الخميس 30-01-2025

هل نعرف ما هو المجتمع الحر!

×

رسالة الخطأ

مطاع صفدي

هل نعرف ما هو المجتمع الحر!

مطاع صفدي

الشعوب الحرّة هي التي تعرف كيف تحمي استقلالها من عبث الدخلاء، وتصون سيادتها من الطاعنين في كرامتها . فليس لدول محرومة من حريات شعوبها قدرة على الصمود في هذا العصر بفعل أنظمتها السياسية الحاكمة وحدها ، هذه الحقيقة لم تثبتها ثقافة نظرية أو مجردة ، ولكنها كانت برهانَ القوة والمنعة للأمم الحديثة ؛ فما يعنيه الشعب الحر هو أن تكون أقدار الناس ملكاً لأصحابها ، ليست تابعة للآخرين ، مهما كان هؤلاء من سادة الأمر الواقع أو من أدواتهم .
فالعلّة المركزية التي تشكو منها النهضة الثانية ، أنها ربما أتت بشيء من الاستقلال السياسي للدولة العربية الناشئة ، لكنها منحت بعض حرية التصرف لحكّامها مقابل انسلاب أبسط شروط الحياة الكريمة لجماهيرها . هنالك أمم قد تعيش عصوراً طويلة دون أن يشعر بعض أفرادها في لحظة معينة بالحاجة إلى ممارسة الحريات العادية ، بدءاً مثلاً من مواقف الاعتراض إزاء شئون عامة ، أو أن يَجْهر البعض بأصوات النقد والدفع ضد سلطات قائمة ، ولعل معظم شعوب العرب كابدوا أمثال هذه التجارب العقيمة ، فليس ثمة شعب عربي واحد قد فاز بأهم حرياته الفردية ، ذلك همٌّ أو وهمٌ سحري لم تتشبث بأفكاره أو شعاراته حركات سياسية كبرى دون سواها ؛ كأنما طَلبُ الحريات ترفٌ ثانوي لا تعدو وراءه سوى نخبة قليلة ، ولا تلبث أن تنساه أو تهمله ، تحت وطأة أهداف أخرى أكثر واقعية وجدوى : هل تحتاج ثقافة الحرية إلى مستوى معين من النضج الفكري الاجتماعي يسمح بتفتح شخصية الفرد، وتطلعه إلى تنمية ذاته اعتماداً على إمكانياته الخاصة التي تميزه عن غيره ؟ ذلك سؤال لا بد منه فيما يتعلق بنماذج الحضارات الإنسانية واختلافاتها النوعية فيما بينها ؛ فالمشروع الثقافي الغربي يكاد يحتكر لذاته تراث الحريات ، يجعله محور تاريخه الذاتي ، فلا يقيس عصراً من عصوره الا بنسبة الحريات الممنوحة لأهله . وهي ليست ممنوحة بقدر ما هي مكتسبة بفضل درجة التحضر التي يبلغها تطور المجتمع .
هناك علاقة جدلية بين التحضر والتحرر، بمعنى أن يكون كل من الحدين علة للآخر ومعلولاً به في وقت واحد . ليس أحدهما سابقاً للآخر أو متخلّفاً عنه بقدر ما هما متواجدان معاً، ويكاد كل واحد منهما يكون الآخرَ، فماذا يعني التحرر بالنسبة لجمهور محروم من أقل إمكانياته الطبيعية ، أو أنه من دون أية إمكانيات إطلاقاً سوى وجوده الخام . فما هو فاعل بهذا اللاوجود أصلاً ؛ إذ ليست الحرية شعاراً للتغني باسمها ، إنها إرادة اختيار ما بين ممكنات تغصّ بها ذاتية عامرة بمطامحها الإنسانية ؛ فمن دون هذه الإرادة لا يمكن الكشفُ عن الإمكانيات الكامنة ، ومن دون توفر هذه الإمكانيات لن يكون للإرادة ثمة موضوع للعقل أو للتغيير . وهكذا يبدو التحضّر هو الكفيل بتأمين شروط الوعي بالذات القادرة الفاعلة ، إنه يقدم للوعي وسائل تحققه ، إنه يضع كل جيل صاعد أمام أفق عريض من نماذج الأفكار والسلوك والأدوار العامة التي يختار منها كل فرد ما يتمناه لكينونته ومستقبله ، وبما يتفاعل مع ميوله ومزاجه الشخصي .
ذلك هو مجتمع الانفتاح المضاد تماماً لمجتمع الاستبداد، ونحن نزعم أن عرب العصر لم يعرفوا بعد ما هو مجتمع الانفتاح . قد يتداول بعضُ مثقفيه أوصافَه وخصائصه ، لكن حياتهم اليومية تظل أفقر من أن تنتمي إلى انطلاقة الحرية العادية من دون مآزق وسدود مصطنعة تعرقل مسيرتهم ؛ ليس هناك تقاليد ما لمفهوم استقلالية الفرد الإنساني ، قلما تعلّمت الأجيالُ الناشئة كيف يكون الفرد منهم سيّد نفسه ؛ فأخلاق التبعيات من كل صنف تربوي وديني وثقافي، تكبّل سلفاً بداهة الشاب الجديد بكل القواعد والأوامر السابقة على قراره وإرادته . فليس للفتى العربي ما يفكر أو يحلم به على طريقته الخاصة التي يجهلها مقدماً ؛ بينما يستولي الاستبداد على قمة الهرم الاجتماعي ، يوزع الأعمال والأهداف كأنها هبات علوية من عنده . فالمجتمع التبعي لا يمتلك ذاته أصلاً، كيما يقبل أو يرفض من يغتصب سيادته .
الديكتاتورية السياسية في عالمنا العربي والاسلامي ليست صناعة أجنبية خالصة ، إنها نتاج أهلوي وطني بالدرجة الأولى . ذلك أن التسلّط هو مرض شعبوي شائع ، قلما تتحرر منه بيئة مجتمعية مصرّة على استلاب أفرادها من مسراتهم الصغيرة ، إنهم مأخوذون تحت سلطانها بأحكام كلية تمسح لونياتها الذاتية ، تجعلهم أقرب إلى أشباح أنفسهم من دون أنفسهم عينها. فالكبت الجماعي يفجر نوعاً من فرديات مفرطة في غلوائها ما أن تسنح لها فرصةُ التمكّن من مركزِ قوة ، كيف إن كان هذا المركز يمثل سلطة سياسية حاكمة ! هذه الفئويات الضالة من عبيد التسلّط الأعمى التي حكمت معظم دول النهضة ، كأنما تعوّض عن كبت المجتمع كله بالإفراط في كل شيء في الغدر والنهب والتهتك والانحلال بلا حدود ، فالمستبدون هؤلاء يبيحون لأنفسهم كل حريات الانفلات من كل قيد أو رقابة ، ما يمنعون أقلَّه بالنسبة لأحد من شعوبهم .
ما يمكن قوله إن عصر النهضة الاستقلالية لم يخسر فحسب رهانات الحريات العامة المفترض تحصيلُها من تراكمات التطور الحضاري الذي يتيحه الاستقلال السياسي ، بل كأن جهود مئات من ملايين الناس ذهبت عبثاً وهدراً طيلة عقود من فوضى التخبط السلطوي الذي صاحب بناء الدولة الحديثة ، فليس ثمة شعب عربي يحس أن له رأياً فيما تكون عليه دولته ، فالشعوب في واد ودولهم في واد آخر . الناس في بلادنا محرومون من الشعور بما هو عام ، هم يحيون أية حياة صُنعت لهم من دون أن يختارها أحد ، الا صدف الولادة والنشأة العائلية ، وظروف البيئة المحيطة وحدها.
فالتغني بالمواطنة مجرد خطاب دعاوي عائم على سطح أوضاع مضادة تماماً لأبسط حقائق المواطنة ، فأوّلُ شروطها هو تكوّن الفردية الواعية لحقوقها ، بدءاً من تأسيس استقلال الشخصية على قاعدة الاعتراف المتبادل ، بالقيمة الموضوعية للذات مقابل الآخر، هذه القيمة لا يمكن إعطاؤها حقَّها من الاعتبار من دون الارتجاع إلى معيار حضاري شامل يحدده مفهوم حقوقي شامل للمشروعية الإنسانية ، تُغذيه مؤسسةُ التربية العامة ، برديف مستديم من الوعي الجماعي المتقدم .
لقد تمَّ حصار هذا الوعي لعقود متتابعة في نطاق الحراك السلطوي وحده ؛ ثقافة أجيال النهضة اختزلتها أفقر الشعارات الدعاوية المستولية على المجال العام ؛ فكانت أُحادية الفكرة تتطلب أُحادية النموذج الإنساني المطلوب . كان تعميم الأفكار الأحادية يصيب العقل الاجتماعي بالعقم الطفولي . كان الحرص الساذج على ‘نقاء العقيدة‘، يجرد كل عقيدة أخرى من خصوصيتها الفكرية ، كان التثقيف العقائدي العدو الأول للثقافة . كان ‘الالتزام السياسي‘ سجاناً ذاتياً لعقول أصحابه ، فقد باتت ثقافة النهضة أفقر مذاهب الثقافة بالمعرفة والعالم والمستقبل . ذلك هو المحصول العملي للاستبداد ، إنه التصحير المنظم للحياة العامة في مختلف حقولها الاجتماعية والتربوية والانتاجية . ذلك أن الاستبداد يعني كتعريف أولي، منع الناس أن يكونوا ذواتَهم .
في عصر الاستبداد تتحقق هذه الآفات العدمية الثلاث ، وذلك كما يأتي : يجري تسييس الدين ، وأدلجة الثقافة ، وعَسْكَرة السياسة ، أما الاقتصاد فيجري اختطافه كلياً لحساب أرباب السلطة ، أما حديث المواطنة ، فينبغي مصادرةُ معانيه مقدماً قبل الشروع في تحقيق أي شرط من شروطه المفهومية ، وليس المعيارية فحسب . تغدو المواطنة في دولة الاستبداد أشبه باستحالة إنتماء الشعب إلى ذاته وبلده قبل أن يسلّم كامل إرادته لحاكمه ، فهو القادر وحده على منح الرعية حقوق المواطنة ، أو يمنعها عنهم ساعة يرغب ويشاء .
لكنها تظل تلك الحقوق المقنّنة سلفاً ، ولا ضمانةَ لها إلا مصالح الأمن الشخصي لسادة المجتمع . إذ يفترض هؤلاء دائماً أنهم هم والشعب في حال عداء من طرف واحد على الأقل، بدايتُه في وضع الاغتصاب الذي يمارسونه لخيرات البلاد رغماً عن أنف أبنائها . مجتمع الاستبداد ، هو مجتمع الفساد بالتلازم المنطقي والضرورة البنيوية ما بين الحدّين . كل أكلاف الاستبداد المادية والمعنوية الهائلة تعوضها منافع الفساد المسروقة من أصحابها الشرعيين . وما الأهوال التي يخوضها الاستبداد وهو في خط الدفاع الأخير عن وجوده ، سوى الفرصة المتبقية لاستعادة عصر، ولو بقوة الوهم ، لكنه عصر مضى وانقضى .
يبقى القول أن نهاية حقبة الاستبداد لا تعني ميلاد عكسها بصورة آلية . فالبناء على حطام الماضي، قد يوحي للبعض الاستعانة بأحجاره القديمة لإشادة الصروح الجديدة . وتلك هي حقيقة من حقائق التطور، لكنها لم تعد تفيد في فهم التحولات المجتمعية المعاصرة الكبرى . إذ أصبح نموذج المجتمع الحر كأنه إعادة تكوين لمادة لم تكن موجودة . ولا بد من إنتاجها جذرياً ، وتلك هي المسألة (الفلسفية) الأصعب في ثقافة الحداثة ؛ ولا بد من مواجهتها كما لو كان التاريخ يولد من جديد .

انشر المقال على: