثقافة العربية " إلى ثقافة منغلقة على نفسها "، قوامها " اجترار أقوال السلف ".
وربط الأرسوزي بين التخلف والاستبداد، معتبراً أن النجاح في تجاوز التخلف يتطلب ممارسة الحرية، ولا سيما الحرية السياسية والحرية الدينية. فالشعوب الأوروبية لم تحقق نهضتها، كما أكد، إلا بعد أن تحوّلت عن التعصب الطائفي وحكّمت العقل في الأهواء، وأخضعت التقاليد لنقد العقل وتمحيصه، وتبنّت الديمقراطية التي كان لها الفضل الأكبر " في تحويل الجماهير عن الطائفية ورفعها إلى مستوى الحضارة الراهنة ". أما العرب، فرغم كونهم قد بدأوا بالسياسة معتمدين على مبدأ " الأمر شورى"، إلا أنهم ما لبثوا أن تراجعوا عن هذا المبدأ وأخذ الحكم عندهم يجنح بالتدريج إلى " الزعامة الدينية "، وبعد إعلان وقف الاجتهاد لم يعد أمامهم سوى " التقيّد بآراء السلف ".
وعرّف الأرسوزي الحرية بأنها " حق المرء في أن ينظّم سلوكه حسب مشيئته، في أن يختار جميع مظاهر حياته من المهنة حتى الديانة "، بالإضافة إلى " حقه في تعيين المصير العام أيضاً "، الأمر الذي يجعل " كل امرئ سيد نفسه، يضع قانون سلوكه بنفسه وينفّذ قانوناً يكون قد عبّر عن مشيئته "، وبذلك يتحوّل المجتمع " من ملك ورعية إلى مواطنين أحرار ". وهذه الحرية تشمل، في رأيه، حرية الاعتقاد وحرية الإفصاح عن الرأي، من خلال إصدار الصحف والمجلات، وحرية الاجتماع، المتضمنة أمر تنظيم الأحزاب.
أما قسطنطين زريق، الذي لاحظ بأن نشوء القومية في الغرب كان نتيجة تضافر ثلاثة عناصر متتالية هي: نهضة لغوية وفكرية، وحركة إصلاح ديني وثورة اجتماعية ديمقراطية، وهي العناصر التي لم تتوافر عندنا، فقد أكد أن القومية لا تمثّل الهدف الأخير لأي قوم أو لأي مجتمع، بل يتمثّل الغرض الحقيقي للقوم والمجتمع في التقدم الحضاري أو بالأحرى في الرقي الحضاري. وهكذا، وبدلاً من أن يركّز جهوده على إثبات أن القومية العربية ظاهرة تاريخية مغرقة في القدم وعلى كشف وتبرير المكوّنات التي تكوّنها من لغة وتاريخ وثقافة، كما فعل غيره من المفكرين القوميين العرب، راح زريق يسلط الأضواء على العوامل المجتمعية التي تعرقل نمو الوعي القومي العربي وانتشاره، ويحث مواطنيه على العمل من أجل توفير الشروط التي تنقل المجتمعات العربية من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة وذلك كمدخل لتحقق القومية العربية.
وكانت العلمانية إحدى أبرز ركائز العمارة الفكرية التي أقامها زريق، في حقل الفكر القومي، حيث ظل التمييز بين حقل القومية العربية وحقل الإسلام اتجاهاً ثابتاً في تفكيره لم يتراجع عنه مطلقاً، علماً بأن المتتبع لأفكاره، في سياق تطورها، يلمس بأن دعوته إلى علمنة القومية العربية والدولة العربية قد أصبحت أكثر جذرية في العقود الأخيرة.
ففي كتابه: نحن والمستقبل، الصادر عام 1977، اعتبر أن الدين قد يكون عنصراً من العناصر التي توحّد الشعوب، لكنه ليس العنصر الحاسم أو الكافي لتعيين قوميتها، مؤكداً بأن تطور القومية قد ارتبط دوماً بالعلمنة، وأن القومية العربية سوف تتعثر وتعجز عن أن تكون أداة لتكوين أمة وتطويرها إن لم تنجح في " أن تتعلمن، مفهوماً وتطبيقاً "، وتضمن " المساواة المبدئية، الحقوقية والعملية الواقعية، لجميع أبناء المجتمع العربي على اختلاف طوائفهم ومللهم " (نحن والمستقبل، بيروت، دار العلم للملايين، 1980، الطبعة الثانية، ص 224-225). وعاد في مطلع ثمانينات القرن العشرين إلى الموضوع نفسه، حيث دعا، في كتابه: مطالب المستقبل العربي، الصادر عام 1983، إلى القيام بتحديد واضح للعلاقة بين العروبة والإسلام، معتبراً بأن أهم الالتباسات والتداخلات، التي قامت في الماضي في الحياة العربية، هو الالتباس بين المفهوم القومي والمفهوم الإسلامي.
وفي سنوات عمره الأخيرة، وإزاء ما سمي ب " الصحوة الإسلامية "، التي ترافقت مع أزمة العقائد القومية واليسارية، صار زريق يعبّر عن تخوفه من تعمق هذا الالتباس والتداخل بين المفهوم القومي والمفهوم الإسلامي، ويشدد على أهمية فصل الدين عن الدولة. ففي الحوار الشامل الذي أجراه معه محمود سويد، في عام 1996، رأى بأن هذا الفصل معناه " ألا يأخذ الدين مكان الدولة ولا الدولة مكان الدين، وأن يعود الدين إلى أصالته منبعاً للفضائل الروحية والقيم الخلقية التي بها يصلح الإنسان وينتظم المجتمع والدولة " (العروبة وفلسطين، حوار شامل مع قسطنطين زريق، أجراه محمود سويد، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996، ص 38-42).
وقبل رحيله بعامين تقريباً، توقف زريق، في كتابه: ما العمل؟ حديث إلى الأجيال العربية الطالعة، أمام ظاهرة نمو وامتداد الحركات الأصولية الإسلامية، حيث أرجع هذه الظاهرة إلى " طول المعاناة التي خبرتها المجتمعات العربية من هجمات الخارج وعلل الداخل وعجز الحركات القومية واليسارية إزاءها "، بحيث تحوّلت المرجعية الدينية – كما تابع - " إلى ملجأ للعقول المضطربة والنفوس الزائغة، يمدّها بعقائد مطلقة ثابتة ويحررها من عقد البلبلة واليأس ". وبعد أن لاحظ بأن انتشار الأصولية الدينية لم يقتصر على الأوساط الشعبية المحرومة، بل سرى أيضاً " إلى النخب المتعلمة المتطورة التي ضاعت بضياع العقائد البشرية التي كانت تؤمن بها "، توقع بأن تتراجع هذه الأصولية الدينية في المستقبل لأنها لم ترتفع " إلى مستوى العقلانية المطلوبة في هذا العصر "، و " لقصور أصحابها عن التمييز بين المطلق والزمني وبين الجوهر والعرض " (ما العمل؟ حديث إلى الأجيال العربية الطالعة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 50-52).
وأود أن أنهي هذه الورقة باستخلاصين اثنين:
الأول هو أن خطاب الإصلاح الديني التنويري، الذي عظّم شأن الحرية الفردية وأشاع صورة لإسلام عقلاني ومتسامح، منفتح على متطلبات الحداثة ومندرج في زمانية العالم، قد أثبت أن الإسلام دين يتعايش مع العلمانية.
والثاني هو أنه قد يكون في وسع خطاب قومي عربي علماني، متحرر من أسر الماضي ومتطبع بطابع إنساني وديمقراطي، أن يساهم في استئناف مسيرة حركة النهضة والتنوير وفي إخراج العرب من " أزمة الآفاق المسدودة " التي يواجهونها، بما يضعهم ، من جديد، على سكة التقدم ومواكبة العصر.