التغلغل الإسرائيلي في إثيوبيا.. والضغوط على دول حوض النيل
يمثل النيل أحد طموحات إسرائيل ، والتي ظلت في سعى مستمر للحصول على مائه ، سواء مباشرة ، أو بالضغط عن طريق مد نفوذها وتوثيق علاقاتها بدول حوض النيل وتأليبهم على مصر بدعوى استغلالها مياهه لصالحها على حساب الآخرين ، يعد نهر النيل من أهم الأنهار الأفريقية الرئيسية ، أما من ناحية الاستغلال فالسودان و مصر هما أكبر الطاقات الطبيعية والأكثر استغلالاً لمياهه ، تلك الميزات دفعت بالمتربصين للاهتمام بالبلدين خاصة الصهاينة الذين استقر بهم الملاذ في فلسطين ، وتفكيرهم المتجه للاهتمام بمصادر المياه واعتبروا ذلك من المسائل الرئيسية من الإعداد الاستراتيجي للدولة الصهيونية ، لتتمكن من إنشاء مشاريع زراعية استيطانية تسمح باستيعاب عدد من المهجرين لأرض فلسطين .
وهنا سنتناول قضية من القضايا الهامة، وسنقوم بتوضيحها من خلال مقالين، وسنتناول في المقال الأول الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إثيوبيا، ودول حوض النيل، أما في الجزء الثاني سنتحدث عن انعكاسات الوجود الإسرائيلي بالمنطقة على قضية المياه.
ركائز الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إثيوبيا ودول حوض النيل:
تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه دول حوض النيل على عدة ركائز حاكمة، يمكن تلخيصها في التالي:
1- الحصول على حصة ثابتة من مياه نهر النيل:
تسعى إسرائيل من خلال هذا الهدف إلى الحصول على حصة ثابتة من مياه النهر التي ترد إلى مصر، ولم يتبلور هذا الهدف بعد تأسيس الدولة العبرية ، بل إنه كان من ضمن الأطروحات والأفكار التي قدمتها الحركة الصهيونية منذ ميلادها بهدف تأمين موارد المياه للدولة المقترحة آنذاك ، وقد بادر تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ببلورة هذه الأطروحات ، من خلال مشروع قدمه في عام 1903 إلى الحكومة البريطانية ، تتمحور فكرته حول توطين اليهود في سيناء ، واستغلال ما فيها من مياه جوفية وكذلك بعض مياه النيل ، ورغم أن بريطانيا قد رحبت بالمشروع الصهيوني في البداية ، فإنها بعد دراسة تقرير اللجنة الصهيونية ، رفضت مشروع هرتزل في نهاية المطاف ، لأنه كان يتضمن تهديدا للخطة البريطانية التي كانت ترمى إلى ربط الزراعة المصرية بالصناعة البريطانية .
وبعد قيام إسرائيل، بدأت فكرة الحصول على حصة من مياه النيل من خلال مصر تراود بعض الدوائر الإسرائيلية، وفى إطار تحقيق ذلك، قدمت الصفوة التكنوقراطية العديد من المشاريع لنقل مياه النيل إلى إسرائيل، خلال الفترة من 1974 حتى 1986، وتمثلت أبرز هذه المشاريع فى مشروعين هما:
أ – مشروع إليشع كالي 1974:
فى عام 1974، طرح إليشع كالى – وهو مهندس ( إسرائيلي ) – تخطيطًا لمشروع يقضي بنقل مياه النيل إلى ( إسرائيل ) ، ونشر المشروع تحت عنوان : ( مياه السلام ) ، والذي يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها ، وتنقل هذه المياه عن طريق سحارة أسفل قناة السويس ، وقد قوبل هذا المشروع بالرفض المصري ، ورغم ذلك تم طرح المشروع مرة أخرى في سبتمبر 1978 ، وقد أطلق اليشع كالي على مشروعه اسم ” حل نموذجى لنقص المياه فى إسرائيل”.
ب- مشروع يؤر 1979:
قدم الخبير الإسرائيلي شاءول أولوزوروف (النائب السابق لمدير هيئة المياه الإسرائيلية) مشروعا للرئيس أنور السادات، خلال مباحثات كامب ديفيد ، يهدف إلى نقل مياه النيل إلى ( إسرائيل ) عبر شق ست قنوات تحت مياه قناة السويس، بهدف نقل مليار متر مكعب، لري صحراء النقب ، منها 150 مليون م3 لقطاع غزة ، وكانت إسرائيل ترى أن تنفيذ هذا المشروع سيضمن لها استمرارية جريان المياه وحل مشاكل التخزين.
هذا بالإضافة إلى مشروع ترعة السلام 1979، الذي اقترحه الرئيس أنور السادات، وكان هذا المشروع يهدف لتوصيل مياه نهر النيل إلى إسرائيل، وكان هدف السادات – كما كان يبدو له حينذاك – من وراء ذلك تحقيق أهداف سياسية تتمثل فى تخفيف التطرف الإسرائيلي تجاه الأراضي المحتلة، وبالتالي تحويل هذا الكيان إلى دولة مسالمة كما خيل إليه، لذا أطلق تسمية ترعة السلام على القناة التي ستوصل المياه إلى إسرائيل.
وفى عام 1986، وخلال انعقاد مؤتمر ”أرماند هامر” للتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط ، الذي عقد في جامعة تل أبيب ، قام إليشع كالي بتطوير مشروعه تحت عنوان :
"خطة مياه الشرق الأوسط في ظل السلام"، على أساس أن مياه النيل في مصر يضيع منها في البحر المتوسط نحو 10 مليارات متر مكعب هباء دون استغلال بسبب سوء الاستخدام والتفريط، بينما تعاني إسرائيل نقص مواردها المائية، وتحتاج فقط إلى 1% من مياه النيل سنوياً.
وقد حاولت السياسة الإسرائيلية إدخال قضية مياه النيل في المفاوضات متعددة الأطراف، ولكنها لم تنجح، وقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نيتانياهو، خلال رئاسته الأولى للحكومة (1996 – 1999)، بتكليف هيئة المياه الإسرائيلية بإعداد دراسة عن تكلفة نقل نسبة 1% من مياه النيل إلى إسرائيل.
2- الأهمية العسكرية والأمنية لمنطقة الحوض: تتجه الاستراتيجية الإسرائيلية إلى خلق وجود عسكري فعال في منطقة الحوض من منطلق استراتيجيتها التي تعرف "بالمحاصرة" أو "حلف محيط الدائرة"، والتي يتمحور مفهومها في بناء علاقات تحالف غير رسمي مع الدول والجماعات الإثنية المحيطة بالدول العربية لتهديد الأمن القومي لدولتي وادى النيل ، وهو ما يتضح من خلال استغلال إسرائيل لوجودها في دول المنابع القريبة من السودان في خلق قلاقل في جنوبه ودعمه لتحقيق الانفصال عن الجسد السوداني ، وبالتالي تهديد الأمن القومي المصري ، الذي يرتبط بشكل مباشر بالأمن القومي السوداني .
واستخدمت إسرائيل لتنفيذ هذه الاستراتيجية العديد من الوسائل، مثل تصعيد التوتر والصراع بين الدول العربية ودول الجوار الإفريقي، والتدخل في الصراعات الداخلية الإفريقية عبر المساعدات الإنسانية، وتوظيف الصراعات العرقية في إفريقيا ومنطقة البحيرات من أجل خلخلة الأوضاع الأمنية في هذه المنطقة، وإشاعة حالة من عدم الاستقرار، بما يؤثر بالسلب في المصالح المصرية والسودانية في هذه المنطقة الحيوية.
3- التنافس الدولي والإقليمي في منطقة الحوض :
تقوم السياسة الإسرائيلية في منطقة حوض النيل على أساس توليد القناعة لدى الولايات المتحدة بمدى أهمية الدور الإسرائيلي في الحفاظ على المصالح الغربية من المد العربي والإسلامي بالمنطقة ، حيث تعمل إسرائيل كمساند للاستراتيجية الأمريكية التي تستهدف الحلول محل فرنسا في قواعدها التقليدية في منابع النيل ووسط إفريقيا ، لاسيما أن هناك سعيا أمريكيا حثيثا يستهدف تأسيس مناطق نفوذ في تلك المنطقة ، سواء في إطار السيطرة على وسط القارة ، أو الإمساك بأوراق ضغط رئيسية في مشكلات المياه المتوقع تفجرها في تلك المنطقة التي أصبحت تحظى باهتمام ملحوظ من قبل السياسة الأمريكية.
وقد تمت ترجمة هذا الاهتمام في انتهاج الولايات المتحدة نمط توازن إقليميا يعتمد أساسا على نظام حكم الأقليات، حيث إن معظم القادة الجدد بمنطقة منابع النيل ينتمون إلى جماعات عرقية تشكل أقلية في مجتمعها، وهو ما يمثل بدوره إحدى أدوات الاستراتيجية الأمريكية للتحرك بالمنطقة من خلال الذراع الإسرائيلية.
في عام 1977 اطمأن الصهاينة لزيارة أنور السادات للقدس ، وبأمل بسيط ينم عن النظرة التفاؤلية لنجاح طموحهم ، إذ اعتبروا أن مصر خرجت من دائرة الصراع العربي الصهيوني ، و من حلقة دول حوض النيل المعادية لسياستهم وقد دفعهم ذلك التفاؤل للمناداة بأن حوض النيل يجب أن يكون ميدانًا فسيحًا للنشاط المتعدد الوجوه ، وأنه أبعد من أن يكون ميدانًا لعلاقات سياسية ودبلوماسية قائمة بين دوله ، وأن الحوض خصص ليكون ميدانًا لعلاقات اقتصادية وعسكرية إذا احتاجت دول حوض النيل لذلك ، من هنا بدأت سياسة الترويج للاستيطان الصهيوني على حوض النيل لتستكمل دولة إسرائيل الكبرى حدودها الفعلية ، وأن ذلك الطموح قد اقترب تحقيقه فبادروا بإعداد الخرائط وأصدروا عملة في مطلع التسعينيات تحمل على واجهتها خريطة تظهر فيها السودان ومصر ضمن حدود دولة إسرائيل الكبرى ، الأمر الذي أثار ياسر عرفات ودفع به في مؤتمر صحفي بمدينة الخرطوم عام 2002 ، لمخاطبة حكومتي السودان ومصر بالدرجة الأولى ، ومخاطبة العرب جميعًا بالدرجة الثانية إلى ضرورة التنبه لمثل هذه السياسة .
وفي عام 1979 كسر أنور السادات كل جدران السياسة الوقائية عندما أكد لمناحم بيجن بأن مياه النيل سوف تصل إلى شمال سيناء وفورًا إلى صحراء النقب في مشروع يبدأ من فارسكور والبته مرورًا بطريق بورسعيد حتى قناه السويس ومنها تنقل المياه لسيناء ، والنقب وتستقر في القدس ، ومن خلاله تحل معضلة توطين اليهود السوفيت في الضفة الغربية ، وعلى الفور عام 1980 أرسل الصهاينة وفدًا برئاسة المهندس اليشع كلي المختص في المياه الذي تفاوض مع وزارتي الري والزراعة المصرية بخصوص مشروع الإصلاح الزراعي إلا أن تلك الخطوات ظلت حكايات وأماني وفشلت.