تحديثات منظومة الأمن القومي الإسرائيلي وأزمة كورونا
محسن صالح
قام مفهوم الأمن القومي في الكيان الإسرائيلي على أن الكيان يعيش حالة تهديد وجودي مستمر، وبالتالي فجوهر الأمن القومي الإسرائيلي يستند على النجاح في البقاء في بيئة معادية، من ناحية؛ وعلى الحفاظ على "القومية اليهودية"، وترسيخ الاعتراف بشرعية وجودها بين النهر والبحر (مكان فلسطين المحتلة).
وهناك ثلاثة مبادئ حكمت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي؛ هي الردع، والإنذار المبكر، والقدرة على الحسم. وقد لحق بها خمسة أسس، تُستكمل بها أركان النظرية الأمنية هي: تجييش "الشعب" بكامله، ونقل الحرب إلى أرض "العدو"، والنوعية مقابل الكمية، وإيجاد حدود قابلة للدفاع عنها، والتحالف مع القوى العظمى، خصوصاً الولايات المتحدة.
وبناء على ما سبق حرص الكيان الإسرائيلي دائماً على تحقيق "التفوق"، بما في ذلك التفوق في الأسلحة غير التقليدية (النووية تحديداً). كما طور نظرية "المجالات الحيوية" للكيان في دوائر تتسع في المحيط الإستراتيجي لـ"إسرائيل" لتصل الدائرة الثالثة لدول مثل إيران وباكستان وتركيا ودول الخليج وشمال أفريقيا، حسب رؤية أرئيل شارون. وطوّر الصهاينة نظرية "المناطق العازلة" كحلٍّ لمشكلة العمق الإستراتيجي، ولتحقيق "الحدود الآمنة"، واستخدم صنَّاع القرار الإستراتيجي الصهيوني مفاهيم "الضربة الاستباقية المضادة"، و"الحدود الآمنة"، و"ذريعة الحرب"، لضمان الهيمنة على البيئة المحيطة. فكان مثلاً الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1978 و1982، وحرب 2006، وضرب المفاعل النووي العراقي في 1981، والحروب والاعتداءات المستمرة على قطاع غزة، وضرب مصنع اليرموك في السودان في 2012، وضربات الطيران الإسرائيلي فيسوريا.
تحديات ومخاطر مؤثرة:
حملت التطورات في السنوات الماضية مجموعة من المخاطر الإستراتيجية على "الأمن القومي الإسرائيلي"، أبرزها الثورات والانتفاضات التي عمَّت المنطقة العربية؛ وتطور المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، ووجود قاعدة مقاومة صلبة ومتنامية في قطاع غزة، ووجود تيار شعبي فلسطيني وعربي وإسلامي واسع يدعم المقاومة. وتزايد المخاطر الخارجية المتمثلة في الجبهة الشمالية (حزب الله)، وفي البيئة الإقليمية، وخصوصاً إيران وبرنامجها النووي والصاروخي.
وتصاعد التهديد السيبراني حيث طورت قوى المقاومة إمكاناتها في هذا المجال، وأخذت تشكل خطراً متنامياً؛ وتزايد التهديد السكاني حيث تجاوز عددُ الفلسطينيين (أو يكاد) عددَ اليهود في فلسطين التاريخية. كما تراجعت قيمة العمق الإستراتيجي والحدود الآمنة، وتزايد تحدّي "نزع الشرعية" عن الكيان في البيئة الدولية، وفوق ذلك، فقد تزايد التهديد المجتمعي الداخلي، المرتبط بالتحولات في البيئة الاجتماعية الإسرائيلية نتيجة التحول إلى اقتصاد السوق المترف، وظهور أجيال جديدة ترغب بالاستمتاع بحياتها، وتعزف عن التجنيد في الجيش، ولا تملك إرادة القتال.
كل ذلك أدى إلى تآكل مفهوم الردع، وتراجع القدرات الإسرائيلية في "الإنذار المبكر"، كما تراجعت القدرات الإسرائيلية على الحسم السريع للحروب والمعارك بعد تجربتها في لبنان سنة 2006، وفي ثلاثة حروب مع قطاع غزة، وتضاعفت التكاليف بالنسبة للكيان الإسرائيلي مقارنة بالنتائج المتوقعة.
تحديث إدارة منظومة الأمن القومي:
في السنوات الماضية، وصولاً إلى جائحة كورونا، لم يطرأ تغيُّر أساسي في جوهر نظرية الأمن القومي، غير أنه حدثت حالة من إعادة التموضع المرن المتناسب مع المخاطر والتحديات التي طرأت، كما سعت "إسرائيل" إلى الاستفادة من العديد من الفرص التي رافقت التطورات. وبالتالي، تركزت إدارة منظومة الأمن القومي الصهيوني على:
مبدأ الدفاع: في سنة 2015 أصدر الجيش الإسرائيلي وثيقته حول إستراتيجية الجيش الإسرائيلي "The IDF Strategy"، حيث لاحظ المراقبون أن هذه الوثيقة تحوي لأول مرة على مبدأ جديد هو "الدفاع" إلى جانب المبادئ الثلاثة السابقة، حيث ترسّخ المبدأ الجديد مع إنشاء الجدار العنصري العازل في الضفة الغربية، ومع السياجات والجدران مع قطاع غزة وسورية ولبنان، ومع منظومات الدفاع ضدّ الصواريخ وخصوصاً القبة الحديدية، ومنظومات الدفاع الفعال في المدرعات والآليات. وهو مبدأ لم يكن ليترسخ لولا تغيرات البيئة الإقليمية، وتصاعد مخاطر قوى المقاومة.
شرطي المنطقة: خروج الدول العربية عملياً من الصراع مع "إسرائيل"، وتفكك خطر الحرب التقليدية بانهيار جيش عربي قوي كالعراق، وجيوش عربية أخرى في ليبيا واليمن، وتراجع مكانة وقوة جيوش أخرى كما في مصر وسوريا، أو تحييدها بعد معاهدات التسوية كما في الأردن ومصر نفسها.
تطويع البيئة الإستراتيجية: بعد انطلاق الثورات في المنطقة العربية تبنت "إسرائيل" إستراتيجية "المحافظة على القلعة" لاستشعارها بالخطر. وفي الوقت نفسه، سعت لإعادة إخضاع المنطقة من خلال تشجيع الموجات المضادة، والانقلابات العسكرية، وإفشال التجارب الديمقراطية، ودعم ما يسمى "محور الاعتدال العربي"، وإعطاء اهتمام بالغ للأوضاع خصوصاً في دول الطوق، بما يمنع أي تغيير يجعلها محاضن لبيئات أو مشاريع معادية للكيان.
توظيف السلطة الفلسطينية: حيث سعت للاستفادة من مسار التسوية السلمية واتفاقات أوسلو والانقسام الفلسطيني، في تحييد وإضعاف الجانب الفلسطيني، وتوظيف جانب كبير منه (السلطة الفلسطينية) في خدمة المتطلبات الأمنية الإسرائيلية؛ واستغلال هذه الأوضاع لتهويد الضفة الغربية وترسيخ الأمر الواقع فيها.
الغطاء الأمريكي: الاستفادة من الغطاء الأمريكي، وما يسمى "صفقة القرن" سعياً لحسم قضايا الصراع مع الفلسطينيين، خصوصاً مستقبل القدس، ومنع عودة اللاجئين، وشرعنة الاستيطان الصهيوني في الضفة.
التحول إلى كيان طبيعي: الاستفادة من وجود بيئة إستراتيجية مواتية لتحقيق اختراق صهيوني في مجال التطبيع، وتكريس قبول البيئة الإستراتيجية بالكيان ككيان "طبيعي" في المنطقة.
حرف بوصلة الصراع: الاستفادة من حالة الضعف و"الاضطراب" التي تشهدها المنطقة، لمحاولة الدخول في تحالفات مع الأنظمة العربية التي تعمل بغطاء أمريكي، لمحاربة ما يسمى "التطرف" وتيارات "الإسلام السياسي" وإيران، وحرف بوصلة الصراع العربي والإسلامي مع العدو الصهيوني، إلى صراعات طائفية وعرقية إقليمية.
جز العشب: متابعة سياسة "جز العشب"، والضربات الاستباقية، وكي الوعي، مع قوى المقاومة في غزة والجبهة الشمالية.
الروح "الوطنية": الضخ باتجاه تعميق الولاء للمشروع الصهيوني، وزيادة الروح العنصرية (أو "الوطنية" حسب تعبيرهم)، بحيث أخذ المجتمع الصهيوني روحاً أكثر يمينية ودينية، واتجه نحو سن القوانين العنصرية، وعلى رأسها قانون "يهودية الدولة".
التموضع الدولي: السعي للاعتماد أكثر على الذات في الجوانب الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، وتخفيف الاعتماد على المساعدات الأمريكية، وتقوية التحالفات والعلاقات مع قوى كبرى صاعدة كالصين والهند وروسيا.
معركة الشرعية: خوض معركة شرسة على المستوى الدولي لشرعنة السلوك الإسرائيلي، ولتجريم المقاومة، وإخراج حركات "بي دي أس" (BDS) عن الشرعية ومنعها من العمل.
جائحة كورونا:
حتى وقوع جائحة كورونا، كان الكيان الصهيوني يشعر أنه في أفضل حالاته من زاوية أمنه القومي، غير أن الجائحة أدخلت منطقة "الشرق الأوسط" والعالم كله في حالة من الغموض والشعور باللااستقرار، وانفتاح دوائر مخاطر وفرص، مع صعوبات كبيرة في التحكم بالمسارات. غير أن المخاطر التي قد يواجهها الكيان على المدى الوسيط والبعيد، قد تكون أكبر من الفرص المحتملة. وبشكل عام، فإن الكيان الصهيوني يخشى أن تنعكس جائحة كورونا على منظومته الأمنية من عدة محاور:
الأول أن يتسبب الوباء بتدهور قوة الولايات المتحدة وحلفائها، وبالتالي تراجع قدرتها على دعم الكيان الإسرائيلي في المنظومة الدولية، وعدم إمكانية توفير الغطاء الدولي الذي يحتاجه الكيان. مع احتمال تراجع قوة "اللوبيات" الصهيونية في الدول الغربية.
الثاني أن يهتز البناء المتداعي أصلاً للنظام الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وتحدث حالة فوضى أو تصعد قوى أخرى كالصين مثلاً، لا ترى مصلحتها في الدعم "الأعمى" للكيان الإسرائيلي ولا في توفير الغطاء لممارساته، وربما تسعى لممارسة ضغوط عليه.
والثالث أن يحدث انتشار واسع للوباء في الضفة الغربية وقطاع غزة، يخرج عن السيطرة، ويتسبب بحالات فوضى انهيار للسلطة، مما قد يفتح البيئة الفلسطينية على جميع الخيارات، ويفرض أعباء كبرى على الكيان الإسرائيلي لمواجهة الاستحقاقات بما في ذلك اضطرار الكيان لتغطية تكاليف احتلاله، وتضاعف أعبائه العسكرية والأمنية والاقتصادية، مع تزايد فرص تصاعد المقاومة المسلحة.
والرابع أن يحدث مزيد من الفشل والتراجع والانهيار في البلدان العربية، حيث البيئة الإستراتيجية المحيطة بالكيان الإسرائيلي؛ فتسقط أو تتهاوى أنظمة عربية، وتتوفر بيئة لموجة ثورية أو تغييرية جديدة، تحمل أخطاراً إستراتيجية على الكيان.
ومن ناحية خامسة فإن جائحة كورونا قد تسببت بخسائر اقتصادية هائلة للكيان الصهيوني، واضطرته أن يدفع مليارات عديدة لتغطية الجوانب الصحية. وهذه الخسائر دفعته لتخفيف ميزانيته العسكرية والأمنية ولو على المدى القصير. وهو ما يعني أنه قد يعاني من "خاصرة رخوة" ربما للسنتين القادمتين، بما قد يحمله ذلك من مخاطر على أمنه القومي.
وفي المقابل، فإن الكيان الصهيوني قد يحاول استغلال انشغال العالم بالوباء، للاستفراد بالحالة الفلسطينية، والمضي قدماً في إجراءات التهويد والضم خصوصاً في القدس وباقي الضفة الغربية.
خلاصة:
يظهر أن التحديات الإستراتيجية الجديدة فتحت العديد من الثغرات في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي؛ وأدخلتها في معضلات وأزمات لا يسهل التعاطي معها. غير أن الكيان الإسرائيلي ما زال يستفيد من تفوقه النوعي، ومن ضعف وتشرذم البيئة العربية. ومع ذلك فإن عدداً من التحديات سيزداد قوة وخطورة على المشروع الصهيوني كالتحدي السكاني الفلسطيني، وتحدي تصاعد المقاومة وتطور أسلحتها النوعية، وتحدي احتمالات تغير البيئة الإستراتيجية المحيطة بـ"إسرائيل"، وصعود موجة جديدة تحمل مشروعاً نهضوياً حضارياً وحدوياً مقاوماً. أما تحدي "كورونا" فقد زاد من المخاطر المحتملة على الكيان وأمنه القومي، حيث أربك أو أدخل في حالة من عدم اليقين العديد من المنجزات ومسارات العمل الصهيونية.
عربي21