الجمعة 22-11-2024

طائر النعاس-قصة قصيرة

×

رسالة الخطأ

د. سامي الكيلاني

طائر النعاس-قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني

جالساً على مقعده في مطار شارل ديغول، محطة بين الشرق البعيد والغرب البعيد قبل عبور الأطلسي. غادره النعاس الذي كان قد تلبّسه منذ بداية الرحلة، فجأة انحسرت موجة النعاس، هكذا دون سابق إنذار، هكذا هي أمور الحياة، تمنى في الطائرة لو أن المسافة بين المقعدين في الدرجة السياحية مثلها مثل تلك التي تفصل بين مقاعد المحظوظين في الدرجة الأولى ليمد رجليه ويغفو قليلاً، كان في انتظار اللحظة التي يصل فيها قاعة الترانزيت ليقتنص طائر النعاس الذي كان يحوم فوق رأسه دون انقطاع، وها هو قد طار بعيداً عن جفنيه، صار بعيداً، بعيداً. جاءته موجة من التذمر "اللعنة على هذا النعاس، حتى أنت يا بروتوس، النعاس ككل الأشياء التي تعرف كيف تغيظنا، حتى التعب لم يستطع استدراج طائر النعاس، فما الذي يريده إذن حتى يحط؟". قرر أن يحتسي فنجان قهوة نكاية بطائر النعاس العنيد "إن كنت عنيداً فأنا أعند منك!". نهض دون تثاقل، أيضاً نكاية بطائر النعاس، واتجه إلى المقهى الصغير الوحيد المفتوح في هذا الصباح الباكر، علامات النعاس والتعب بادية على عاملة المقهى، يبدو أنها تنتظر انتهاء دوامها وتتمنى ألاّ يحضر أحد لشراء شيء من عندها، قامت متكاسلة، لم يقل لها شيئاً سوى " دبل إسبرسو"، حتى أنه لم ينهِ عبارته بِ "لو سمحت" كعادته. ناولته الفنجان وعاد إلى مقعده يحتسي رشفات من القهوة على مهل وكأنه يقول لطائر النعاس "حلّق أبعد ما شئت، لست بحاجتك، أستطيع أن أعيش بدونك ليوم آخر". مع رشفات القهوة عادت إليه تفاصيل الجزء الذي مضى من الرحلة.
***
كان الأمس يوماً طويلاً متعباً للجسد والأعصاب، لا لم يكن اسمه الأمس، إنه يوم مستمر، بعض الأيام طويلة، تعيش أكثر من 24 ساعة، قد يصل طولها إلى 40 ساعة. كان يوماً طويلاً كثيفاً في كل ما احتواه، ركض وركض وركض، كان عليه إنجاز أشياء كثيرة قبل التوجه إلى الجسر لعبوره ومنه إلى المطار. كان كل شيء معلقاً بخيط رفيع من اللايقين. طائر اليقين في كل ترتيبات السفر غادر حياته منذ زمن طويل دون رجعة، لم يعد ينتظره، فقط يتذكره حين يستمع لروايات أصدقائه الدوليين فيتحسر "كل الناس في هذا العالم يذهبون إلى رحلاتهم بعد أن يخططوا وقتهم مع قليل من الاحتياط تحسباً لأزمة السير على الطرق فحسب، إلاّ نحن علينا أن نحتاط من غير تيقّن لكل أنواع الحواجز على الطرق، ولمزاج كل جندي من جنود الاحتلال، جندي مراهق يقرر فجأة أنه سيلعب بأعصابك فيوقف السيارات على الحاجز الذي يغلق ويفتح بأمره، وكل مجندة على مدخل منطقة الجسر يمكنها ترك حافلتك واقفة لساعة، لساعتين دون سبب يمكنك إدراكه أو حتى توقعه".
كان يوماً حافلاً، بدأ بالذهاب إلى مقر شركة السيارات في مدينة أخرى لاستلام السيارة الجديدة وتسليم القديمة، لم يرد أن يؤخر هذا الأمر إلى ما بعد عودته من هذه السفرة، فمن يدري ماذا يمكن أن يحدث، اللايقين سيف مسلط فوق الرقاب. وحين عاد إلى مدينته كانت السيارة التي كان من المفترض أن تحمله إلى الجسر قد غادرت. قال له صاحب مكتب السفر مواسياً ومعتذراً "حاولنا انتظارك، أخّرنا موعد السيارة نصف ساعة فتذمر الركاب الآخرون، اعذرني". شكره واستأجر سيارة خاصة. استمع طيلة الطريق إلى أحاديث السائق المتشعبة في كل شؤون الحياة، لم يصغِ جيداً لكنه لم يتذمر، كان يكتفي بكلمة أو بهز رأسه مجاملة للمتحدث. وفي الطريق من الجانب الآخر من الجسر إلى المطار كان عليه أن يستمع لأحاديث سائق آخر وهو يحلل الوضع السياسي بدءاً بمصيبة عودته مطروداً من الكويت ويشكو ضيق الحال ثم يعرّج للحديث عن شوقه للعودة إلى قريته التي هجّرت منها عائلته وهو طفل ويتمنى رؤيتها قبل أن يرحل عن هذا العالم إلى العالم الآخر. كل ذلك حدث منذ الصباح، تفاصيل كثيرة عاشها دون تركيز تحت وطأة سيف الخوف من عدم الوصول إلى المطار في الوقت المناسب، سيف الخوف الذي كان يخيم عليها جميعاً ويجعله ساكتاً غير اجتماعي على غير عادته مع مثل هذين السائقين والمسافرين معه في حافلات النقل بين طرفي الجسر.
وأخيراً كان في المطار تماماً على الوقت وجلس عند بوابة رحلته، وضع حقيبته الصغيرة بجانبه على المقعد وأسند ظهره إلى ظهر المقعد ومدّ رجليه، أزاح عن كاهله ذلك القلق الذي كان ينتابه بأن تفوته رحلة الطيران.
ضحك وهو يتذكر ملاحظته للعائلة "ليس لنا زمام، لم نحترم العشرة الطويلة مع السيارة القديمة، حتى لم نأخذ لها صورة وداع"، ولكن صغيرته الرائعة قالت إن ذلك لم يفتها، فهي قد قامت بذلك، لقد صورت "بيبا" كما كانت تدعو السيارة تحبباً. أسند ظهره ليستريح خلال الدقائق المتبقية قبل فتح البوابة، لن يزاحم، سيأخذ ما يمكنه من الاسترخاء على هذا المقعد بعد يوم طويل من سباق التتابع بين محطات الأحداث الكبيرة وأخواتها الصغيرات.
***
أنهى فنجان القهوة وقرر أن يشغل نفسه بمراقبة الناس الذين يمرون قربه، ذكوراً وإناثاً، شباباً ومسنين، بيضاً وسمراً وصفراً وسوداً ومن كل الألوان. نساء بشعر متهدل على الأكتاف وأخريات بشعر قصير وغيرهن بشعر مجعد، رجال بشعر مرتب وآخرون بصلعات تلمع، والأهم من كل هؤلاء وأولئك أطفال من كل الألوان. "لا أروع من المواسم الواعدة" قال لنفسه متذكراً أطفاله وكأنهم لم يعبروا مرحلة الطفولة. انفرجت أساريره وهو يرى الصورة التي يحب، طفلة ذات جديلتين مقبلة باتجاهه، راقبها وهي تحاور أمها بحرارة ممسكة بيدها وتسير إلى جانبها، ركز على عينيها، سحره اللون الأزرق الصافي، كانت تشد يد أمها إلى الأسفل بقوة لتجذب انتباهها إلى حديثها بينما الأم منشغلة عنها بحديث عبر هاتفها الخليوي. ودّ لو بإمكانه أن ينهض ويخطف الهاتف من يد الأم ويقول لها "استمعي لصغيرتك، حديثها أهم من ثرثرتك على هذا الهاتف". التقت عينا الطفلة بعينيه اللتين تراقبانها، أصابتها الدهشة أولاً ثم أجابت ابتسامته بابتسامة حين أصبحت قريبة منه. بقيت صورة الابتسامة التي علت شفتيها حين عبرت من جانبه حاضرة في ذهنه، استدار ليلحق ببسمتها لكنها لم تستدر هي الأخرى. خزّن صورة بسمتها وأغمض عينيه.
لم يدرِ كيف عاد طائر النعاس وحطّ في عشه داخل رأسه الذي كان يضطرب قبل قليل بمختلف اللعنات على كل "بروتوس" خاله متجسداً في الأشياء التي دارت في ذهنه. نظر إلى الوقت الظاهر على شاشة المونتر المعلقة مقابله، تيقن أن الموعد على حاله لم يتغيّر، سيبدأ تحميل الركاب بعد أكثر من ساعتين. حضن طائر النعاس وقرر أن يغفو دون خوف من أن تفوته الطائرة.

انشر المقال على: