محمود عباس: مهندس " أوسلو" أم مجرد أداة!
في الواقع لو لم يكن السيد محمود عباس يشغل عدة مناصب، في مقدمتها منصب رئيس السلطة الفلسطينية، لما تم التطرق لما يقول ولما لفت انتباه أبسط الصحفيين حتىأقلهم مهنية فهو ليس متحدثاً لبقاً ولا يتمتع بكاريزما " القائد "، لكن أهمية القضية الفلسطينية والدور المناط به لعبه وتأديته يجعل من متابعة كل ما يقوله ويفعله مهم، لأنه يؤشر بشكل مباشر وواضح للاتجاه السياسي " للقدم " الفلسطينية الرسمية، ولمعالم التوجهات الصهيوأمريكية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
إنه يستبق طرح المواضيع ويتخذ المواقف قبل أن يطلب منه العدو اتخاذها أو يذهب أحياناً إلى أبعد ما يُطلب منه، بسبب خبرته في التسويات والمعرفة الكافية بأساليب " الإسرائيليين " الذين كانوا " يستعملونه للضغط على عرفات من أجل اقناعه لقبول الطرح " الإسرائيلي"أو التعديلات المقترحة في مسألة ما " كما يقول "دينيس رووس" في كتابه السلام المفقود. وإلا كيف يمكن تفسير موقفه من مسألة الكفاح المسلح، الذي يصل رفضه له إلى درجه غير مسبوقة فهو يقول "ممنوع استعمال السلاح، أو نقله أو تخزينه أو حتى رؤيته "، إن موقفاً كهذا يؤشر أن الرجل لا يخُضع مواقفه واتفاقياته مع العدو لميزان القوى بل لقناعات أيديولوجية وفكريه تجعله أقرب للمعسكر الآخر من المعسكر الوطني.
بلا شك أيضاً لربما هو الشخصيةالسياسية- على الأقل فلسطينياً - الوحيدة التي دافعت عن ضرورة وجود " دولة اسرائيل " بقناعة منقطعة النظير. فقد أبلغ وفد من الشباب الصهاينة التقى بهم في المقاطعة" أن إسرائيل وجُدت لتبقى، وأن صفد إسرائيلية وإن ذهب إليها يذهب كسائح"، وبنفس القدر الذي يقترب فيه من "اسرائيل " وأهدافها يبتعد عن فلسطين واستراتيجيتها. فهو لا يرى بديلاً عن أسلوب " المفاوضات " ويعتبر الكفاح المسلح أو " العنف " كما يسميه إرهاباً يأتي بالكوارث على الشعب الفلسطيني. يعمل على تعزيز أسلوب العيش التجاري الاستهلاكي وإغراق شريحة كبيرة من شعبنا بالديون البنكية، على حساب ثقافة المقاومة والتحمل والتضحية التي تلازم، أو من المفترض أن تلازم، الكفاح المسلح وعملية الاستعداد له من قبل شعب وطنه كله مسُتعمر ومحُتل عسكرياً.
من الواضح أن الرئيس محمود عباس، لا يدع لنفسه أي هامش من هوامش المناورةأو التكتيك السياسي الذي ممكن أن يساعده في لحظه ما للخروج من مأزق، وهذا ليس صدفة لسياسي" متمرس "، بل لأنه يعتقد أن الواقعي والمعقول هو ما تقبل به " اسرائيل " وما تقبل به "إسرائيل" هو " ما تريده الإدارةالأمريكي، التي تستعمل ما يُسمى باللوبي اليهودي كذريعة لتمرير سياساتها في المنطقة " كما قال في مقابله مع برنامج دوسيير الشهير الفنزويلي.
إن تفحص أسلوب " المفاوضات " وخاصة على الجبهات الثلاثة يؤكد أن، لا اتفاقيات "كامب ديفيد"، ولا اتفاقيات وادي عربة ولا اتفاقيات أوسلو، صيغت من "مشرعين أو متخصصين " في هذه المجالات من الوفود العربية.
لقد كان دورهم هو قبول أو تعديل الاقتراحات " الإسرائيلية " والأمريكية التي كانت تقدم لهم بشكل جمل متناثرة تم دمجها لاحقاً بديباجات لتلميعها لتخرج بشكل اتفاق، إنها صياغات سياسيةوقواعديةوأيديولوجية تُعّبر بشكل كامل عن رغبة وتوجهات الإمبرياليةوالإدارةالأمريكيةوالحركةالصهيونية وكيانها لا تترك أي مجال، لا لإمكانية تطويرها للأفضل "وطنياً" أو " استثمارها " ولو تكتيكياً لتغطية عورات الموقعين عليها، مما يتطلب إنهائها وإلغائها بشكلٍ تامٍ كوسيلة وحيدةٍ للتحرر من قيودها.
وكل من هيأ أو شارك عربياً وفلسطينياً في جولات المساومات المكوكية منذ "كامب ديفيد السادات" مروراً بوادي عربة وأوسلو، التي أفضت عن أهم انجازات الحركةالصهيونية سياسياً والتي تمثل ثمرة انتصارات كيانها العسكريةالعدوانيةالاستعماريةوالتوسعية، لا يمكن له إلا أن يكون أداه تنفيذية محدودة الصلاحيات ، لأن المنتصر يتحكم بإمكانيات وإرادة المهزوم ، عندما يقر الأخير بهزيمته، ولم يشهد لا تاريخ الحروب ولا تاريخ المساومات أن يكون هنالك توازن في اتفاقياتبين طرفين يحكمها اختلال كبير، بل هائل، في موازين القوى على الأرض.
لهذا، إن استهلاك أكثر من عقدين من الزمان في " تحليل ودراسة " الاتفاقيات الموقعة من قبل القوى الرافضة لها، على الأقل فلسطينياً، هو هروب وتهرب من استحقاقات المواجهةالشاملةالفعليةوالاستراتيجية مع الاحتلال وكيانه، مما يضاعف الأخطار المحدقةبالقضيةالفلسطينية التي لا تأتي من المشاريع التي تستهدفها امبريالياًوصهيونياً فقط بل من استمرار تعطيل وعرقلة استراتيجية المواجهةالنضالية من قبل المنتفعين والمستفيدين من هذه الاتفاقيات، وكذلك من التأجيلغير المبرروالتلكؤ في ممارسة حرب التحرير الشعبية من القوى الرافضة لها بحجج مختلفة، التي كشفت ظهرها للعدو باعتمادها أسلوب العمل العلني في مناطق " أوسلو المحررة" ركضاً وراء الكسب الانتخابي على حساب التأييد الجماهيري الفعلي النضالي الذي تفتقد له في هذه المرحلةالعصيبة.
كون التاريخ لا ينتهي ولا يرحل بل يستمر في السير، صعوداً ونزولاً والتفافياً، فإن هنالك متسع لبدايات كان من المفترض أن تقوم في زمن ما، فإن قامت الآن وبزخم الماضي فإنها تعوض عن مسافة الزمن أو كما يقول لينين قائد ثورة أكتوبر العظيمة" يوم من العمل الثوري المسلح يطور الحركةالثوريةأكثر من مئة عام من النضال السلمي" عندها ينتهي دور المهندسين الصهاينة وأدواتهم التنفيذية على يد الشعب وقواه المناضلة ويسقط الاثنين في المستنقع بلا عودة.