الأحد 01-12-2024

غسان كنفاني: عن التطبيع والمقاطعة

×

رسالة الخطأ

احمد مصطفى جابر

غسان كنفاني: عن التطبيع والمقاطعة
احمد مصطفى جابر
أثناء وقبل كتابة هذا النص، ثارت في الفضاء الإعلامي العام، في الوسط الثقافي والإعلامي، قضايا شديدة الارتباط بهذا الموضوع، وهي قضايا تبهت ثم تعود للصعود بقوة إلى سطح الأحداث، أعني المقابلة التي أجراها الروائي الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف مع فضائية يمينية صهيونية مقربة من حزب الليكود واليمين الفاشي عامة، وكيف انبرى العديد للدفاع عن الخطوة بحجج مختلفة، وكذلك النقد الشديد الذي وجه إليه أيضا، وفي الحقيقة لم تكن قصة معلوف هي الوحيدة وان أخذت صدى أكبر من غيرها، وفي الحقيقة أحمد لطفي السيد ومعروف الرصافي فعلا ما هو أبشع منذ أكثر من سبعين بدون شعارات ولا تضليل وغيرهما كثير، و عندنا أيضا قصة الحجيج الثقافي العربي إلى الأراضي المحتلة تحت بنادق المحتل وتحت شعار رخيص (زيارة السجين لاتعني زيارة السجان) في تجاهل وتواطؤ مع المحتل والظروف الحقيقية التي يعيشها هذا السجين والتي لم يتم التطرق لها أو إبرازها على عكس ما قام به مثقفون عالميون زاروا الأراضي المحتلة وكرسوا جهودهم لفضح الاحتلال وفاشيته، ناهيك عن فضائح الدراما العربية والتعامل مع الموضوع (اليهودي) في سلسلة رسائل مبطنة للعقل العربي العام..
طبعا ليست قضايا التعامل الثقافي والإعلامي مع العدو الصهيوني وليدة اللحظة، ولكنها مرتبطة بنشوء القضية الفلسطينية وتضارب التوجهات سواء تجاه التعامل المباشر أو غير مباشر والتوجه للرأي العام العالمي لكسب وده وتغيير دفته، هذه القضايا – الأسئلة التي تتصف بطابع تاريخي، بمقدار ما إنها ليست وليدة اللحظة إلا إنها تتسم بأهمية فائقة في الوقت الحالي.
الأكيد والثابت إن العدو مقتنع انه سجل اختراقات مهمة على الجبهة الثقافية ومن المتوقع نظرا لتاريخية هذه المعضلة أن يكون لها مكان أساسي في جدول أعمال غسان كنفاني كمثقف ثوري وسياسي مناضل وثوري محترف.
فيما يلي أسعى لتقديم مراجعة استعادية لنص غسان كنفاني الذي كتبه قبل استشهاده مباشرة، وهو –كما يعرف القارئ المتابع لسلسلة المقالات هذه- جزء من نص أول عرضت قسمه الأول في المقال الرابع، ونشر كما سبق وذكرت في مجلة الشؤون الفلسطينية في العدد رقم 12 في آب 1972، العدد الذي كرس لتخليد ذكرى غسان.
وبعد أكثر من 45 عاما على استشهاد غسان وكتابة النص، فان ما كتبه ما يزال صحيحا وحارقا وآنيا بنفس القدر، حيث الموقف العربي بل والفلسطيني من قضايا التعاون والتواصل الثقافي والإعلامي مع العدو ما يزال مضطربا ويغيب عنه الوضوح لأسباب سياسية وأيدلوجية معروفة، ويخضع لاجتهادات فردية ومغلفا بشعارات تضليلية ومتعلقا بعلاقات اقتصادية وسياسية، ولازالت فكرة المقاطعة ومقاومة التطبيع تخضع لهذا النوع من الاعتبارات الفردية حتى لدى شخصيات عامة وذات تأثير، ومنظمات أو دول ورغم صعود منظمات المقاطعة بشكل كبير على حجم التحفظات ونوعها والجدل معها على الأسس التي قامت عليها.
يرى غسان محقا انه من المستحيل وجود وصفة أو قرار جاهز ينطبق على كل الحالات ويصلح لكل زمان ومكان، ولكن هذا لايعني أن تبقى الأمور سائبة في ظل وجود بلد محتل وشعب مشرد وقوة احتلال فاشية عسكرية تمارس ما تمارس من سياسات.
في ذلك الوقت اعتبر غسان أن قيادة فلسطينية عليا يجب أن تكون معنية بهذا، ووضع المعايير، ولكننا طبعا نرى اليوم إن القيادة الفلسطينية غير موحدة ومنها من يتعاون مع العدو جهارا نهارا، وهناك حالة من الاضطراب السياسي تهيمن على المجال العام.
غياب الإطار الذي تحدث عنه غسان (قيادة الإعلام الموحد) يضاعف المسؤولية ويعقد المهمة، ويزيد من حالة التضارب والتفكك في المواقف، ولكن الأساس وكما يرى غسان: "إننا في حالة حرب مع إسرائيل، حرب يسقط فيها شهداء كل يوم، حرب يخوضها شعب نصفه في المنفى ونصفه الآخر تحت قمع الاحتلال وآلاف الشباب يقبعون في السجون".
لم يتغير شيء، ومازال الأمر كما وصفه غسان قبل قرابة نصف قرن، وتلك هي دواعي اتخاذ استراتيجية واضحة وملحة لمقاومة حالة الاختراق المشين التي تتعرض لها جبهتنا الثقافية.
في هذا النص، المتجدد يحلل غسان عددا من الأحداث التي يمكن اعتبارها نماذج دراسية في موضوعنا وترتبط بقضايا التطبيع والعلاقة مع العدو.
الحالة الأولى: طالب وطالبة فلسطينيين ذهبا إلى قبرص للتناظر مع البين إسرائيليين.
رغم أن الكثيرين حينها هللوا بنشوة لحظية لجدارة الطالبين الفلسطينيين واعتبروا أنهما انتصرا انتصارا ساحقا على خصميهما في المجادلة التي تبنتها ونظمتها شبكة البي بي سي، إلا إن من شاهد المجادلة لاحظ أيضا أن الإطار الذي قدمت فيه كان أطارا يحمل على تأييد إسرائيل.
ورغم أن كل الحالات من هذا النوع –وإلى يومنا هذا- تنتهي بانتصار الطرف الفلسطيني أو العربي المؤيد للقضية الفلسطينية إلا أن غسان يدعو بشدة إلى رفض هذا النوع من الترف لأسباب عدة أولها "أننا في حالة حرب مع العدو، ومقاطعتنا له نابعة من طبيعة المواجهة والمقاطعة بحد ذاتها وجهة نظر مبدئية"
يرى غسان أن وسائل الأعلام البرجوازية تستخدم هذه المناظرات للامعان في لعبتها التي تحقق لها سطوة أشد على عقول جمهورها.
في هذه القضية بالذات فإن شبكة البي بي سي، التي ظهرت متسامحة تجاه انتصار فلسطيني عابر في مناظرة بين تلاميذ، قبل الهجوم الفدائي على مطار اللد بأربع وعشرين ساعة فقط، تعمدت طوال أسبوعين رفض تمرير عبارة واحدة لمصلحة الفلسطينيين في أي نشرة أخبارية أو أي سياق آخر، بل عمدت إلى تزوير تصريحات وبيانات فلسطينية خدمة لحملتها الصهيونية ما يترك لنا الحق باعتبار تلك (المسامحة) المفترضة، قد كانت أداة قذرة لتمرير المنهج الحقيقي للشبكة، وهذا نتاج منطقي للبنية السياسية والأيدلوجية التي تحرك جهاز إعلام من هذا النوع، يعلم المختصون ودارسو علم النفس وسيكولوجية الإعلام كيف أن تمرير جزء من الحقيقة في سياق كذبة كبيرة يرسخ في عقل الجمهور تلك الكذبة وتصبح شذرات الحقيقة الممررة ليس أكثر من بضاعة زائدة يطرحها المتلقي مباشرة، وهذا ما يقصده غسان في تحذيره الأساسي من هذا الترف الضار والزائد عن الحاجة.
يلاحظ غسان – وهي ملاحظة صالحة الآن أيضا- أن تجاربنا للأسف لم تساعدنا على استيعاب مدى انحياز وسائل الإعلام البرجوازية والرجعية للحركة الصهيونية ومرد هذا إلى تغلغل هذه الوسائل الإعلامية في عقول بعضنا ويقدم شهادته الشخصية بأن مئات الساعات مع آلاف الصحفيين الأجانب أدت إلى نتائج لاتذكر مؤكدا أن "الشيء الوحيد الفعال هو حجم العمل المسلح والعمل السياسي في أرض المعركة ذاتها"."
وأنت عزيزي القارئ لو أمعنت النظر لعثرت على شخص واحد تعرفه على الأقل يفيدك برأي سياسي كلما قابلته يتناسب مع آخر نشرة أخبار شاهدها!
يرى غسان أن الجدل مع هؤلاء الصحفيين هو نوع من مبارزة كلامية أيضا فلأحرى بهم إذا فتح (مسارحهم) أمام تمثيلية بين طلبة عرب وإسرائيليين وهذا "مشهد ليس فقط عديم النفع بل ضار أيضا".
ويضيف غسان "إن مقاطعة العدو ورفض حوار الإقناع معه من خلال مبارزات كلامية هو في حد ذاته موقف، وجهة نظر، شكل من أشكال الصدام". والحقيقة الجوهرية هي "إن تغيير ميزان القوى الإعلامي في الغرب لايحدده إلا ميدان القتال’"
طبعا لايمكن إنكار التغييرات التي حدثت طوال الخمسين عاما، والتي قد تشير إلى أن تحليل غسان قد تجاوزه الزمن، لكن المعيار الحقيقي هو مقارنة الوقائع، فما الذي تغير حقا عن الظروف التي توصل فيها غسان إلى استنتاجه؟
يلاحظ غسان محقا – وهو ما نلاحظه اليوم- أن أي وسيلة إعلام غربية ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني في حالة سكون الثورة أي دقيقة ليعبر فيها عن رأيه، بل يجب أن يكون هناك متحدث إسرائيلي ينال ذات الحصة من الوقت حتى في الأعلام الذي يدعي انه مع الفلسطينيين في معظم برامجه تجد أن غرفة الأخبار تحكمها معايير مختلفة تماما. بل بالعكس يتم تجاهل الفلسطيني وقضيته إلى حد القتل أحيانا، فالفلسطيني وقضيته بضاعة زائدة في الأعلام الغربي والعربي اليوم للأسف.
وسؤال اعتراضي في السياق: أيهما كان أشد تأثيرا على العدو، وإزعاجا له: اللغة المنمقة لالياس خوري في هآرتس، وقبلها يديعوت أحرونوت أم قرار صبية تونسية اسمها أنس جابر رفضت العام الماضي اللعب مع لاعبة إسرائيلية رغم ضياع فرصتها بالبطولة؟
ما الذي يؤثر أكثر على مجتمع العدو: طرد فيلم سينمائي من مهرجان عربي أم عرض فيلم صهيوني للمشاهد العربي؟ وكيف يخدم مثقف عربي القضية الفلسطينية حين يعطي حديثا لجريدة مثل يديعوت أحرونوت الفاشية أو هآرتس جريدة النخبة الصهيونية، أو قناة تلفزيونية معروفة بيمينيتها والتصاقها بنتنياهو؟
الإعلام يجبر على فتح هوائه للفلسطينيين حينما يعلو صوت الثورة، هل نترك الساحة إذا كما يحلو لذهن متسرع أن يستخلص متصيدا في مياه عكرة، متهما الثورة بالانغلاق على نفسها..يقول غسان بلا كبيرة، فالساحة مفتوحة ولكن يجب أن يستند عملنا الإعلامي إلى الأصدقاء والى الحركة الثورية في البرجوازية الغربية لأننا لايمكن أن نحقق النجاح دون جهد هذه القوى اليسارية وموقفها من قضيتنا وهم أقدر منا على فهم مؤشرات الرأي العام وواقعه عندهم. وعلى تقرير الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية.
وغسان لا يراوغ ولا يجامل وكأنه يتحدث عن فضائح التطبيع هذه الأيام من حوارات ومبارزات ومجادلات إعلامية مع العدو مقررا أن "الجلوس مع العدو حتى في أستوديو تلفزيوني هو خطأ أساسي في المعركة وكذلك فإنه من الخطأ اعتبار هذه المسألة مسألة شكلية إننا في حالة حرب وهي بالنسبة إلى الفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت ولابد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني بالشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز".

القضية الثانية التي يناقشها غسان هي قضية الدكتور فنيلي الأستاذ في كلية بيروت للبنات آنذاك، الذي اتهم بالتغاضي عن وجود مقطع في كتاب دراسي يبرر الاغتصاب الصهيوني وكذلك قصة وجود مرجع طبي إسرائيلي في مكتبة الجامعة الأمريكية التي أخذت حيزا أهم من الاهتمام.
في هذا النقاش الذي تدور رحاه بأشكال مختلفة حتى اليوم، حتى في إطار مشاهدة أفلام قادمة من هوليود مثلا، أو قراءة كتب كتبها صهاينة، ناهيك عن التعليق عليها ومناقشتها، وإخضاعها لقراءة علنية، فإن غسان لا يرى أي سبب يمنع الصفوف العليا من الإطلاع على تفكير العدو ونتاجه، بل إن هذا يجب أن يكون إجباريا، مادام هذا لم يجر تدريسه في صف ابتدائي، كشكل من أشكال غزو العقول البريئة، لأطفال غير قادرين على خوض جدال ضد ذلك الغزو، لأن الأمر حينها يصبح جريمة وطنية، ويتساءل غسان "لا أستطيع أن أفهم كيف نتردد حتى الآن في الإطلاع وفي السماح بالإطلاع على مصادر وأشكال فكر العدو" ويرى أن المقطع المقصود لايمكن أن يكون الدكتور فنيلي قد "هربه" بل هو مجرد مقطع "كتبه مؤرخ متعصب تعصبا أعمى ويشكو من سذاجة مفرطة" ويسخر من الهجوم على وجود مرجع طبي إسرائيلي في الجامعة الأمريكية بينما مكتبة هذه الجامعة تزخر بمئات الكتب التي تروج للصهيونية في الآداب والاجتماع والاقتصاد وغيرها.
لماذا نخاف من هذه الأمور؟ يتساءل غسان، ولماذا نلغي حقنا بل واجبنا في الإطلاع على الإنجازات الفكرية العلمية لأفراد العدو ومؤسساته والاستفادة منها؟
هذا طبعا لايعني أن متابعة "افيخاي درعي" و"عوفير جندلمان"، أو "المصدر الإسرائيلي" أو قناة معينة أو "إسرائيل بلا رقابة" يخدم هذا الهدف، خصوصا إن متابعي هذه المنصات ليسوا خبراء في الإعلام والدعاية، بلا شك أن مناهجنا التعليمية لا تستطيع التصدي لهذه الأمور وهي من الضعف فأنها غير قادرة على تنشئة طلابنا على أسس علمية صحيحة وعصرية، هنا نجد غسان المنظر التربوي راسما معالم استراتيجية تربوية تعليمية يجب أن تكون حاضرة في مدارسنا وبين أيدي ناشئتنا ما يدعو إلى "برنامج للتنشئة الوطنية قائم على البحوث العلمية والحقائق التاريخية والتحليلات السليمة ما يضع طلابنا وهم في صفوفهم جميعها في صلب معارك أمتهم ومصالحها". وبالتالي من واجبنا أن نوفر لطلابنا في دراستهم العليا كل شيء يحدث في إسرائيل من صحافة وكتب وإنجازات.
يحث ويشدد غسان أن حقنا وواجبنا هذا لايعني الدعوة إلى الاندفاع إلى العدو باسم الحرية المزيفة أو التضليلية أو فتح أبواب الغزو الإعلامي للعدو على مصراعيه بل أن نعي حالة الحرب التي نعيشها وأساليب العدو.
ويخلص غسان إلى جوهر المسألة كلها، في عبارة تلخص الأمر كله: ”جوهر الحل الايجابي هو ردكلة الجماهير –تعميم ثقافة وطنية علمية- أي المضي بالثورة إلى الأمام في الدرجة الأولى"

انشر المقال على: