القدس في الرواية العربية
ندوة حول مدينة القدس في عجلون
قدم الدكتور حسن عليان أستاذ الأدب الحديث في جامعة فيلادلفيا سابقا ورقة عنوانها «القدس في الرواية العربية». وقد ركز على تفنيد الأساطير المتعلقة بالحق اليهودي في فلسطين والقدس، والتي تنفيها الوقائع الأثرية والأنثروبولوجية، مشيرا إلى قلة عدد الروايات العربية التي كانت القدس محورا لها. وأن هذا أمر مؤسف لأنه يقع على عاتق الأدباء مهمة جسيمة في مواجهة الأطماع الصهيونية بالوسائل الثقافية التي يمتلكون أدواتها.
وجاء في ورقته : إن مدينة القدس كان لها دور ريادي عبر حركة التاريخ منذ أيام الكنعانيين وما تزال حتى اليوم، بمسمياتها المتعددة. وقد شهدت المدينة في العصرين؛ الأيوبي والمملوكي حركة علمية وثقافية في مختلف الحقول، لم تشهدها المدينة بعد ذلك بهذا الزخم الفكري والعلمي والثقافي والديني واللغوي، مثل العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية وعلم التاريخ والفقه والتصوف وعلم المنطق والعلوم والطب. وبدهي أن تستقطب المدينة لذلك العلماء في مختلف الحقول والمجالات، وأن تتعدد المدارس على اختلاف مشاربها ومناهلها، وبخاصة في القرن السادس الهجري، مثل المدرسة الصلاحية المقدسية بدورها البارز في الحركة الفكرية، ومثل المدرسة المعظمية في القرن السابع الهجري، وغيرها من المدارس في القرن التاسع الهجري، بدورها الفعال في الحركة الفكرية والعلمية والطبية في بيت المقدس. وتقف المدرسة الأشرفية في عهد السلطان قايتباي نموذجاً لغيرها من المدارس "وهي من أعظم المدارس، وهي جوهرة بيت المقدس الثالثة، إلى جانب الأقصى والصخرة المشرفة كما يقولون. وقد كان لها دور مميز في الحركة الفكرية، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمدرسة العثمانية أيضاً".
إن الفكر الصهيوني أكبر مزور في التاريخ، فهو يقلب الحقائق ويجيّرها لصالحه، ويزور الآثار والأمكنة عبر الأزمنة والتاريخ، سواء على صعيد الحروب أو بناء الدول، وتكشف الوثائق المزورة ذلك بوضوح، فقد وضعت الحركة الصهيونية والعقلية التوراتية – التلمودية لها أسساً وقواعد لإثبات حق تاريخي لها في فلسطين، ومثال ذلك ما كشفه علي بدر في روايته "مصابيح أورشليم" من تزوير أسماء الأماكن والشوارع في مدينة القدس، وتشويه حقائق التاريخ، وتزويره، وبخاصة ما يتعلق بسكان حي المغاربة البرابرة، وفق تعبير الوثيقة، وبعض أخلاف المور أو الموريين maures الذين
.طردهم فيرديناند وإيزابيل من إسبانيا. وذلك على قاعدة أنه يكذب الكذبة ثم يقتنع بها، ويصدّقها، ويدافع عنها، ويتبناها حقيقة مطلقة لا تقبل النقض، ويقيم على قاعدتها بناه الفكرية والثقافةعبر التاريخ
يقف المرء مشدوهاً أمام عجز الرواية العربية وإقصاء نفسها عن تناول مدينة القدس، لا بل عجز الكتاب الذين ملأوا الدنيا بالحديث عن أنفسهم وعن أعمالهم الروائية، على الرغم من مستويات هذه
الروايات المتفاوتة بين الجودة والرداءة.
أقول يقف المرء مشدوهاً لقلة الأعمال الروائية عن القدس، لا بل ندرتها، فهي لا تتجاوز أصابع اليدين، في وقت نجد فيه عشرات بل مئات الأعمال الروائية والدراسات التي كتبها اليهود عن القدس، على قاعدة أرض الميعاد الموهومة، وإقامة الهيكل المزعوم والدولة الصهيونية الجديدة، مثل عاموس عوز وغيره. فروايته "المسافة بين وهم المدينة وواقعها" تؤرخ للمدينة، ولرؤية جدّه وجدّته وغيرهم ممن زاروا المدينة، وكذلك كتب الرحلات والمذكرات التي تناولت المدينة المقدسة وغيرها، مثل فلوبير (1821-1880) الفرنسي الذي كتب عنها في مذكراته. ولا أريد الاستطراد في هذا الموضوع على الرغم من تقصير كتابنا المزمن في تناول القدس، المدينة الكنعانية التاريخية، وقبلة المسلمين الأولى.
نريد من كاتب الرواية عندما يضع مشروعاً لروايته أن يرسم لهذا المشروع أبعاداً فلسفية وأطراً ثقافية وفكرية تنبئ بوعي العقل العربي، وبأنه ليس عقلاً تراكمياً، وإنما هو عقل تحليلي، يستطيع أن يحلل ويستنتج ويستنبط، ويستشرف ملامح المستقبل على قاعدة معطيات الواقع ومخاضاته.
لقد ولدت الحربان العالميتان وغيرهما من الحروب ثورات اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية وفلسفية على اختلاف مذاهبها واتجاهاتها وحقولها، بتنا في الوطن العربي بحاجة إلى مثل هذه الثورات. وما الأحداث الجارية في هذه الأيام إلا منبئة عن ولادة تيارات فكرية وفلسفية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأدباء ومفكرين، يستطيعون إثراء الأدب والفكر والفلسفة، لا بمفهومها الأيديولوجي، ولا بجمودها وتحجرها، وإنما بمفهوم يخدم الفرد والمجتمع، يعكس مستجدات المتحولات والثورات، وتوالدتها، ونتائجها.
ولعل تبعية العقل العربي للعقل الغربي؛ رؤية وفلسفة وثقافة وعلماً واقتصاداً يعود إلى علاقة الغالب بالمغلوب. وقد حان الوقت أن يحاول العقل العربي وضع حجر الأساس لوضع استراتيجية لبناء ماهيته ومقوماته، حتى يقيم عالماً عربياً جديداً على صعيد الفرد والمجموع، يستطيع أن يكتفي بذاته بعيداً عن التبعية الاقتصادية والفكرية والثقافية وغيرها، وبخاصة الحرية الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وإلا فإن النتيجة أن نبقى في إطار التبعية للآخر، وفي إطار تقوقع العقل العربي، وشلله، وتموضعه على نتاج الثقافات الغربية، وكذلك تغييبه حتى لا يعمل على تغيير البنى المتآكلة في الوطن العربي. ولا يمكن للعقل العربي أن يستقل، وأن تصبح له ذاتيته الخاصة؛ بمفرداته ومكوناته وفواعله إلا ّ إذا سمح لهذا العقل بإثبات وجوده على قاعدة الحرية الفكرية، ومناخ الحرية والاستقلال.
وبدهي أن تكون قضايا الأمة المركزية هي حجر الأساس لهذا العقل، على تعددية حقول هذه القضايا. لقد كتبت عشرات الدواوين الشعرية والأعمال القصصية والمسرحية عن فلسطين والقدس، لكن الأعمال الروائية التي اقتصرت على مدينة القدس قليلة جداً، وكذلك الدراسات الأدبية والنقدية.
وتجدر الإشارة إلى أن الكتب التي تناولت تاريخ المدينة ومدارسها وآثارها قديماً وحديثاً أيضاً كثيرة في إطار عروبة بيت المقدس، وفي إطار الصراع العربي الصهيوني، على فلسطين وعلى مدينة القدس، وفي إطار عمليات التهويد الإسرائيلي للمدينة. وقد تناولت الأعمال الروائية التي عرضت أو تناولت مدينة القدس بين التركيز على المدينة وبين ورود القدس عرضاً في هذه الأعمال. وقد حاول بعض الكتاب العرب تناول مدينة القدس والقضية الفلسطينية في القرن الماضي-العشرين، مثل أدمون شحادة في رواية (الطريق إلى بير زيت)، وسحر خليفة في رواية (صورة وأيقونة وعهد قديم). كما تناول بعض الكتاب العلاقة الجدلية التي أحدثتها الانتفاضة في نهايات ثمانينيات القرن العشرين بين الإبداع الأدبي وشروطه من جهة وبين الواقع المعيش ومعاناته من جهة أخرى، ومثال ذلك محمد وتد في رواية (زغاريد المقاثي)، وزكي درويش في رواية (أحمد، محمود والآخرون)، ورواية (شبابيك زينب) لرشاد أبو شاور، وفاروق وادي في رواية (منازل القلب)، ومحمود شقير في سيرته الذاتية (ظل آخر مدينة).
وبالمقارنة بين عشرات الروايات التي كتبها الأدباء الصهاينة؛ ترسيخاً وتأكيداً لمزاعمهم بأن مدينة القدس توراتية، وبأنها العاصمة الأبدية، إن لم نقل أن هناك أكثر من مائة رواية تتناول القدس وفلسطين على قاعدة مقولة الفكر الصهيوني، التي يجسدها شامير بقوله "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل". وهذا يعني وفق رؤيته أن الصهيونية ستصل حتماً إلى جملة يوسف بطل يورام كانيوك، يوسف في رواية (عربي جيد) الذي يقول: "العربي الجيد هو العربي الميت". ومثال ذلك عاموس عوز في روايته (موت جدتي)، وكتابه (تاريخ الحب والظلمة) صور فيه العربي بأنه بدوي وذليل وبلا ملامح فردية، وغيرها من أعماله الروائية. وكذلك إمره كيرتس في رواية (لا مصير). ونشرت غاسبارات عام (1843) مذكراتها عن مصر والقدس وبلاد الشام. وتقف رواية يوري كوليسنيكوف (أرض الميعاد) دليلاً حياً على بنية الفكر الصهيوني، وكذلك رواية (خربة خزعة) ليزهار سميلانسكي، الأب الروحي للكتّاب اليهود في فلسطين. وتعكس هذه الرواية وحشية العدو الصهيوني، الذي أباد قرى بكاملها عام (1948) على يد وحدات من جيش العدو الصهيوني التابعتين للكتيبتين (151 ، 152)، وهي قرى: حمامة والجورة وخربة الخصاص ونعلية والجبة وبربرة وهربيا ودير سنيد، وهي القرى الواقعة بين المجدل وبيت حانون. وهناك قصص صراع المستعمرين الصهاينة ضد البيئة الغربية عنهم، وضد الفلسطينيين. وتعدّ رواية (الضحية) لسان باولو من أوائل الروايات الأدبية الأمريكية المبكرة، وتحدثت عن اللاسامية، وكذلك رواية (هيرتزوغ) عام (1964). وتقف رواية (الغبار) ليائيل دانيال نموذجاً لرؤية الصهيوني بأن فلسطين، وسائر البلاد العربية ليست إلا صحراء قاحلة؛ بفضاءاتها الفارغة، وذلك لتأكيد أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن اليهود هم من زرعوا فيها الخضرة، وبعثوا فيها الحياة. فالوجود الفلسطيني في الرواية العربية في الأغلب وجود غائب. وذلك لافتقار الفكر الفلسطيني والعربي لأسس عقدية خلافاً للفكر الصهيوني الذي بُني أدبياً على أسس عقدية أخلص لها الأدباء الصهاينة.