رواية الرقص الوثني وكتابة التاريخ
أ. سامي قرّة
لا يمكن الحديث عن رواية الرقص الوثني أو دراستها دون البحث في السياق التاريخي والثقافي للمؤلف الأستاذ إياد شماسنة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالناقد الذي يحاول تحليل الرواية وأحداثها، إذ هو الآخر يكون شديد التأثر ببيئته واعتقادته وأيديولجيته. وسوف لا يجد القارئ أو الناقد الفلسطيني أية صعوبة أو عائق في التعاطف مع سليمان بن إبراهيم مثلا ذلك الشاب المحامي الذي يتمتع بأخلاق رفيعة وولاء لوطنه، والشعور بالحقد تجاه إدريس؛ لأنه سارق آثار وعميل. وعلى العكس من ذلك، قد يُبدي القارئ الإسرائيلي للرواية تعاطفًا مع تسيبي وبن أورون وبنيامين بن يهودا؛ لأنهم يعكسون فكر المجتمع الإسرائيلي العام ومعتقداته السياسية والثقافية.
من المواضيع الهامة التي تطرحها الرواية موضوع كتابة التاريخ أو إعادة كتابته من جديد. وعادة يتناول المؤرخون الأحداث التاريخية من وجهات نظر متعددة، وكما يقول البطل القومي الفلبيني خوسيه ريزال بأن "كل شخص يكتب التاريخ حسبما يناسبه" (ص 9). لذلك علينا أن نميّز بين تاريخين: التاريخ الموضوعي الذي يجيد سرد الوقائع التاريخية والتثبت منها من مختلف المصادر وتأويلها، والتاريخ الذاتي الذي يهدف إلى تحقيق مآرب قد تكون أيديولوجية استعمارية سلطوية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما يقوله مسلم أسأر بأن "الدولة هي من تعيد كتابة التاريخ" (ص 50)، نستطيع القول أن الدولة تخيط لباس تاريخها ليناسب مقاس سياستها. أثناء الحديث عن ديمقراطية إسرائيل وأزمتها الأخلاقية تقدم تسيبي نصيحة هامة لزوجها البروفسور بن يهودا الذي يبغي كتابة رواية وتقول له: "لا تخدع نفسك، أنا وأنت نعرف أن هذا تسويق إعلامي، أريد أن يذكرك التاريخ بالموضوعية، والتسامي، وأن تناقش الأخطاء كما تناقش الفضائل وأمجاد الآباء" (ص 70). فالتاريخ إذن يجب أن يُكتب بموضوعية ويسلط الضوء على أخطاء الأجداد كما على فضائلهم. ويؤكد مسلم أسأر عند الحديث عن بناء الدولة أن للشعوب أخطاء وأن لها إنجازات أيضًا، لكنه يشدّد على أن "الدولة هي التي من يعيد كتابة التاريخ ... من يدفع لكتّاب التاريخ، وللمؤرخين، ويدفع لهم مقابل إثارة قضايا مختلفة تخدم المشاريع السياسية في المستقبل" (ص 50). تحتار تسيبي في زوجها بن يهودا الأكاديمي المعروف، وتتساءل ما إذا كانت أبحاثه تهدف إلى اكتشاف الحقيقة العلمية أم أنها تهدف إلى توظيف التاريخ لخدمة اقتصاد الدولة ومؤسساتها الأمنية؟
عندما أقرأ كتابًا فإني آخذه على محمل الجد، ولهذا كنت كلما مررت على حدث تاريخي يرويه مؤلف الرواية الأستاذ شماسنة أبحث عنه في كتبي أو عبر مواقع الشبكة الإلكترونية؛ كي أتحقق من صحة الأحداث التاريخية، ووجدت أن كافة الأحداث التاريخية صحيحة وقد وقعت بالفعل، أي أن في كتابة روايته يعتمد الكاتب على وثائق تاريخية؛ كي يخلق عملا أدبيا تماما كما توصي تسيبي زوجها حين تقول له: "أكتب حكايتك مع الوثائق، أكتب حكاية الوثائق" (ص 69). وقد صرّح الكاتب أثناء حفل توقيع الرواية في 13 ايلول 2017 "إن العمل على الرواية استغرق قرابة السنتين من البحث والمقابلات والكتابة والمراجعات حتى خرجت إلى النور". لكن تجدر الإشارة هنا إلى أنه من المجحف الإدعاء بأن الرواية عمل تاريخي محض؛ فهي تجمع ما بين التاريخ والخيال الأدبي اللذين ينعكسان في أسلوب السرد الذي يستخدمه المؤلف، وهو مزيج من الأسلوب الصحفي والأسلوب القصصي الروائي.
يقدّم الكاتب على لسان الراوي التاريخ المعاصر للصراع الفلسطيني-الإٍسرائيلي من وجهة نظرة خاصة به، فهو في نهاية الأمر كاتب فلسطيني يتحدث عن الظلم التاريخي، الذي حلّ بشعبه، وكيف أن شعبا آخر استولى على أرضه بمساعدة بعض الدول الأجنبية والعربية كي يبني دولته. تتضمن الجملة الأخيرة من الكتاب دلالة على أن العمل الروائي هو من صنع الكاتب نفسه إذ يقول: "فالرواية جملة وتفصيلا هي لروائي من القدس، هو الذي خلق الشخصيات، وابتكر المؤامرة الإبداعية" (ص 314). وعن طريق سرد العديد من الأحداث التاريخية ونتائجها وأثرها على الشخصيات الفلسطينية والشخصيات الإسرائيلية، نستطيع اكتشاف العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي يحكمها الشعور بالعداء والكراهية. فنجد على سبيل المثال ما يميز العلاقة بين بن يهودا وإدريس هو الشك وانعدام الثقة والشبهة على الرغم من تعاملهما مع بعضهما البعض في مجال التهريب. يقول أمنون شامير بعد أن استفزه سليمان بن إبراهيم عندما قال أن الجدار في الرملة له وجها عنصريا: "العرب يشكلون الخطر، يرغب اليهود في أن يعيشوا بعيدا عن العرب المليئين بالجرائم والمخدرات" ص91.
لكن مقابل علاقة الكراهية والعداء هذه نجد علاقة حب جميلة تحاول أن تتخطى الحواجز السياسية، وتخلق مستقبلا أفضل، وتمهّد الطريق لتأسيس تاريخ جديد. تجمع هذه العلاقة بين المحامي الفلسطيني من اللد سليمان بن إبراهيم والشابة الإسرائيلية استير ابنة بن يهودا المتعصب لهويته اليهودية وتسيبي التي تبدي استعدادا للتخلي عن مبادئها للحصول على مقعد في البرلمان. كلا الحبيبين يحاولان تحدّي التاريخ وخلق تاريخ جديد يتسم بالتعايش وقبول الآخر. وهذا ما تعكسه رواية المؤلفة الإسرائيلية دوريت رابينيان التي تحمل عنوان حياة الحدود الوارد ذكرها في الرواية (ص 40). تثير رواية حياة الحدود العديد من التساؤلات بشأن الهوية الوطنية والاندماج بين العرب واليهود. تحكى الرواية قصة امرأة يهودية من تل أبيب تدعى يات تسافر إلى نيويورك فى أواخر الثلاثينات من عمرها، بسبب منحة دراسية، كما أنها تلتقى ببطل الرواية حلمي الشاب الفلسطينى الذى يعمل فنانا تشكيليا، يعيش فى رام الله ثم يتجه إلى نيويورك أيضا حيث تبدأ بينهما علاقة حب. ترمز علاقة الحب بين استير وسليمان وبين يات وحلمي إلى الدولة التي يعيش فيها شعبان بسلام وعدالة للجميع. تقول استير لأبيها: "أنا أحب سليمان وهو كذلك، نحن الإثنان مقتنعان أن الوطن يجب أن يكون للجميع بعدالة: لكي نعيش بسلام في هذه الدولة ... دولة وشعبان كما يقول إيلان بابيه" (ص 46).
إيلان بابيه هو أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد، ويرد في الرواية عدة أسماء هامة تنتمي إلى مجموعة من علماء التاريخ الإسرائيليين يُعرفون باسم المؤرخين الجدد ومن ضمنهم إضافة إلى إيلان بابيه، بيني موريس، آفي شلايم، شلومو ساند ويتسحاق شاحاك. وباختصار هؤلاء المؤرخون يحاولون إعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي لدحض الفكر الصهيوني الذي يلخصه بن يهودا بقوله إلى ابنته إستير: "هذه الأرض لنا. كم مرة أخبرتك أن الرب أعطاها لنا قبل ثلاثة آلاف سنة، وستبقى لنا. لقد تركها السكان استجابة لعبد الناصر، لو كانوا يحبونها أو ينتمون إليها ما تركوها" (ص 46). ويحمّل المؤرخون الجدد إسرائيل المسؤولية بشأن المأساة الفلسطينية. على سبيل المثال، يُخبرنا موريس في لحظة اعتراف منه بالحقيقة في كتابه ضحايا على حق أن الهدف الرئيسي من وراء الصهيونية هو تشريد السكان الأصليين الفلسطينيين وترحيلهم عن أرضهم؛ لأنه لا يمكن للصهيونية أن تقيم دولة يهودية خالصة دون التخلص من السكان العرب، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة. ومن وجهة نظر إستير، تشكل مثل هذه الأقوال اعترافًا "من أجل الغفران، الاعتراف جزء من راحة الضمير" (ص 68).
تبيّن رواية الرقص الوثني على أن هنالك روايتين تاريخيتين ترتبطان بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، ويبدو أنهما روايتان متناقضتان تحاول كل منهما تفنيد الأخرى. غير أنه ينشأ عن هذا التناقض رواية تاريخية ثالثة هي رواية قبول الآخر والاعتراف بتاريخه وشرعيته. يقبل في نهاية الرواية بن يهودا بالرواية التاريخية الفلسطينية ويعترف "في وصيته ورسالة من محاميه إلى دار مساءات ... وتطلب نسب الرواية ]رقص الكولونيل] إلى محمد خالد وفاء لذكرى البطل خالد عبد الحق، ووالده سعيد" (ص 314).