كباسيل عمر نزال توثيق متسلسل زمنياً لإسقاط الأسرى لسياسات قتل إنسانيتهم بالتواصل البيني والخارجي
خالد الفقيه
بوابة الهدف الإخبارية
تابع الإعلامي والأسير المحرر عمر نزال في دراسته البحثية الرصينة الصادرة عن دار طباق للنشر والتوزيع والتي حملت عنواناً اشتقه الباحث من أشهر طرق تواصل الأسرى بينهم ومع العالم الخارجي والذي يعرف في أوساط الحركة الأسيرة بالكبسولة، فجاءت الدراسة تحت عنوان " كباسيل: منافذ الاتصال والتواصل لدى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي" ووقعت في فصول أربعة، وثلاثة ملاحق. وقدم لها الروائي والأسير المحرر وليد الهودلي الذي أكد على أهميتها لجهة تناولها موضوعاً حساساً وإنجازاً وصل إلى ما وصل إليه بأثمان باهظة من خلال استقراء معمق لحالة الحركة الأسيرة منذ بداياتها الأولى.
انطلق نزال بحسه الإعلامي والبحثي ومن تجربته الخاصة في سجون الاحتلال لاثني عشر اعتقال وبالاستفادة من اعتقاله الأخير ومعايشته ظروف وواقع التواصل والاتصال داخل السجون مع دخولها عوالم جديدة واجتراحها معجزات تحدت واقع العتمة التي أرادها السجان وتمناها.
ففي الفصل الأول استعرض الكاتب السياسات الصهيونية في ملاحقة من تبقى من الفلسطينيين في وطنهم بعد تهجير الجزء الأكبر منهم إبان نكبة العام 1948، حيث كانت سياسة العزل الأولى بحق الفلسطينيين المتبقين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 ومنعهم من التواصل مع محيطهم الفلسطيني والعربي وفرض الأحكام والأعراف العسكرية عليهم وتقييد شتى مناحي حياتهم، وهو ما دفعهم لاحقاً للتحدي والتصدي لهذه المحاولات وكانت الثغرة الأقوى التي أحدثوها بالدم عام 1976 فيما عرف بيوم الأرض الخالد فباتوا محط إنظار العالم وكسروا حاجز الخوف الذي أراد الاحتلال تكريسه بمجزرة كفر قاسم والملاحقات والاعتقالات والحرمان.
ومع احتلال باقي فلسطين عام 1967 شرع الاحتلال أبواب السجون وبنى أخرى وزج فيها بمئات الألاف من الفلسطينيين ذكوراً وإناثاً وجعل من هذه المعتقلات والسجون مسارح لممارسة السادية والتعذيب والعزل بعيداً عن أنظار العالم والتي طالت مقاومين عرباً وأجانب اعتقلوا خلال عمليات مقاومة داخل فلسطين وخارجها ضمن قوى الثورة الفلسطينية.
وبحسب نزال كانت المحطة الأبرز في تاريخ الحركة الأسيرة ما قبل مجيء السلطة الفلسطينية مرحلة الانتفاضة الكبرى التي فتحت أبواباً كانت مغلقة أو مقننه في تواصل الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل مع العالم بقدوم وسائل الإعلام والمنظمات الدولية للمتابعة الميدانية، وهنا كانت السجون عنواناً رديفاً للانتفاضة وفعلها الشعبي المقاوم. وهذا عمق نضالات الحركة الأسيرة التي بدأتها سبعينيات القرن الماضي وعمدتها بالشهداء وأطنان اللحم الحي خلال الإضرابات المفتوحة عن الطعام لانتزاع حقوق إنسانية ومنها التواصل فيما بين الأسرى ومع العالم الخارجي بطرق يعرفها الاحتلال وأخرى رغماً عنه وبصور سرية.
وأصل نزال في دراسته العلمية للفصلين الثالث والرابع المخصصين لتناول الاتصالات البينية ومع العالم خارج جدران السجون ومنافذها من خلال عرضه لمشكلة الدراسة التي تمحورت حول سبل مواجهة الأسرى لسياسات العزل الإسرائيلية ومنع التواصل، وفي أهميتها كمرجع للباحثين أضاء على العلاقة التي تعاطت بها الحركة الأسيرة مع إدارات السجون من خلال الحوارات تحت السقف الوطني، وكذلك تناوله للتغييرات التي طالت بنى الحركة الأسيرة مع دخول أسرى فصائل جديدة للسجون والمعتقلات.
الفصل الثاني من الدراسة خصص للحديث عن الإعلام المنظم الذي قيدت إدارة السجون وصول الأسرى إليه وحددته ومارست دور الرقيب على مضامينه مع منعها بداية لامتلاك الأسرى للتلفاز والراديو أو الوصول للصحف بشكل حر، ولكن الأسرى استطاعوا تهريب بعض الراديوهات للسجون وعهدوا بحمايتها لعدد منهم وكان يتم الاستماع لها بشكل سري ومن ثم تنقل الاخبار للباقين، وبعد ذلك حقق الأسرى اختراقه باقتناء أجهزة الراديو وشكلت المحطات الإذاعية الدولية ولاحقاً الخاصة نافذة لتواصل الأسرى مع العالم الخارجي وموجة تواصل مع الأهل من خلال الرسائل التي ترسل لهم من خلال برامج هذه الإذاعات ولاستقاء أخبار الأهل وعلى صعيد الصحف كانت جريدة القدس يسمح بدخولها للأسرى ولكن بتواريخ قديمة بالإضافة للصحف العبرية التي كان يترجمها أسرى يتقنون العبرية للآخرين وخاصة يديعوت أحرنوت، وعلى الصعيد المرئي كانت محطات التلفاز الإسرائيلية في البداية هي المتاحة قبل السماح بإدخال محطات تعمل عبر الساتلايت ولكن بعدد محدود تتحكم به إدارات السجون.
وتطرق نزال كذلك للصحافة الاعتقالية التي أسسها الأسرى داخل السجون إذ كانت تكتب يدوياً وتوزع على الغرف والأقسام المختلفة وتتضمن مواضيع وتحليلات لا تتضمنها الصحف التي يسمح الاحتلال بدخولها.
الفصلين الثالث والرابع من الدراسة أبحر فيهما نزال نحو مصطلحات وعوالم قد تكون غريبة وجديدة لمن يخوضوا التجربة الاعتقالية أو للباحثين والقراء من خارج فلسطين إذ خصصهما للحديث عن التواصل البيني ما بين الأسرى داخل السجن الواحد ومع السجون الأخرى تنظيمياً بشكل مستقل وجماعياً للتنسيق والتعميم موغلاً في شرح ظروف كل شكل وطريقة، وهو ما طبقه أيضاً على تواصل الأسرى مع العالم الخارجي بأدوات مختلفة.
فمنافذ التواصل البيني الداخلي كما رصدها تكون بحديث الأسرى داخل الغرفة الواحدة ومع باقي الأقسام خلال "الفورة" والزيارات بين الغرف والأقسام، ويأخذ إما الشكل الشفوي أو بالكبسولات وهي رسائل يتم كتابتها بخط صغير ولفها على شكل كبسوله وغالباً ما تحتوي تعليمات تنظيمية، ومن الأشكال الأخرى الطريق نحو المحاكم أو في المحاكم وفي الحالات الطارئة وخلال التصعيد يلجأ الأسرى للمصطلحات والكلمات المرمزة ولغة الإشارة والطرق على الأبواب أو بأدوات الطبخ والأكل إلى جانب الرسائل القلمية والتي تختلف طريقة نقلها بحسب الحالة والمحتوى.
الهاجس والرغبة في التواصل مع العالم الخارجي لطالما شكل الدافع القوي للأسرى وفي هذا الإطار عدد نزال اثنتي عشر طريقة وآلية بما فيها امتداد الحياة الإنسانية في البقاء من خلال سفراء الحرية وهي النطف المهربة، ولكن قصة " الغزال" الهاتف النقال المهرب والتي غاص الباحث فيها طويلاً كانت التحدي الأكبر من الأسرى لدولة الاحتلال والتي كانت بدايتها مع أسرى حزب الله عام 1997 قبل انتشارها وتعدد استخداماتها بين الإنساني والنضالي.
ومن صيغ التواصل مع العالم الخارجي الأسرى الجدد والأسرى المحررون بما ينقلونه من أخبار ورسائل بالاتجاهين والهدايا الرمزية من إبداعات الأسرى كرسائل تدلل على ما يكنونه في دواخلهم لعائلاتهم أو بما تحمله من رموز مشفرة. وبقيت الرسائل المهربة حاضرة لليوم رغم دخول التكنولوجيا المهربة من خطوط هاتف نقال وشرائح انترنت كونها آمنه وموجهة بشكل مباشر وأقل عرضة للاعتراض والوقوع بيد المحتل. طبعاً إلى جانب الرسائل العادية التي تمر عبر إدارات السجون وتخضع للرقابة والتي يدرك الأسرى أهمية ما يجب أن تحتويه.
وشكل المحامون في زياراتهم للأسرى نافذة تواصل ورسل للأخبار للأسير ومنه للخارج كما هو حال المحاكم في حال حضور الأهل والتقاطهم وتحينهم الفرص للحديث مع الأسرى داخل قاعة المحكمة، وبقي الصليب الأحمر من مسارات التواصل منذ البدايات حتى اليوم رغم تقليص دوره من قبل الاحتلال.
وبعد الإطلاع على الدراسة يمكن القول بأنها إضافة علمية تتسم بالأصالة والجدية وفي موضوع معمق وجديد وبلغة واضحة وسهلة تشكل نواة لدراسات بحثية لاحقة متخصصة.
خالد الفقيه