قبضة الفاشية في إعلان دستوري بمصر
د. أحمد الخميسي
في 27 نوفمبر لم تكن ثمة روح حية واحدة في مصر إلا انتفضت في مواجهة الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي، وارتفع سقف المطلب الشعبي من إسقاط الإعلان إلي إسقاط الحكم الذي فشل على مدى نصف العام ليس فقط في حل أية مشكلة، بل وفي طرح أي تصور سياسي أو اقتصادي. لكن ما يشغلني هنا ليس الإعلان الدستوري الذي استنفر الجميع للتصدي له، يشغلني السؤال القديم: ما العمل؟ في لحظة تلوح فيها كل احتمالات اندلاع المواجهات السلمية والعنيفة ثم وهو الأخطر احتمال لجوء الحكم إلي القمع الدموي لإخماد الثورة؟. لا أبحث عن إدانة الإعلان الدستوري الذي أعلنه محمد مرسي، لأن الإدانة ظاهرة ومتفجرة وسارية بشتى ألوان الغضب والمرارة. تشغلني تلك القبضة الفاشية التي تتوعدنا بتحطيم وجوهنا، وأحلامنا، وقصائدنا، وضحكاتنا. يهمني – كيف نواجه مايجرى؟ ما هو الرد الصحيح المؤثر الكفيل بتعديل موازين القوى لصالح الثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟
للبداية فقط أذكر بأنه سبق لي أن نشرت في 16 نوفمبر الحالي مقالا بعنوان " الفاشية في مصر تدق الكعب" ! حذرت فيه من تهيئة المناخ العام لحكم فاشي مستبد، ولم تنقض ستة أيام حتى خرج علينا الرئيس مرسي بإعلانه الدستوري الذي أطاح باستقلال القضاء عندما عزل النائب العام وعين نائبا جديدا، ثم حصن الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى( بالتكوين الإخواني الغالب عليهما) من الحل أو الطعون القضائية،وأخيرا زاد الطين بلة بالمادة الثانية من الإعلان التي جاء فيها أن " الاعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة نهائية ونافذة بذاتها وغير قابلة للطعن عليها بأي طريق ولا يجوز التعرض لقرارات الرئيس بوقف التنفيذ أو الإلغاء من قبل أي جهة قضائية ". وهكذا عدنا إلي العصر الذي أعلن فيه لويس السادس عشر " أنا الدولة، والدولة أنا"، إذ أصبح مرسي في غمضة عين هو- الرئيس والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى والقضاء معا. بذلك الإعلان أصبح – ما كان مجرد مناخ عام معبأ بالنزعة الفاشية – قانونا رسميا معتمدا لنظام الحكم. ولعل القارئ قد أحاط بمواقف وردود أفعال معظم القوى السياسية المصرية التي تقف خارج خندق الإخوان الذين يوظفون الدين في العملية السياسية لإضفاء الطابع الإلهي على برنامجهم السياسي بحيث تصبح أية معارضة لبرنامجهم اعتراضا على المقدسات. للتذكرة أقول إن معظم القوى السياسية اعترضت على الإعلان الدستوري جملة وتفصيلا، ومنها- " التيار الشعبي"، والجبهة الديمقراطية" و" مصر الحرية " و" الاشتراكيون الثوريون" و" المصريين الأحرار"، و" التحالف الشعبي الاشتراكي" و " الديمقراطي الاجتماعي" و" الجمعية الوطنية للتغيير" و" الحزب الاشتراكي المصري "، و" حزب الوفد "، و" الجبهة الديمقراطية " و" التجمع"، و" حزب الغد "، و" نادي القضاة "، وبقايا حركة " كفاية "، واتحاد كتاب مصر، ونقابات الفنانين والصحفيين وغيرها، بل وحتى البعض ممن يحسبون على المتقنعين بالدين مثل عبد المنعم أبو الفتوح! عدا شخصيات عامة وقوى أخرى أدركت على الفور أن الإعلان يدس الفاشية في رغيف إعادة محاكمة قتلة الثوار.
الإخوان الذين تصوروا أنهم يشترون شعبا وثورة بقليل من الزيت والسكر والأرز وأنابيب البوتاجاز يهيئ لهم أن الوقت قد حان لاعتصار مصر بأكملها، وسحق سبعة آلاف سنة من الحضارة، وتمريغ أنف شعب عظيم وأبي في وحل الاستبداد الفردي. إلا أن مصر أكبر من أن تلوكها حنجرة الجماعة وأقوى من طحن ضروسهم، وهي أذكى وأشد عنفوانا وأملا من ضباب بخور الخزعبلات ومن السجون والقبضات والدبابات.
على مدى نصف عام من وصولهم للحكم كشف الإخوان عن جوهر برنامجهم الاقتصادي والسياسي –العجز عن التنمية واستنهاض الصناعة والزراعة والتوزيع العادل للدخل القومي، والانصياع للتبعية الاقتصادية للغرب وقروضه وشروطه، والخضوع لمصالح السياسة الأمريكية الإسرائيلية بتقديم الضمانات اللازمة لأمن إسرائيل، وتكريس الفشل القديم في معالجة أصغر المشكلات كأزمة المرور وحوادث القطارات، مع اللجوء للتصفية الأمنية لكل حركة احتجاج جماهيري، ومصادرة الحريات العامة باغلاق القنوات التلفزيونية والصحف وإرهاب المعارضة وصولا إلي إطلاق الرصاص على جابر صلاح ليصبح شهيد أول رئيس مدني منتخب.
ولمواجهة الإعلان دستوريا عن حكم الفاشية تراوحت مواقف القوى السياسية المعارضة ما بين الدعوة إلي إسقاط ذلك الإعلان وحل الجمعية التأسيسية وإعادة تشكيلها بتمثيل لكل التيارات وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، والمنادة بمظاهرات حاشدة، والسعي لتشكيل إدارة موحدة تجمع القوى الوطنية وصولا إلي الدعوة لاسقاط حكم المرشد واسقاط النظام وإرغام رئيسه على الرحيل. وبذلك تدور طرق المواجهة التي تعتمدها المعارضة في نفس الإطار الذي يتحرك فيه الرئيس مرسي ! فالمعارضة تبحث عن حل الجمعية التأسيسية ومرسي يبحث عن استبقائها، والمعارضة تبحث عن دستور ديمقراطي ومرسي يبحث عن دستور فاشي، والمعارضة تريد حكومة وطنية ومرسي يريدها إخوانية، لكن المعارضة ومرسي يتفقان بالكامل على ميدان المعركة وطبيعة أهدافها: الدستور، البرلمان، مؤسسة الرئاسة. بينما تحتاج الثورة ويلزم الشعب برنامجا سياسيا واقتصاديا يلتف حوله. فنحن لا نسمع كلمة تقريبا في أحاديث المعارضة عن فك تبعية الاقتصاد المصري لصندوق النقد، ولا كلمة عن إعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد، ولا كلمة عن كيفية بناء واستنهاض صناعة وطنية، ولا كلمة عن إصلاح زراعي. ويبدو مضحكا أن يلوح عمرو موسى الذي خدم مبارك عشرين عاما بقبضته هاتفا " الثورة مستمرة"! ومعه آخرون ينتمى بعضهم لنفس النوع !
في اعتقادي أن المواجهة الحقيقية للفاشية تبدأ من برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي ووطني يطرح بوضوح القضايا الرئيسية للثورة، ويلزم أي رئيس قادم بتنفيذه. وهذا يستدعي ليس تشكيل إدارة مشتركة لكن مجلس قيادة للثورة يضع برنامجا يستجيب لاحتياجات الشعب من تعليم وصحة وإسكان وأجور وضمانات اجتماعية وتصنيع وثقافة وفنون وادماج سيناء بمصر وتطويرها. وبدون تشكيل مجلس قيادة للثورة، وبدون تحديد برنامج اجتماعي وسياسي واضح للثورة، ستظل الفئات الواسعة من الفلاحين والعمال بعيدة عن ثورة تقتصر أحلام قادتها على " إصلاح سياسي" داخل إطار الأساس الاقتصادي والسياسي القديم. لا يعني ذلك الاستهانة بأهمية المظاهرات والدعوة الآنية لاسقاط الاعلان وحشد الناس حول تلك المطالب، لكن الاستمرار في حدود دائرة رد الفعل يعرض كل شئ للضياع. الثورة في أمس الحاجة إلي برنامج وليس مجرد عبارات عامة عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. لقد أفصح الإخوان ومرسي عن برنامجهم فما هو برنامج المعارضة؟ إن المظاهرات الحاشدة ليست برنامجا لكنها احتجاج. والدعوة لاسقاط النظام ليست برنامجا، لكنها نصف دعوة، فحين تقول يسقط النظام لابد أن يكون لديك تصور عن نظام جديد. ما من مواجهة بعيدة المدى وناجحة بدون برنامج. ماتحتاجه مصر قبل الدستور هو برنامج تجتمع عليه القوى الوطنية يحدد التوجه السياسي والاقتصادي الذي نريده، وبناء عليه يتضح أي دستور نريد. وبدون هذا البرنامج لن نتمكن من التصدي لقبضة الفاشية التي ألقت بظلها على وجوهنا، وطافت بين أحلامنا مثل وحش بعث بعد زمن طويل.
في 27 نوفمبر أكدت مصر أنها أقدر، وأجمل، وأقوى، وأذكى، من أن يقوى الظلام على نور عينيها الذي ملأ الميادين والشوارع.