الأربعاء 27-11-2024

فلسطينُ في عمقِها القوميّ: مراجعةٌ ونقدٌ ومستقبل

×

رسالة الخطأ

د. وسام الفقعاوي

فلسطينُ في عمقِها القوميّ: مراجعةٌ ونقدٌ ومستقبل

د. وسام الفقعاوي

الإثنين 16 يناير 2023 | 08:36 ص

نشر في العدد (45) من مجلة الهدف الرقمية

من نافل القول: إنّ مضمون مفهوم العلاقة بين المسألتين؛ الوطنيّة والقوميّة، تبدّل جذريًّا من مرحلة الربط الثوريّ بينهما إلى مرحلة الفكّ الرسميّ والعمليّ، بمعنى فكّ مصلحةِ قضيّةِ الحريّة، عن مصلحةِ قضيّةِ فلسطين التي هي مصلحةُ قضيّةِ حريّةِ كلّ العرب وليس فلسطين فحسب، وحصل هذا سواءً بفعل دورٍ وظيفيٍّ مرسومٍ، أدّى دوره بكفاءة، قام به البعض متوسّلًا شعاراتٍ وطنيّة، أو بفعل "انتهازيّةٍ وطنيّة" عند بعضٍ آخر؛ تفشّت قطريّة ضيّقة؛ فالديناميّة الانتهازيّة إن انطلقت تبقى تضيق حلقاتها لتصل في مرحلةٍ من إعلاء مصلحة التنظيم والجماعة، وفي مرحلةٍ تاليةٍ تصبح مصلحة الفرد على حساب مصلحة التنظيم/الجماعة، وترتيبًا على ذلك، ليس من المبالغة القول: إنّ الخيانة الوطنيّة هي حصيلةٌ تراكميّةٌ انحداريّةٌ للانتهازيّة؛ صغيرةٌ وطبيعيّةٌ كانت أم جرى خلقها وتحفيزها.
تماسك معسكر الأعداء: تفكّك معسكر الأصدقاء!
ثمّةَ ما يكفي من وثائقَ منشورةٍ عن المخطّط البريطانيّ الاستعماري منذ 1840 لإقامةِ دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطين كما جاء في مقالات وزير الخارجيّة بالمرستون، حينذاك، وتعهّدات هرتزل وسواه أن تكون القاعدة اليهودية خندقًا متقدّمًا لحماية المصالح البريطانيّة في الشرق وحراسة قناة السويس، وحثّت بريطانيا الخطى في دعم المشروع الصهيوني مطلع القرن العشرين من سايكس بيكو مرورًا بوعد بلفور وصولًا لإنشاء دولة الكيان عام 1948.
لقد استطاعت الحركةُ الصهيونيّةُ أن تنسج أقوى وأوثق العلاقات، بل تحالفات استراتيجيّة مع القوى الاستعماريّة، حيث لم تترّد الولايات المتّحدة منذ عام 1942 (مؤتمر بلتيمور) على الأقل من الدعوة إلى إنشاء "كومنولث يهوديّ" في فلسطين، ولا تتردّد عن تكرار قول: (إنّ إسرائيلَ مصلحةٌ استراتيجيّةٌ أمريكيّةٌ وجوهرةُ حمايةِ أمنِها الذي يصب في الأمن القومي الأمريكي)، وصولًا لقول جو بايدن مؤخرًا: (لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها)؛ فكما كتب المفكّر اليهوديّ اليساريّ مكسيم رودنسون: إن إسرائيل واقعٌ استعماريٌّ تزامن وكان جزءًا بنيويًّا من المشروع الاستعماري الغربي.
وعليه؛ لا يمكن الحديث عن "إسرائيل" إلا كونها تجسيدًا ماديًّا للصهيونيّة، في إطار التحالف الاستراتيجي مع المخطّطات الاستعماريّة – الإمبرياليّة التي دخلت حقبة العولمة منذ انهيار حقبة القطبين، حيث غدا الرأسمال الإسرائيلي – الصهيوني؛ مكوّنًا مهمًّا من مكوّنات العولمة الرأسماليّة والصهيونيّة وجزءًا لا يتجزّأ من النظام الرأسمالي الاحتكاري الحاكم (بحزبيه) في الولايات المتّحدة الأمريكيّة... أي إنها جزءٌ وما هو أكثر من تحالف!
لقد أدرك جمال عبد الناصر منذ زمنٍ مبكّرٍ نسبيًّا أنّه لا يحارب العدوّ الإسرائيليّ فقط، بل والأمريكي أيضًا، وهو إدراكٌ يحملُ في مضمونه، طبيعة المخطّطات ومن ثَمَّ الاستهداف لعموم الوطن العربي، من بوّابة السيطرة على الجغرافيا الفلسطينيّة... ففلسطين جزءٌ من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزءٌ من الأمّة العربيّة، وكان ثمّةَ تواصل وهجرات وحراك بين شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام وبلاد النهرين ووادي النيل، منذ ما يزيد عن أربعة إلى خمسة آلاف عام، وقد تعاظم التواصل والهجرة والتبادل في العهود الإغريقيّة والرومانيّة وما تبعها، وصولًا للفتح الإسلامي، حيث توحّد هذا الإقليم لغةً (ودينًا بقدرٍ كبير)، وتوسّع في شمال إفريقيا وذهب إلى أقاصي الشرق ( إيران – الباكستان وأقاليم هندية...). أما على صعيد اللغة وجذور القبائل والتواصل والهجرات والامتدادات فهي تتكثف أكثر ما تتكثف في المشرق العربي ووادي النيل ولاحقًا شمال إفريقيا... ومن هنا أصبحت تتشكل أركان القوميّة العربيّة (لغة، جغرافية، ثقافة وعادات، سوق...)، وكان يمكن أن تتطور هذه السوق الإقطاعيّة الراكدة إلى سوق رأسماليّة نشطة وسلطة مركزية واحدة، وما يترتب على ذلك من عملة واحدة وجيش واحد، ومن ثَمَّ أمن واحد؛ لولا المرحلة العثمانيّة التي احتلت البلاد العربيّة وشلّت تطوّرها أربعة قرون متواصلة؛ تلاها المشروع الغربي والرأسمالي الذي استعمر العرب وقسّم وطنهم، وزرع في قلبه الكيان الصهيوني.
لقد كان التاريخ العربي القريب بمجراه العام؛ فلسطينيًّا بامتياز، وإذا كانت إسرائيل قد احتلّت فلسطين عام 1948، فإنّ فلسطين بدورها ومنذ ذلك التاريخ -على الأقل- احتلّت الحياة السياسيّة العربيّة، وإذا كان "المشروع" القومي العربي ومن ضمنه النضال الفلسطيني سعى لتحرير فلسطين، فإن المشروع المعادي كان يسعى إلى تحرير المنطقة العربية ككل، وليس حياتها السياسية فقط من فلسطين، حيث جسدت قضية فلسطين "صاعق التفجير أو التثوير" في الواقع العربي، وفي الوقت الذي كانت سببًا في وصول أنظمة إلى سدة الحكم، كانت سببًا في سقوط أخرى، ومثلت بالنسبة للجماهير العربية؛ قضية القضايا ومحركة ميادين عواصمها، وكان لا بد من سحب هذا الصاعق وإحباط عملية التثوير، وهذا على ما يبدو اضطلعت في جزء كبير منه القيادة الرسمية الفلسطينية؛ من خلال عزل/فصل القضية الفلسطينية عن جماهيرها العربية، وجعلها في عهدة الأنظمة الرسمية، تحت شعارات: الكيانية الفلسطينية، والقرار الوطني المستقل، ويا وحدنا، وصولًا لعدم التدخل في الشؤون العربية، حيث تبدل مضمون العلاقة بين المسألتين القومية والوطنية؛ بعد أن كانت "القاعدة" أن مصلحة القضية الفلسطينية هي في ثورة عربية شاملة، والأدهى أن دينامية عملية العزل/الفصل لم تقف عند حدود المسألة الوطنية الفلسطينية وعمقها الشعبي العربي، بل طال عزل/فصل الفلسطينيين عن قضيتهم، ووضعها في يد نخبة التسوية المستمرة حلقاتها هبوطًا.
تصويب مع العدو على ذات الهدف؟!
لم ينحسر العمق العربي للصراع ولن ينحسر؛ موضوعيًا، بل كان هناك دورًا وظيفيًا وما يزال مستمرًا يستهدف هذا العمق. وإذ أقول أنه "لم ولن ينحسر"، فيعود أيضًا إلى خلفية أنه ليس بالضرورة أن يكون "العمق" و "الصلة" ايجابيين؛ فقد يكونا سلبيين، لناحية أن بؤس حال الداخل – العمق العربي، لا بد وأن ينعكس بنفس الدرجة ونوعها على الوضع الفلسطيني، والعكس صحيح في حال كان الداخل – العمق العربي ايجابيًا. إن عدم الدعم – التخلي هو بحد ذاته؛ تأكيد موضوعي، ولكن سلبي، للعمق – البعد العربي للصراع، وهنا تبرز أزمة القوى التي طالما طرحت نفسها كامتداد للبعد القومي للقضية الفلسطينية، حيث كانت المفارقة أنَّ تراجع الاهتمام "قوميًا"، لم يترافق مع الارتداد "قطريًا" فقط، بل مع الانفلاش "أمميًا" أيضًا. لعلها كانت مناسبة لفحص المراوحة الفكرية والسياسية الفلسطينية بين الحدين "الأقصى و "الأقصى"، دون اكتراث "بالوسط"! فهل يُعقل اكتشاف أهمية "البعيد" ونسيان "القريب"؟!
دون إغفال أو تغافل عن أزمة الحركة القومية العربية عامة، سواء قبل هزيمة عام 1967، لأسباب ذاتية وموضوعية، وتعمقها بعد وقوع الهزيمة، لكن في كل الأحوال كان المشروع المعادي؛ أكثر من وعى خطورة وجود مشروع قومي موحد؛ يعمل على توحيد الجغرافيا والسوق العربية، ومن ثم، في مواجهته له والدعوة للتحرير والاستقلال والوحدة.
لكن، وبموضوعية شديدة، وسواء كان هناك وعي لما حصل أم لا، فإن أسوأ ما حصل هو "التقاطع" الذي جرى بين قوى "يسارية" و "ثورية" مع المشروع الصهيوني الإمبريالي – الرجعي لضرب المشروع القومي، كما مثلته الناصرية حينذاك. فلا ريب بأن الانقضاض على المشروع القومي العربي من موقع "اليسار"، كان إطلاقًا للنار على نفس الهدف في توقيت متزامن مع الانقضاض عليه من قبل الصهيونية والإمبريالية والرجعية. وترتيبًا عليه؛ فإن الانكفاء اليساري عن المشروع القومي العربي كان ردة فعل على فشله في حرب 1967 التي شُنت أصلًا لتحطيمه، واستطرادًا؛ كان الانكفاء، موضوعيًا؛ استكمالًا للتحطيم. ما حدث في سنة 1967، لم يكن مراجعة في العمق أو السطح حتى، كما قال أو رأى البعض، بل ردة فعل مذعورة، وفرار من المركب الغارق، بل المُغرق لحسناته، في حين أننا لم نرَّ، لضيق أفقنا واستعجالنا، إلا سيئاته. لقد حَرَمَ الهروب – الفرار؛ التجربة من قراءة تستخرج الدروس الواجبة، وهي أن المشروع القومي لم يكن خطأً، بل ناقصًا. ويبقى السؤال: ناقصًا ماذا؟ هل كان بحاجة لمزيد من القومية؟ أم الاشتراكية؟ أم الحرية؟ أم الديمقراطية؟ أم الحداثة... الخ؟
للأسف هذه الأسئلة غابت، وهذا إن دل فإنما يدل على عدم تشكّل رؤية نظرية ولا حتى فكرًا سياسيًا، لا بالنسبة لما مضى من "قومي" ولا بالنسبة للآتي من يساري، وهذا تفسير لذاك الانتقال المُتسرع – المذعور والذي وصل حد المس بالطابع الوطني للصراع، لناحية أن "إسرائيل" تستهدف كامل الوطن، لصالح "رؤية طبقية" وصلت حد إخراج "البرجوازية الصغيرة" من صف الوطنيين، والحصيلة: خروج اليسار من صف الشعب إلى صف طبقة موهومة لم تتبلور أو تنضج بعد. لقد مورس خطآن كبيران، الأول: التخلي عن الماضي دون درس كافٍ. والثاني: القفز إلى المستقبل دون تبصر واجب.
والنتيجة: نَسيَّ القوميون العرب مشيّة غراب القومية، ولم يتعلموا سيّر حجل يسار بدأ يصير كسيحًا، بعد أن بات الفكر رسميًا، ويُصنّع في "مركزه"، بمجافاة للواقع، وهنا ضاعت نكسة 1967، كما بُددت نكبة 1948، من أن تكون فرصة للبحث المُعمق.
أين الخلاص؟ أو من أين نبدأ؟
الخلاص ليس وصفة جاهزة، كما أن البداية ليست مع التنظير، بل ممارسة التنظير، وتلك لا يمكن أن تكون دون التشخيص السليم والدقيق للشيء الكبير الذي حصل وجرى وبات واقعًا مترسخًا.. وعلى ذلك؛ فالمسألة هنا تتجاوز إعادة اعتبار فلسطين لعمقها القومي العربي، أي وضع صاعق التفجير/التثوير في مكانه الصحيح فحسب، بل الخلاص والبداية مع إعادة الاعتبار لكل شيء. نعم كل شيء؛ فالصواب وحدة لا تتجزأ.
قد نكون بحاجة لنبسط الأمور كثيرًا ونسهلّها تمامًا، والمعادلة أن لا قومية ولا وطنية ولا حزبية ففردية؛ دون أن نقلب المعادلة، لتصبح: فردية وحزبية ووطنية فقومية، فهذه منظومة متكاملة، وتحتاج لمعالجة شاملة، تبدأ من كل مكون/حجر لبناء الجدار القوي - العام الذي لا وجود له خارج الخاص. هنا يكون الفرد/الإنسان المُمتلك لذاته وقضيته والحافظ لروحه النقية، وكذلك حزبه الذي هو وسيلة وليس هدفًا؛ السليم في رؤيته ودوره ووظيفته، والذي بدوره سيضبط الوطني الفلسطيني، وعندها سيصنع القومي العربي، أي سيصنع حقيقة وجوهر الصراع وسيضعنا في قلب بوصلته.

انشر المقال على: