في الذاكرة الشعبية الجماعية: ازدهار الشرفا: «من يوم ما انخلقنا وإحنا بنقاوم»
فيحاء عبد الهادي
حفظ التاريخ المدوّن بعض أسماء لنساء شاركن في العمل السياسي فترة الثلاثينيات، والأربعينيات؛ لكنّ التوثيق عبر منهج التاريخ الشفوي، أضاف أسماء عديدة لنساء شاركن بفاعلية منذ الثلاثينيات، من هذه الأسماء: «ازدهار محمد الشرفا» (أم ماهر)، التي ولدت في بئر السبع العام 1930، وهجِّرت منها إلى غزة العام 1948، ثم استقرت في القاهرة، حتى رحيلها يوم 8 آب 2018.
*****
قبل أن تتحدث «ازدهار الشرفا» عن مشاركتها السياسية في الثلاثينيات والأربعينيات، تروي
ذكريات المرحلة السابقة لتهجير العام 1948 مباشرة، هذه الفترة التي لا نجد توثيقاً كافياً لها في التاريخ المدوّن.
تحدثت عن مقاومة الشعب الفلسطيني للمؤامرة التي استهدفت تطهير فلسطين عرقياً، عن طريق العمل المسلح، والعمل السياسي، مثل مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومقاومة بيع الأراضي، والمظاهرات الاحتجاجية. وروت رحلة تهجيرها القاسية.
وعبر شهادتها؛ اتضح مشاركة المرأة الفلسطينية، بالعمل الاجتماعي السياسي غير المنظم، ثم بالعمل الاجتماعي السياسي المنظم، حين أسَّست الاتحادات النسائية، والجمعيات الخيرية.
ويأتي التحاق الراوية بجمعية التضامن النسائي، ثم بالاتحاد النسائي في غزة، ليبيّن بوضوح طبيعة النشاط السياسي الاجتماعي الذي لعبته الجمعيات والاتحادات النسائية، منذ الثلاثينيات:
«لما انسحبوا الإنجليز كنت في بير السبع، صارت الدنيا فوضى، إحنا كعائلة الشرفا عملنا دبابة من العائلة، وكانوا في الخنادق يباتوا ونقاوم ستات ورجال. متذكرة، فيه عندنا كوبانية اسمها بيت ايشل، كانوا يطلعوا عليها زوجي، وأخويا، وشباب بيرالسبع يضربوا نار، وهناك كانت مصفحات الإنجليز هي اللي تقابلهم.
سنة 1948، أجوا أهل يافا علي بير السبع وعلى غزة واللد والرملة. إحنا مين طلّعنا من البلاد إلاّ ضرب الطيران على رؤوسنا؟ والدول العربية إجت تزيد همنا مش تساعدنا.
إحنا آخر ناس طلعوا من بير السبع، بعد 7 يوليو. مع العلم في التقسيم بير السبع كانت في تقسيم الكونت برنادوت في القسم العربي؛ بس النقب عملوها لليهود. انسحبت بريطانيا، ورفعت يدها؛ لكن كل أسلحة الحرب العالمية اللي كانت متخزنة عندنا في فلسطين سلموها لليهود. في نفس الوقت اللي ما كنش العربي يحكم على فشكة يحطها في بيته، كان ينعدم أو ينحكم عليه مؤبد.
بتذكّر إضراب سنة 1936، كان عندي 6 سنين. فلسطين كلها سكّرت 6 شهور طويلة. كلها احتجاجات على الإنجليز. الفلسطينيين من وقت ما صدر وعد بلفور وهما بيقاوموا. كان قرار ظالم، والظلم لغاية اليوم مستمر والعالم شايف.
كنت وقت المقاطعة لما صدر قرار من الفلسطينيين؛ صار مقاطعة تمام تمام. بهداك الوقت قبل قرار التقسيم كمان كان فيه مقاطعة. هالشعب الفلسطيني أكثر شعب في العالم ناضل. من يوم ما انخلقنا واحنا بنقاوم. عندنا شباب والله ترميها على الموت ما كانوا يعرفوا طعم للحياة، ويقاوموا ستات ورجال.
لما رحلت كان دولابي مليان قنابل (ميلز). أقسم بالله أكثر من 30 قنبلة ميلز كان عندي في درج الدولاب بتاع الأوضة تبعتي، وكان عندنا مدفع استنجن وبرنجن وبارودة كندية.
الوالد خرج من يافا بعد ما عملوا هجوم تبع سوق اسكندر عوض عند الساعة. مش بس انتكب في يافا؛ كمان في بئر السبع. رجع على بئر السبع، قال: أرجع على وطني الأساسي. للأسف الشديد بعدها طلعنا إيد وراء وإيد قدام. ضلينا في الخلاء مدة أسبوع ونحن مش عارفين أي طريق اللي حتودّينا على أي بلد. عائلات الشرفا طلعوا كلهم مع سوا؛ وقعدوا في هالخليان لغاية ما وصلنا العوجا. هناك كان إخواننا المصريين لسّه ضايلين، فأخذنا الجيبات وطلعنا. كان إلنا، حماي، تجارة في غزة بس والدي ما كان إله إشي في غزة، إحنا أنا وزوجي لقينا محل في غزة نعيش فيه؛ بس بالنسبة لوالدي كثير انضاموا.
من يوم عرفت الحياة وأنا شايفة النشاط النسائي. من وقت ما كان عندي 6 سنين. كان عندنا جمعية اسمها جمعية التضامن النسائي، وكان ترأسها «لولو أبو الهدى»، سنة 1940 أو 1941، وكانوا وقتها «أم نبيل النشاسيبي» ومرة «إسحاق النشاشيبي»، وقبله كان «عارف العارف» قائم مقام. هو وزوجته وبناته، وبعدين بعده إجا «إسحاق النشاشيبي». فكل زوجة قائم مقام كان هي ترأس السيدات اللي في المدينة.
كان دور الجمعية إنساني، محو الأمية، أنا ماكنتش لسّه طالبة في المدرسة، ولكن كانوا يحملوني دور، في أيام الإجازة نروح ناخذ البنات الأمّيّات؛ لأن كثير فيه ناس عندهم بنات ومش مودّينهم مدارس، فكنا دورنا نروح نعطيهم دروس، كان التضامن النسائي، تربوي ثقافي، وتوعية سياسية.
ما كانوا كلهم مواليد بير السبع. كانت هناك أمي «صبيحة أبو شعبان»، وفيه مدام «نصفت كمال»، و»إم مصطفى التركماني»، بيت الرمادي، بيت الناجي، بيت الجاعوني، كان «سعاد الأعظمي» ناظرة مدرسة، كان وقتها حرم «عارف العارف»، «أم سمير البورنو»، «أم نبيل النشاشيبي»، ومدام «تاج الدين شعث». «لولو أبو الهدى» من أبوغوش من القدس، كانت تيجى في أيام معينة.
أنا تعلمت شوية على العود؛ في بيرالسبع؛ لكن ما ضلّيتش على طول. علمتني مدرِّستي «وداد حجاوي»، وكانت «أم مصطفى التركماني»، تلعب عود كويس، كانوا باستقبالات والدتي يدقوا على العود، ومن كثر شغفي بالموسيقى، بناتي علمتهم بيانو، وزوجي كان محروم من العلم لأنه أبوه طلّعه من المدرسة علشان يساعده بالشغل، فكان يقول: ما بزوّج بنتي إلاّ لما تخلّص تعليمها.
في الستينيات وقبل حرب 1967، كان تدريب في الاتحاد النسائي، في غزة، على الإسعافات الأولية، وعلى السلاح، منهم أنا، «أم حسين البطة»، «ام رياض العلمي».
الاتحاد عبارة عن توعية للواقع اللي إحنا عايشينه، فالاتحاد إثبات وجود للمرأة الفلسطينية».
*****
حين نتأمل شهادة الراوية؛ نلاحظ وعياً عميقاً لمفهوم العمل السياسي، حيث تداخل الثقافة والتربية والسياسة.
ازدهار محمد الشرفا، ابنة فلسطين الوفية، اطمئني، سوف يستمر الشعب الفلسطيني بالمقاومة بأشكالها كافة، نساء ورجالاً، حتى النصر أو النصر، ومكانك سوف يبقى في قلوب محبيك، وفي ذاكرة الشعب الفلسطيني الجماعية.