ماركس والمسألة اليهودية
حنين نصار
علينا أن نحرر أنفسنا قبل أن نكون قادرين على تحرير الآخرين
موضوعة ماركس الجوهرية في المسألة اليهودية تكمن في معادلة:إن التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية. يأتي ماركس إلى نقد المسألة اليهودية، وتفكيكها إلى عواملها الأولية، من رؤيته الفكرية كيهودي متحرر من اليهودية لأنه في الأصل متحرر من الصيغة اللاهوتية برمتها. فهو ابن لحظة التنوير العقلاني، مسلح بمنهج الفلسفة التاريخية المادية الذي اكتشفه لكشف الحجاب الميتافزيقي عن الواقع والوقائع الناجمة عن حراك اقتصاد الاجتماع البشري على الأرض داخل التاريخ، التاريخ الذي هو صناعة إنسانية صرفة..! يحلل ماركس المسألة اليهودية بالنظر إلى واقع اليهود في غيتوات الشتات الأوروبي في المنتصف الأول من القرن الثامن عشر، حيث كانوا يتقوقعون،في تجمعات خاصة، على هويتهم الدينية المنغلقة، وعالمهم الاقتصادي المريب، المبني على اساس الربا والمقامرة والسمسرة، وعنصريتهم العرق/دينية الراسبة في فكرة تفوقهم على بقية الجنس البشري بحسبانهم شعب الله المختار متشبثين بخلاص خاص بهم وقومية وهمية! نقد ماركس للمسألة اليهودية ينطلق من قراءته التحليلية لما كتبه أحد فلاسفة (اليسار الهيغلي) وهو برونو باور حول المسألة اليهودية.
الكتاب امامنا هو عبارة عن انتقاد من ماركس لبرونو باور حول المسألة اليهودية وباور هو شخص يساري هيجلي حاول تحليل المسألة اليهودية من خلال فكرة اليساري وعبر دمج اليهود في الامم التي يعيشون معها والتخلص من دينهم أي ان يتم ربط تجمُّعهم في قومية المجتمع الذي يعيشون فيه والتخلي عن الديانة اليهودية والعيش تحت كنف الدولة التي اعتبر ان اساسها هو المسيحية حيث ينتقده ماركس وينطلق في تحليله للمسألة اليهودية كيهودي متحرر من اليهودية لأنه أصلاً كان متحرراً من صيغته اللاهويته , فهو يرى ضرورة تعرية الدولة من لباسها المسيحي اولاً وابقاء الدين شأن شخصي لافراد الدولة ( علمانية الدولة ) حيث يرى ماركس ان التاريخ هو صناعة انسانية بحتة (( اذا كانت الظروف تخلق الإنسان فإن علينا ان نخلق ظروفاً اكثر انسانية )) فالدين هو مراحل تطور مختلف للفكر الانساني (المادية التاريخية) وعلى الانسان ان يخلع لباسه الديني مقابل مواطنته كما تخلع الافعى جلدها، فاذا تخلى كل من المسيحي واليهودي عن ديانته لا يصبح الدين اساس العلاقة وانما العلاقة انسانية بحته قائمة على مبدء المساواة .
اما في التحرر السياسي حيث يرى باور ان التحرر السياسي لليهود هو بتحرير اليهودي من يهوديته والعيش في دولة تقوم على الاساس المسيحي معتقداً ان الدولة المسيحية هي الواقع الحقيقي . بينما يرى ماركس ان التحرر السياسي يكون بتحرر الدولة من الدين أي ان تكف عن ان تكون دولة دينية مع ضمان حرية المعتقد الديني انطلاقاً من تأكيد مبدأ المواطنة وعندما تصبح الدولة متحررة سياسياً يأتي التمايز بين الأفراد حيث تظهر الفروقات الطبقية مثلا البروليتاريا والبرجوازية ومع ذلك فإن الملكية الخاصة كانت ولا تزال أساس الاستغلال والاضطهاد البشري حيث يصبح الانسان في المرحلة الرأسمالية وهيمنة نمط الإنتاج الراسمالي مجرد أداة، وتحديداً يصبح العامل مجرد أداة وقوة عمله سلعة في خدمة البرجوازي ، اي إنسان في خدمة آخر. حيث يكون المال اساس التعامل اللاانساني وهنا تظهر قضية التحرر الانساني، وهو التحرر من الملكية الخاصة .
يطرح باور أسئلته النقدية اللاذعة على اليهود الألمان قائلا: يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرر يطالبون؟! التحرر كمواطنين (أي) التحرر السياسي.. ليجيبهم أن ليس ثمة من هو متحرر سياسيا في ألمانيا. نحن أنفسنا لسنا أحرارا، فكيف نستطيع تحريركم؟! انتم اليهود أنانيون، حين تطالبون لأنفسكم بإنعتاق خاص، عليكم أن تعملوا من أجل إنعتاق ألمانيا السياسي، وكبشر من أجل الانعتاق البشري.
يناقش ماركس الإشكالية التي طرحها برونو على قاعدة أن «نقد المسألة اليهودية هو جواب عن المسألة اليهودية.
أول موضوعة في هذه الإشكالية هو التناقض الديني بين اليهودية والمسيحية (في ظل حكم دولة واحدة) والحل الجذري لهذا التناقض، حسب ماركس، هو أن ينظر اليهودي والمسيحي، من موقع العلم، كل إلى دين الآخر على انه مجرد مراحل تطور مختلفة للفكر الإنساني.. أما التناقضات في العلم فيحلها العلم نفسه.
فلكي يتحرر اليهودي من يهوديته ينبغي أن يتحرر سياسيا في دولة ينبغي هي نفسها أن تكون متحررة. ولا يكتفي ماركس بهذا الطرح لحل المسألة اليهودية وإنما يمضي في تحليل طبيعة الفعل التحرري المطلوب من حيث ارتباط التحرر السياسي بالتحرر الإنساني، وهو ينطلق من واقع تباين صورة المسألة اليهودية في عصره كما ظهرت في المانيا حيث لا توجد دولة سياسية، أي لا توجد الدولة كدولة، فان المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية محضة. يجد اليهودي نفسه في تناقض مع الدولة التي تقر بان المسيحية تشكل أساسها. ولا يعني ماركس بالتحرر من الدين إلغاء الدين من الوجود، إذ (أن وجود الدين لا يتعارض مع قيام الدولة الكاملة) وهنا يبان التحرر الإنساني (البشري) عن منطقه الجوهري في (أننا لا نحول المسائل الدنيوية إلى لاهوتية، وإنما اللاهوتية إلى دنيوية. نحل الغيبيات في التاريخ بعد أن انحل التاريخ وقتا كافيا في الغيبيات. تصبح علاقة التحرر السياسي بالدين بالنسبة لنا علاقة التحرر السياسي بالتحرر البشري.. وهذه المعادلة في مغزاها السياسي هي أساس الفكرة العلمانية في المنطق الماركسي، أي أن التحرر السياسي لليهودي والمسيحي والإنسان المتدين بوجه عام هو تحرر الدولة من اليهودية والمسيحية ومن الدين بوجه عام. وهكذا يمكن للدولة أن تكون قد انعتقت من الدين حتى حين تكون الغالبية متدينة. ودون أن ندخل في استقراء التقاطع والتضارب بين الفلسفة التاريخية المادية لعلمانية الدولة الشيوعية والفلسفة التاريخية المثالية لعلمانية الدولة البرجوازية في فهم التحرر السياسي/الإنساني، فان الجوهري في تحليل ماركس للمسألة اليهودية هو انه لا يقول(فقط) لليهود مع باور: لا يمكنكم أن تتحرروا سياسيا دون أن تتحرروا جذريا من اليهودية.. وإنما يشرط تحررهم السياسي الحقيقي بضرورة التحرر الإنساني الذي يتحقق (فقط) حين يتحرر المجتمع من امتيازات (الإنسان الأناني) الذي هو معيار حقوق الإنسان في المجتمع البرجوازي، حيث يصبح فيه المواطن (خادما للإنسان الأناني) ثم أخيرا يصبح الإنسان الحقيقي في الواقع ليس الإنسان كمواطن ولكن الإنسان أداة البرجوازي. على هذه الخلفية التحليلية يقوم ماركس بتحطيم الأساس الدنيوي لليهودية وليس الأساس الروحي كدين شخصي للفرد. فهو غير مهتم بـيهودي السبت وإنما باليهودي الدنيوي الذي إلهه المال وكعبته البورصة..! وهذه تتقاطع مع ما ورد أعلاه عن دور الربا والسمسرة.
وبالتالي فان التحرر من اليهودية يعني التحرر من رأسمالية المال كمعيار الإنسان، وما تنتجه من اغتراب إنساني عن الذات. وبهذا فان تحرر اليهود هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية واليهودية التي يقصد ماركس التحرر منها، ليست، كما ذكرنا سابقا، يهودية يهودي يوم السبت وإنما هي، حسب باور، يهودية اليهودي الذي يتحكم من خلال سلطته المالية بمصير المملكة كلها. واليهودي الذي يمكن ان يكون بلا حقوق في أصغر دولة ألمانية يقرر مصير أوروبا . حيث أصبحت روح اليهودي المركنتيلية = الروح التجارية هي: الروح العملية للشعوب المسيحية. لقد تحرر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهودا فاذا كانت مسيحية المسيح ثورة أخلاقية إنسانوية ضد تحويل المعبد (الهيكل) إلى سوق فان يهودية عبدة المال عادت وابتلعت أخلاق المسيح في جوفها المركنتيلي، أو بتعبير ماركس لقد انبثقت المسيحية من اليهودية ثم عادت وذابت في اليهودية التي ليست الأرض في نظرها سوى بورصة. لأن اليهودية بما هي عبادة الإنسان الأناني للمال بقيت سارية المفعول ليس رغما عن التاريخ وإنما من خلال التاريخ. فالمجتمع البرجوازي يولد من أحشائه الخاصة اليهود بدون انقطاع.
ان المال، حسب ماركس هو إله إسرائيل الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر.. والقومية الخرافية لليهودي هي قومية التاجر، إنسان المال بشكل عام. لذا كان قول السيد المسيح " لا تعبدوا إلهين الله والمال". وبتحكم اليهود بعصب المال، قنواته، تخصيبه، بالصيرفة والمراباة والبورصة وجعل الإنسان والطبيعة في خدمتهم جعلوا كل شيء بضاعة قابلة للشراء والبيع .
(المال هو إله إسرائيل المطماع، ويعتقد اليهود أنه لا ينبغي معه لأي إله أن يعيش. إن المال يخفض جميع آلهة البشر ويجعلهم سلعاً. المتاجرة بالمال، هذا هو الإله الحقيقي لليهود).
(لقد اتخذت السيادة اليهودية... تعبيراً منطقياً واضحاً وضوحاً مطلقاً في أميركة الشمالية).
(إذن فنحن نتميز في اليهودية عنصراً مناهضاً للمجتمع... وهذا العنصر توصّل إلى نقطة الأوج في الزمن الحاضر، وهي نقطة لا يستطيع معها إلا الانحلال)
(ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ إنه الرغبة العملية، والمنفعة الشخصية. والحق أن العصر الحديث بتحرره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية والعملية، سوف يحرر نفسه بنفسه.)