الجمعة 07-02-2025

ورقة التوت الفلسطينية

×

رسالة الخطأ

نصري الصايغ

ورقة التوت الفلسطينية

سلام فياض يستقيل بعد أزمة طويلة. خلافه مع «فتح» مزمن، وتعارضه مع الرئيس أبو مازن بلغ الذروة، والحركات الاحتجاجية لم تتوقف، محمِّلة رئيس الحكومة أعباء الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة واستفحال البطالة وانتشار الفساد وانسداد الأفق وانعدام الحلول.
عندما تم اختيار سلام فياض رئيساً للحكومة الفلسطينية، حظي بثقة المؤسسات الدولية وتأييدها ومباركتها، تلك المتخصصة في إنتاج نخب إدارية للاقتصاد والمال، وتنفِّذ سياسات «انفتاحية» وتجعل من الاقتصاد، لا السياسة، شغلها الشاغل. وفي الأساس، كان فياض واحداً من ترسانة موظفي المؤسسات الدولية، صاحبة اليد الطولى في تخريب اقتصادات دول كبرى وصغرى كثيرة، انصرف فياض إلى بناء أجهزة الدولة، بلا دولة. وبناء اقتصاد حر، بلا حرية، وفتح حدود الاستثمار، بلا حدود، وإطلاق القطاع الخاص، تقريباً بلا ضوابط، محمَّلاً إرثاً هائلا من الفساد «الثوري» و«البيروقراطي» و«التشبيحي» الذي ازدهر في زمن «العصف التفاوضي» والنضال من أجل الاستقلال، وفق ما نصت عليه بنود «اتفاق أوسلو»، في زمن «أبو عمار». فلسفة بناء الاقتصاد، وبناء مؤسسات الدولة، على رمال سياسة متحركة، أدت إلى إقامة أشكال هجينة من العلاقات، لا هي اقتصادية ولا هي سياسية ولا هي بين بين. لم ينجح فياض في بناء مؤسسات دولة، ولكنه فاز فوزاً كبيراً في تسييد ثقافة الاستهلاك والاعتماد على المساعدات، عبر تعميم أسلوب المنظمات غير الحكومية، التي تتولى تمويل كل ما لا يمتّ بصلة إلى السياسة وبناء الدولة.
قبل تعيينه، حظي بدعم وترشيح المنظمات الدولية، التي كان عاملا فيها. رافقته، ودائماً قبل التعيين، حملة إعلامية، تظهره أنه الرجل المنقذ للاقتصاد الفلسطيني. لا نجد إشارة في كل التصريحات إلى مهمة الرجل السياسية. فالسياسة في الضفة الغربية هي شأن دولي خاص، تتولاه الولايات المتحدة الأميركية من بعيد، تاركة لأبو مازن «فتات» الكلام، حول «عملية سلام»، تتوقف باستمرار أمام عناد نتنياهو، وإسرائيل معه، في تسريع وتوسيع دائرة الاستيطان.
تم تجريد الفلسطينيين من السياسة، بعدما قبلوا بالراعي الأميركي لعملية التفاوض، انتهى الشوط الاقتصادي إلى فشل كبير، أو إلى إفشال واسع، بسبب عصبوية «فتح» وصراعاتها على مراكز النفوذ، ولأن إسرائيل لا تقبض فقط على الأرض، بل على الأموال والمعابر والحواجز والأوامر والنواحي. ولأن المنطق يقول، لا يمكن بناء مؤسسات دولة ودورة اقتصاد ناجحة، في ظل انعدام الدولة تماماً، ولا وجود لها، فدولة فلسطين ممنوعة تماماً، عيّن سلام فياض، وتُرك وحيداً. ولكن بعد استقالته، تبارى «البنك الدولي» وهيئات الأمم المتحدة ورجال الإدارة في البيت الأبيض، ونخب أوروبية عديدة، في إبداء الاحترام والتقدير لشخصه ولما أنجزه، مغدقين عليه صفات تؤهله من جديد للانضمام إلى مجموعة «النخب الحاكمة»، بإرادة المصارف الدولية والبنوك المركزية، القابضة على السياسات والسياسيين، في أرقى الدول الديموقراطية، المفلسة منها، والتي هي قيد الإفلاس، أو تلك التي يهددها شبح الأزمة المالية التي فجّرتها سياسات هذه المصارف المتوحشة.
في زمن فياض، كان عليه أن يكون هو اللاعب الأساس، وفي تماس مباشر مع الناس. لا شأن له في «عملية السلام» أو «عملية التفاوض» فيها ومن دونها عليه أن يعمل ويخطط وينفذ، على أمل، أو بلا أمل، بدولة تحتضن المؤسسات.
في زمن سلام فياض، لم يتوقف الاستيطان، بل ازداد اتساعاً. ولم تهتم أميركا كثيراً بصفعة نتنياهو لأوباما، والتي عوّض عنها الأخير بزيارة احتفالية، أيّد فيها إسرائيل تأييداً لم يسبقه إليه أي رئيس أميركي سابق... وفي زمن فياض، ظلت غزة «مستقلة» وخارج سيطرة اقتصاده، «حماس» التي كانت ترى إلى فياض أنه مناوئ لها، تقوم اليوم، بعد استتباب «إسلامييها» في بعض السلطات العربية، بتطبيق النهج الاقتصادي نفسه، على أرضية مأزومة، فقراً وبطالة وانعدام أفق، ربما هي تأمل أن تحظى بالتبني الدولي كما يشاع أو كما يفهم من «اعتدالها» الإسلامي المستجد.
في محصلة هذه التجربة سؤال: ماذا كانت نتيجة وضع أوراق القضية كلها، في السلة الأميركية؟ لقد نفذ الفلسطيني في الضفة مطالب الإدارة الأميركية، اقتناعاً بأن ذلك يسهّل على أميركا تشديد النصح على إسرائيل كي تقبل بالتفاوض، على حل الدولتين.. لنتذكر قليلاً: أطيح أبو عمار قبيل اغتياله، طلب منه أن يتخلى عن جزء هام من سلطاته لمصلحة رئيس الحكومة، «أبو مازن» آنذاك. ثم، في مواجهة الحكومة التي تألفت بعد الانتخابات التشريعية والتي فازت فيها «حماس» بالأكثرية، طلب من أبو مازن، أن يستعيد الصلاحيات التي كانت في حوزة أبي عمار. وبلغ التدخل أن جعل الفراق الذي شق فلسطين إلى فسطاطين: «فسطاط الضفة» و«فسطاط غزة».
سار الفلسطيني في الضفة، وفق خريطة «طريق دولية وأميركية»، حتى بلغت نهايتها: الصمت التام، فيما سمح لإسرائيل أن تخرج من خريطة الطريق وعلى اتفاق أوسلو بالكامل.
لم تنفذ إسرائيل بنداً واحداً، فيما كانت الضغوط تنهال على السلطة الفلسطينية، كي لا تخل بالتنسيق الأمني، وأن لا تقدم على خطوة ديبلوماسية، تسيء «إلى عملية السلام». ولما خرق أبو مازن ذلك، وذهب لطلب عضوية لفلسطين في الأمم المتحدة، رفعت العصا الدولية و«الفيتو» الأميركي في وجهه، فاستعاض عن مطلبه ذاك، بمطلب قبول فلسطين «دولة غير عضو» (مراقب؟) في الأمم المتحدة، وعندما تقدمت بطلب انضمام لإحدى منظمات الأمم المتحدة، (اليونسكو) هددت واشنطن المنظمة وأرعبتها... ولا تزال واشنطن تقف ضد أي تحرك سياسي منفرد للسلطة، فيما هي تغض الطرف عن الاستيطان الإسرائيلي وتدعم العدوان الإسرائيلي على غزة، وتمنع أي قرار يصدر يزعج إسرائيل.
سلام فياض لم يكن فاشلاً. للرجل كفاءته وعلمه وصبره، هذا هو، لا أكثر ولا أقل، هو فلسطيني على طريقته.
الفشل لا يلحق به إلا كواحد من فريق فلسطيني واسع في السلطة وخارجها، يراهن على أميركا وعلى المجتمع الدولي، ولا رهان على أي شيء آخر. لا الشعب أو...
أميركا مع إسرائيل، وليست أبداً مع فلسطين. فكيف تكون السياسة الفلسطينية بهذا التسليم؟ ما النتيجة المتوخاة من ذلك غير النتيجة التي تحصلت عليها السلطة، بحيث باتت تفتقر إلى ورقة قوية، باستثناء ورقة استقالتها بالكامل... «ومن بعدي الطوفان؟».
سلام فياض، هو رئيس حكومة برتبة موظف أول، في السياسة التي استندت إلى «البنك الدولي»، و«صندوق النقد الدولي» والدول المانحة، وواشنطن المستبدة، عمداً، و«الرباعية» الميتة عمداً، والعرب الذين لا سياسة لهم، سوى سياسة «الموات العام».
ليس في الأفق بعد سلام فياض، غير سلام فياض آخر.
ليس في «الربع الفلسطيني» المكتظ بالمناضلين المتقاعدين، من يطرح تغيير هذه الاستراتيجية بالكامل، بالاعتماد على ورقة الشعب الفلسطيني، وأساليب المقاومة المتاحة، السهل منها، والصعب كذلك. فمن دون ورقة الشعب، لن يبقى لهذه السلطة «ورقة توت» تستر بها عجزها التام.
nsayegh@assafir.com

انشر المقال على: