روايات التهجير الفلسطيني عام 1948: أمينة العيسوي: «بدنا نفكِّر في التحرير بشكل منظّم»
فيحاء عبد الهادي
ابنة يافا المخلصة؛ تربوية قديرة، ومعلمة مبدعة، قوية الشخصية، وصاحبة مبدأ، ولها وجهة نظر نقدية، في السياسة وفي المجتمع. صممت منهاجاً تربوياً بالموازاة مع المنهاج المقرر من وكالة الغوث، حين عملت مدرِّسة، ثم مديرة، في مخيم بلاطة في نابلس، بعد التهجير؛ عام 1948. أسَّست نادي الوحدات، وأصبحت أول رئيسة له، في عمان – الأردن، عام 1956. والتحقت بجمعية إنعاش الأسرة، في فلسطين، منذ تأسيسها عام 1965. آمنت بوجود طرق متعددة للدفاع عن الوطن، وآمنت بالوحدة طريقاً للخلاص.
عملت خبيرة للأغذية والزراعة في اليونيسكو، بداية الستينيات؛ لكنها لبت نداء الواجب، حين استدعتها منظمة التحرير الفلسطينية للعمل معها، غير آبهة بالمركز المرموق، أو الوظيفة المجزية مادياً: «التحقتُ في المنظمة لما استدعتني. قلت إنه بدنا نفكّر في التحرير بشكل منظم، وفكرت انّه هي الطريق اللي بدها توصّلنا للتحرير والرجوع إلى الجذور. أصحابي وأصدقائي اعتبروني مجنونة انه أترك هذا الشغل وهذا المعاش، وأشتغل مع منظمة التحرير متبرعة، قلت لهم: إيش يعني؟ نستورد ناس يحرِّروا لنا الأرض؟!
*****
روت الراحلة ذكرياتها عن أيام التهجير المرعبة، وعن رحلة الحياة بعدها، ثم عن عملها التربوي والسياسي والتنظيمي؛ الأمر الذي ساهم في التأريخ للأدوار المتعددة للمرأة الفلسطينية منذ الأربعينيات:
«إحنا كنا ساكنين في ضواحي في البيارات، في يافا، وقعدنا فيها لغاية ما تفتحت كل البيوت علينا، وتهدَّمت بعض أجزاء من شدة القنابل، فدخلنا ليافا لجوّه واستأجرنا بيت، لكن بتذكَّر ضرب رصاص مثل زخّ المطر، وجميع الناس توجّهوا إلى البحر، وجاء الجيش الإسرائيلي، وحصلت المجازر، فمنهم من ركب، وكان الرجال يبعثوا النساء والأطفال بالمراكب، والمراكب تمشي على هوا الريح، فالعائلة الواحدة انقسمت إلى قسمين، جزء منها راح على لبنان وجزء على غزة ومصر، وفيه منهم قعدوا سنوات ضايعين عن بعض. إحنا تعبنا كثير، لأنه السنة اللي اشتغلنا فيها بعد الحرب العالمية الثانية شرينا فيها قطعة أرض، بـ 49 ألف جنيه، وهي كلها سبع دونمات، والباقي سدَّدنا ديون الخمس سنين المتراكمة. كان هذا مكلف، السنة اللي اشتغلت فيها راح سداد ديون لهذه المواد، والجزء الثاني شرينا فيه الأرض، وطلعنا خاويين الوفاض. مَكَنش معنا إلاّ الذهب اللي بإيدين الستات، عشنا حوالي سنتين نبيع الذهب، ونستأجر دور ونعيش.
بعد 48 النضال كان بأشكال عدة؛ بدأت أعمل مدرِّسة مع الوكالة، وكنت أعيل عشرين نفر، لغاية ما كبر واحد من أولاد أعمامي، وعلّمته لثالث إعدادي، وعلّمناه محاسبة، ودّيناه على السعودية، واشتغل، وصار يبعث لأهله شوي وأنا شوي.
اعتبرت التعليم طريق إلى النضال، فاستلمت 300 طالبة في مخيم بلاطة، ما كانوش يروحوا على المدارس. صنّفت سبع سنين مع بعض، وثمن سنين وتسع سنين مع بعض، السبع سنين درَّستها المنهاج العادي، أما ثمن وتسع سنين؛ عملت لحالي منهاج. هذا لم يرض المفتشين، واشتكوني إلى المدير العام في القدس، كنت مديرة، أتى ووجد في الإدارة تبعتي خمسة عشر بنت، فقال لي: مين هدول؟ هدول اللي قلتوا: أطردوهم؛ لأنهم غابوا عن المدرسة 15 يوم. هم غابوا بسبب السعي لكسب الرزق، اللي كانوا يحصدوا بطاطا، أو عدس، أو حمص. وين بدهم يدشّروهم أهاليهم؟ فكانوا ياخذوهم معهم، فأنا كنت بجمع هدول البنات وبسأل: وين كنتِ واصلة؟ وبلحقها لصفها. قلت للمدير العام: أنا بعتبر قراركم جائر، ومش ممكن أنفّذه؛ فهو انبسط من هذا الإجراء، وقال لي: عندك إنسانية اكثر منا.
لليوم أنادي بمقاطعة البضائع الإسرائيلية، مش السلاح هو بس الوسيلة للدفاع عن الحقوق؛ لأ فيه هناك وسائل أخرى ممكن الإنسان الفلسطيني والعربي يصل إلى هدفه فيها، لو نظرنا إلى غاندي؛ حقق استقلال بلاده بطرق سلمية، وإحنا ممكن ندرس ثورات العالم كلها ونستفيد، لماذا هم يطالبوا بتغيير الميثاق ولا نطالبهم بتغيير البروتوكولات تبعتهم؟ اللي هي مليئة بأشياء عجيبة ما يقبلهاش أي عقل متحضر؟ طالما نحن ندرك أن التمزيق مش حيوصلنا، وأن الوحدة هي التي توصلنا؛ على الأقل نتحد في النضال لتخليص الأرض من الأعداء.
عملت أيضاً في الكويت، واستلمت مديرة شؤون الموظفات في شركة نفط الكويت، وكان عددهم 450 موظفة من مختلف الجنسيات. أصدرت حكومة الكويت قراراً: لا يجوز لأبناء فلسطين الدراسة في مدارسها. وكان الحل انّه بعد أن ينتهوا الكويتيين من الدراسة في المدرسة يذهب الفلسطيني في المساء للدراسة. وكان هذا أمرا صعباً وشاقاً على الطفل الفلسطيني الذي يعيش في بلد حار. لم أسكت. وكانت نتيجته إني ترمّجت وروّحت؛ ولكني لا أندم على كلمة الحق؛ حتى لو كان على قطع رزقي. بعدها عملت في ليبيا.
في حرب الـ 67 صابني ردة فعل شنيعة، كنت في القاهرة. توجهت إلى تأهيل نفسي، فذهبت وحضرت دورة إسعاف متقدمة في القصر العيني، وبعدين أخذت دورة جودو، ودورة عسكرية؛ إطلاق نار وزحف على البطون، وإحنا حاملين السلاح، قلت: هيك لازم نستعد.
بعدها التحقت بالمنظمة، وفي اتحاد المرأة الفلسطينية. بلّشنا نشتغل وبشكل منتظم، وكنت مسؤولة عن التنظيم الشعبي، في منظمة التحرير، كنا ننادي نحن المسؤولين، إنّه جميع الأطر الفلسطينية تدخل في المنظمة، وتشكل قيادة موحدة لدفع النضال الفلسطيني إلى الأمام. العدو بشتغل بنتعلم منه ونردّ له. هذا كان رأيي.
ما استمريتش؛ لأنه وجدت المنظمة حكي وكلام، فش تغيير كوادر لدفع العمل! أنا ما ركبش على عقلي هذا الحكي، وقلت لهم: لا يجوز، لازم ناس ثانيين، كل إنسان عنده حدّ معين للعطاء. فيه نظام في العالم خمس سنين بتغيّر الرئيس، وإحنا ليش يظله مخلد؟!».
*****
أمينة العيسوي،
عملتِ طيلة حياتك لخدمة العائلة والوطن، باقتدار وحب ومسؤولية، جهرت برأيك في كل موقع شغلته، غير آبهة بالعواقب، ومارست النضال وفق رؤيتك لأشكال النضال المتعددة. عشت حرّة، ورحلت حرة، ولن يرضى أبناؤك وأحفادك بغير الحرية بديلاً؛ حرية الوطن وحرية الإنسان.