رسالة من أينشتاين إلى نتنياهو: الفاشية انتصرت في "إسرائيل"
في الرابع من كانون أول/ ديسمبر عام 1944 نشرت صحيفة نيويورك تايمز رسالة علنية كتبها الفيزيائي ألبرت أينشتاين إلى جانب شخصيات أخرى، جاءت بعد بضعة أِشهر مما يسمى إعلان استقلال "‘إسرائيل" الذي ترافق مع تدمير وتهجير مئات القرى الفلسطينية. حملت الرسالة استنكارا شديدا لسياسات وممارسات حزب حيروت المؤسس حديثا في حينه وزعيمه مناحيم بيغن. من المعروف أن حيروت نم نحته من عصابة أرغون الإرهابية، التي اشتهرت بالمذابح العديدة ضد القرى والمجتمعات الفلسطينية وهي أفعال أدت إلى النكبة إلى جانب غيرها من السياسيات الصهيونية.
في الرسالة، وصف أينشتاين وغيره حزب "حيروت" والتي للمفارقة السخيفة كلمة تعني "الحرية" بأنه "حزب سياسي أقرب ما يكون في تنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية للأحزاب النازية والفاشية".
هذه الرسالة وبهذه اللغة الحادة في الأوساط اليهودية والتي تنشر بعد وقت قليل من "الهولوكوست" هي مؤشر مبكر عميق على الهوة التي كانت قائمة بين المثقفين اليهود في ذلك الوقت: الصهاينة الذين دعموا "إسرائيل" وولادتها العنيفة، وأولئك الذين أخذوا أرضية أخلاقية عالية واعترضوا عليها. ولعل هذا يذكرنا بافتراق آخر بين آحاد هاعام وهرنزل والذي يتلخص في أنه بينما سعى الأول إلى إنقاذ الروح اليهودية كرس الثاني جهوده لإنقاذ اليهود حتى لو أدى الأمر للتضحية بالروح اليهودية ذاتها وهو ما يراه أمرا واقعا العديد من المفكرين معارضي الصهيونية. ومن الواضح أن المجموعة التي مثلها أينشتاين قد خسرت المعركة ولكن موضوعيا لا أحد يستطيع إنكار أنها ما تزال موجودة.
جاء "حيروت" من تنقيحية جابوتنسكي، ولا يمكن الادعاء الآن أن جابوتنسكي كان الاستثناء وليس القاعدة في الحركة الصهيونية السياسية، ألم تكن سياسات بن غوريون (الاشتراكي) حيال الشعب العربي الفلسطيني من حيث الجوهر متطابقة كلياً مع النهج الذي نادى به جابوتنسكي؟ ولعل الواقعة التاريخية بقيام أشكول (الاشتراكي هو الآخر) بنقل رفات جابوتنسكي من نيويورك إلى تل أبيب حيث دفنت في جبل هرتسل جنباً إلى جنب مع الآباء المؤسسين في إشارة بليغة إلى الواحدية الصهيونية وعدم وجود أي فروق في الجوهر.
والمثير أن ادعاءات الحزب الشيوعي اليهودي نفسه (فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي) لم تكن بعيدة عن أفكار جابوتنسكي فقد زيف الحزب جوهر المسألة اليهودية زاعما أن الحل الفعلي لهذه المسألة لم يكن إلا عن طريق هجرة العمال اليهود بالجملة إلى فلسطين حيث لابد أن تحدث (ثورة أكتوبر الصهيونية) بكلمات أخرى تتردد أفكار جابوتنسكي العرقية في غلاف اشتراكي براق.
وفي الحقيقة تشير الوقائع كلها، التاريخ السياسي وتاريخ الأفكار وتاريخ الممارسات إلى أن جناحا الصهيونية بقيادة جابوتنسكي وبن غوريون كانا يعملان معا رغم كل الخلافات الظاهرة، وفي عام 1934 وقع بن غوريون وجابوتنسكي في لندن اتفاقية «التعايش السلمي» بهدف التعاون بين الجناحين لما فيه أفضل أداء صهيوني.
وقد كتب العالم السياسي "الإسرائيلي" إسرائيل سفره «بن غوريون، رغم أنه خصم متحمس لجابوتنسي وحركته التنقيحية، كان يطبق على أرض الواقع جميع أفكار جابوتنسكي الأساسية حول فكرة (الدولة اليهودية) وتفوقها على جميع الأفكار والمؤسسات الصهيونية وحول عبادة القوة وحول الجيش الذي يجب أن يصبح (مدرسة قومية للحياة المدنية)».
ويمكن القول أن بن غوريون كان يتكلم بلسان جابوتنسكي وهو يخطب عام 1956 في مؤتمر ماباي «إن رسالتنا التاريخية تتلخص في أن تكون شعبا مختارا وتقيم موديلا جديدا من المجتمع وفقا للقيم الخلاصية لأنبياء إسرائيل ونبوءتهم بيوم الحساب» ويكون «اليهود هم أحد الشعوب المتميزة القليلة التي لعبت دورا فريدا في تاريخ البشرية».
ومن المعروف أن "حيروت" اندمج فيما بعد مع مجموعات أخرى لتشكيل حزب الليكود. وأصبح الليكود الآن الحزب الرئيسي في أكثر ائتلافات الحكومة اليمينية في "إسرائيل"، لقد سادت فلسفة الحيروت "النازية والفاشية"، وهي الآن تجتاح وتعرف المجتمع السائد في "إسرائيل". وهذا الاتجاه اليميني أكثر وضوحًا بين الشباب "الإسرائيليين" مقارنة بالأجيال السابقة.
حاليا يقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على رأس حزب بيغن، ويضم ائتلافه الحالي أسوأ الشخصيات والاتجاهات ربما في تاريخ الحركة الصهيونية، ولعل أبرزهم وزير الحرب المولود في روسيا أفيغدور ليبرمان، الذي وصفه صحفي "إسرائيلي" أنه الشخصية الأكثر إثارة للكراهية والاشمئزاز في الساحة السياسية.
ليبرمان اقترح حلا سياسيا عنصريا أحد بنوده ترحيل 90% من المواطنين العرب إلى الضفة وقام بعرض هذه الخطة خلال لقاءه مع مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما قام بعرضها على سفير الاتحاد الأوربي في إسرائيل، كان ذلك قبل أن يقرر الكيان أن الضفة هي أرض "إسرائيلية" لا يمكن التخلي عنها أيضا.
وعبر دعمه لحكم الإعدام للمقاومين الفلسطينيين، وتبريره بجهد ملحوظ عمليات القتل ضد الفلسطينيين ووقاحته العنصرية قال ليبرمان أنه "لا يوجد أبرياء في غزة" وتلك وصفة للقتل خالصة، ما دام لا يوجد أبرياء فلاداعي لضبط أوامر إطلاق النار، ويمكن تحويل غزة إلى منطقة صيد حر للقناصة الصهاينة. الذين لا يترددون في استجابة مباشرة لعقيدة وزيرهم في التسابق على قنص الأطفال الفلسطينيين، والتهليل وتصوير الأفلام لعمليات القتل.
رغم ذلك علينا أن لا ننسى أن عمليات القتل الصهيوني للفلسطينيين ليست صدفية وليست نتيجة لانفلات التوحش الغريزي بل إنها تماما كما عمليات النازيين شديدة التنظيم وتنتج عن بيروقراطية هرمية معقدة لا تترك مجالا لأي شك حول طبيعة النظام. ما يعني أنه لا يمكن إيجاد أي شك يحيط بالطبيعة الفاشية للخطاب الصهيوني الذي ينتج هذا الفعل، وهو بأي حال من الأحول يعتبر من السخف اعتباره خطا هامشيا داخل المجتمع "الإسرائيلي".
أيليت شاكيد من "البيت اليهودي" وهي الآن تشغل لمصادفة سخيفة أخرى منصب وزير العدل، وهي قد دعت مرارا لإبادة الفلسطينيين، مستندة على ايدلوجية تلمودية كريهة وغارقة في العنصرية فقد سبق أن كتبت إن " الفلسطينيون جميعهم مقاتلون أعداء ، ودمهم سيكون على كل رؤوسهم" ، على الفيسبوك عام 2015 مضيفة "وهذا يشمل أيضًا أمهات القتلى الإرهابين ... يجب أن يزالوا". وبعد بضعة أِشهر من هذا التصريح كوفئت بأن عينها نتنياهو وزيرة للعدل.
زعيم شاكيد في "البيت اليهودي" شخص كريه آخر، عنصري مقيت، يؤمن بشكل مطلق بخرافات التوراة، وهو نفتالي بينت، وزير التربية والتعليم في "إسرائيل" تصريحاته ليست طبعا أقل عنفا من زميلته.
وهكذا بدون الاستطراد فإنه في الذكرى السبعين لولادة الكيان الصهيوني نجد أن عقيدة "حيروت" وريثة عقل جابوتنسكي الفاشي هي التي تحدد طبيعة "إسرائيل" عندما لا يخجل زعماؤها من الحديث علنا عن القتل الجماعي للفلسطينيين وإبادتهم. حيث أن الصراع الداخلي الصهيوني الأيدلوجي والثقافي من الواضح أنه تم حسمه لصالح العنف الدائم والعنصرية والفصل العنصري.
و هذا العصاب الجماعي الإسرائيلي يتأسس عميقا في البنية النفسية لمجتمع المستوطنين الصهاينة في فلسطين ، ولئن كان العصاب حسب تعريف جورج طرابيشي هو كل خلل أو اضطراب من طبيعة مرضية يصيب الشخصية أو قطاع منها نتيجة لتمحورها حول عقدتها النفسية فان «العقدة» التي ينتظم حولها العصاب الجماعي الإسرائيلي هي عقدة الاعتراف بالشعب الفلسطيني ، هذا العصاب يأخذ شكل جموح أيدلوجي مدجج بالفكر الصهيوني الذي يأخذ في جانب منه شكل وباء نفساني.
وفي مجتمع محكوم بايدلوجية الحرب والحصار، يصبح الإرهاب نوعا من الفلسفة التي تعكس حال الحرمان والبغض والحقد الأعميين، لا تكف الفاشية عن اغتصاب اللغة، يصبح الكلام بمثابة القنابل، ولن نستغرب أنه لو عاش أينشتاين إلى الآن لوصف بأنه معاد للسامية و"يهودي كاره لنفسه" ولعبة في يد الفلسطينيين.