السبت 23-11-2024

عبدالله دعيس:عشاق المدينة وتراث القدس

×

رسالة الخطأ

موقع الضفة الفلسطينية


04 PM


عبدالله دعيس:عشاق المدينة وتراث القدس

صدر كتاب عشاق المدينة للكاتبة المقدسية نزهة الرملاوي قبل أسابيع قليلة، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه لوحة لشهاب القواسمي وصمّمته رشا السرميطي في 155 صفحة من الحجم المتوسط.

تعلن الكاتبة نزهة الرملاوي منذ البداية عن هوية نصوصها وبطلتها الحقيقيّة. إنّها القدس، بشوارعها وحاراتها وأسواقها وأزقتها وحجارتها ومساجدها وكنائسها، وما الشخوص الأخرى إلا ظلال تتحرّك فيها، وأخيلة على جدرانها. وهي، أي المدينة، هي القلب النابض الذي يحركهم في أرجائها، ويرسم حكاياتهم على جدران أزمانها.

فالكتاب، هو مجموعة من المذكّرات، تصيغ فيها الكاتبة حكايات البلدة القديمة بأسلوب أدبيّ مشوّق، تشدّ القارئ وتأخذه في رحلات عبر الزمن إلى الفترة التي سبقت حرب عام 1967، والسنوات التي لحقت هذه الحرب، وتتجوّل به الكاتبة في كلّ زقاق من أزقة المدينة الموغلة في التّاريخ، وتأخذه خلف تلك الجدران السميكة، ليعيش مع ناسها، ويرى بأمّ عينيه التفاعلات الاجتماعيّة المميّزة لتلك المدينة الصغيرة، وهي تتجرّع مرارة الهزيمة عام 1948 وتحتضن بعض اللاجئين الذين غادروا قراهم ومدنهم؛ ليصبحوا جزءا من النّسيج الاجتماعي للمدينة، ويتفاعلوا مع أبنائها الذين يحملون أصالة مئات بل آلاف السنين، ويحملون مسحة من كلّ حضارة استوطنت داخل هذه الأسوار، وتركت خلفها إرثا في ثقافة أبنائها.

لم تستفق المدينة من مرارة النكبة حتّى هزّتها هزيمة جديدة، وهرع الأعداء داخل أسوارها يشتّتون نسيجها الاجتماعيّ من جديد، ويعملون في جسدها دمارا وخرابا؛ حيث هدموا عددا من الحارات المقدسيّة العريقة، مثل حارة الشرف والمغاربة، ومحوا معها حكايات أناس استوطنوها لقرون. فالحارة ليست حجارة ومباني وأزقة وحسب، بل هي حكاية كل من عاش فيها، حظي بلحظات من السّعادة، أو ساعات من البؤس والشّقاء، فالحجارة كانت شاهدة على حضارة عريقة حاول العدوّ اجتثاثها، لكنه لم يفلح  باجتثاث تاريخها وإلقائه معها بعيدا عن المدينة، كما ألقوا أهلها في مخيمات اللجوء.

لكنّ التاريخ يعيش في القلوب قبل أن ينقل إلى الورق، والعادي الطارئ لا يستطيع، مهما حاول، أن يصنع تاريخا مزيّفا؛ لأنّ المكان لم يحتضنه يوما ولم يخلّد له حكايات في أرجائه. والكاتبة هنا، ومن واقع تجربتها الشخصيّة، ومعاصرتها لآلام المدينة، واطّلاعها على حكاياتها، تخلّد هذه الحكايات؛ لتضع خنجرا في خاصرة الرواية الصهيونيّة المزيّفة، فتجعل القدس شخصيّة حيّة، تنبض بالحياة وتتحدّث العربيّة كما كانت وما زالت، فهي مرّة الأمّ الحانية، ومرّة الحبيبة والعشيقة، تفرح وتحزن وتغضب وتتألّم، وتبقى حيّة في القلوب، تتزيّن بثوبها المطرّز الجميل، وتضع عنها كلّ الأسمال المزيّفة التي يحاول العدو أن يلبسها إياها، فتبدو بهيّة بسمرة وجهها التي اكتسبتها من أصالة المكان، ويبدو العدو بوجهه الشاحب غريبا طارئا لا علاقة له بعراقة المكان وثقافته.

وتسرد الكاتبة حكايات النّاس وثقافتهم، بحلوها ومرّها، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها. فهناك نرى كلّ ما نستطيب سماعه من عادات الأعراس والمناسبات، والحياة في أكناف الأقصى، والمدينة التي تتزيّن لشهر رمضان المبارك، وأهلها الذين يحوّلون الشهر إلى حلّة جميلة تستقبل زائريها، ونرى هيبة الرّجال وهم يجوسون الحواري بشواربهم المفتولة، فتنزوي النّساء وترتعد فرائصهنّ، ويفرّ الأطفال، ونرى عصا الزوج الغليظة وهي تنهال على جسد امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوّة، ولا تجد ملجأ لها غير الصّبر على الضّيم، وتقبّل الزوج مهما كانت صفاته وأخلاقه. قد يسوؤنا بعض ذلك، لكنّ هذا الثوب وإن كان خلقا، يزيّن جسد هذه المدينة بأصالته وعراقته، وهي ترفض ثوبا مزركشا يلبسه لها العدوّ بعيدا عن أصالتها.

تلجأ الكاتبة إلى لغة إنشائيّة بسيطة محكيّة، تتناسب مع موضوع الكتاب، ليعيش القارئ مع بساطة اللغة، بساطة الناس التي تحكي الكاتبة ذكرياتهم، وتركّز خلال كتابتها على المكان وأسماء الأماكن، وتحاول أن تستخدم الأسماء الشائعة في المدينة ولدى سكّانها، وتذكر الشخصيّات الشعبيّة البسيطة الذين عرفهم أهل المدينة وأصبحوا جزءا من تراثها، وإن لم تكن شخصيّات عامّة مؤثرة، أمثال (أبو ذان) المطهّر مثلا. ولذلك تلجأ الكاتبة إلى الاستطراد، فتنتقل من حكاية إلى أخرى ومن زمن إلى آخر حتّى لا تهمل أيّا من معالم المكان أو الزمان.

تروي معظم النصوص طفلة أنثى مجهولة، طفلة كانت تعيش في تلك المرحلة وتتطلع على ما يجري في بيوت القدس، وترقب أمها وجاراتها ورجال المدينة وأطفالها، وتحكي عمّا شهدته من أحداث بسيطة، لكنّها مثيرة، وتعطي صورة واضحة عن الحياة الاجتماعيّة في المدينة. والكاتبة تعطي لهذه الطفلة أسماء مختلفة في عدة نصوص، بينما تتركها مجهولة في نصوص أخرى. شعرت بأن هذه الأسماء كانت مقحمة لتعطي للنصوص طابع القصّة، وشتّت صورة الطفلة في ذهن القارئ، وكذلك اضطرته أحيانا لأن يصنع في خياله مكانا مختلفا لينساب الشخصيّة الجديدة. تبدأ الكاتبة بعض نصوصها بضمير الغائب وبلسان راوٍ عليم، ثمّ تلتفت إلى ضمير المتكلّم وتصبح تلك الطفلة هي الرّاوي دون أن يشعر القارئ بالنقلة المفاجئة. وتكثر من ترديد كلمة (أذكر)، (وما زلت أذكر) دون داعٍ، فالقارئ يستشفّ منذ البداية أن الحكاية ما هي إلا ذكريات، وهذا التكرار يبعد النصّوص عن كونها قصصا قصيرة كما أحبت الكاتبة أن تصنّفها.

تجربة قراءة هذا الكتاب رحلة جميلة ممتعة في حواري القدس وأزقتها، وفي تاريخها وأزمانها، وفي عادات أهلها وثقافتهم العريقة، رحلة تستحقّ الإبحار بها وخوض غمارها. يخرج منها المتلقّي بالمتعة والفائدة، ويزداد عشقه لهذه المدينة؛ فيسير في قافلة عشّاق المدينة. ومن ذا الذي لا يعشق القدس، التي تفرض حبّها على كلّ من تنفّس هواءها وسار على ترابها!

 

انشر المقال على: