نكبة النكبة: "كان ما سوف يكون" !؟
بسام الهلسه
( تريدينَ لُقيانَ المعالي رخيصةً=
ولا بدَّ- دونَ الشهدِ- من إبرِ النحلِ)
"المتنبي"
|| حينما كنا صغاراً، كانت الذكريات القومية (وعد بلفور، عيد الشهداء، النكبة..) مناسبات للغضب، ولتجديد التعبئة بما يجب على العرب دولاً وشعوباً عمله: تحرير فلسطين وتوحيد الوطن والأمة.
الآن، ومع هيمنة القوى التابعة, أو العاجزة, على السلطات العربية، ومع تعزُّز الهويات الفرعية: الإقليمية والقطرية والفئوية، على حساب الهوية الجامعة للأمة، ومع إستجداء القيادات العربية للسلام مع (إسرائيل)، ومع خبوِّ وضُمور الروح الثورية المتطلعة إلى المستقبل، وعودة العرب إلى وضعية فقدان المصير, والخروج من التاريخ، تحوّل الإحتفال بذكرى النكبة إلى نوع من الطقوس الفولكلورية: مزامير تطلق، وصور لكبار السن يحملون مفاتيح البيوت التي هُجِّروا منها عام 1948، وزيارات للبلدات والقرى التي محاها الغاصبون..
وبدل الأمة، إنحصرت المناسبة بالفلسطينيين، وربما بجزء منهم، ليست "النكبة" بالنسبة له ماضٍ إنتهى، بل ماضٍ حاضرٍ, مستمرٍ, لا يريده أن يظل متواصلاً للمستقبل.
* * *
ومثل الطقوس، تبدَّد وعيُ النكبة القديم – والصحيح -، ليستحيل إلى القبول بدولة في حدود العام 1967، (بل تردى إلى القبول بما تتفضل به "إسرائيل" لدى البعض), فيما إختزلته فئةٌ من مستوردي وموزعي المصطلحات الجديدة إلى مطالبات بائسة: إعتراف بهويتنا، وروايتنا، وتصحيح الخطأ التاريخي، والقبول "بحق العودة"..
المشكلة في كل هذه المطالبات والدعاوى، لا تكمن فحسب في تخليها عن الحق التاريخي للأمة جمعاء في وطنها" فلسطين"، وعن هدفها الإستراتيجي، بل في كونها تتوجه بالخطاب إلى "إسرائيل": (الدولة أو المجتمع) ـ أو لأميركا والإمبرياليات الغربية لدى البعض، للقبول بهاـ مما يحيل الصراع المصيري الوجودي, إلى ضربٍ من المرافعات الأخلاقية التي تأمل أن يلين قلبُ (إسرائيل) فيرق لها ويستجيب لنداء العدالة الخالد!
* * *
صور مفاتيح البيوت، ذكرتني بقصة "أبي لمعة" الذي سطا اللصوص على الصندوق الذي يحتفظ فيه بثروته ومقتنياته الغالية، وعندما قال له الأقارب والجيران: "سرقوا الصندوق يا أبو لمعة" أجابهم بثقة واطمئنان: " لكن مفتاحه معايا!".
وذكَّرني دعاةُ (إسرائيل) إلى القبول بـ"روايتنا", بقصة الخراف التي أرسلت وفداً منها إلى الذئاب لإقناعها بالكف عن إفتراسها والتحول إلى الطعام النباتي!
وكما هو متوقع بالطبع، كانت النتيجة محسومة لمن يعرف طبائع الضواري والدول التي على شاكلتها.
ومن باب تداعي الحيوان على الإنسان، تقول القصة: ردَّت الذئاب على الخراف بأنها ظالمة، لا تعرف الحق ولا العدل!, لأن قرونها تشكل تهديداً خطِراً عليها! وانها- أي الخراف- أنانية تحتكر الفراء الذي تحتاجه الذئاب لتقِي جراءها غائلة البرد!
* * *
وعيُ النكبة لا يبدأ بها. فهي نتيجة متتمة لما قَدَّم لها: إحتلال المشرق العربي:(الشام والعراق) في الحرب العالمية الأولى، وتجزئته وإقتسامه بين المنتصرين: بريطانيا وفرنسا.
وفي ظل الحراب الإستعمارية البريطانية وفي مهادها، أُنجز طوال ثلاثين سنة (1918م – 1948م) تكوينُ وبناء (إسرائيل)، فيما تكفلت فرنسا بسحق الدولة العربية الوليدة:(سورية الطبيعية، وفلسطين هي جزؤها الجنوبي الغربي) في يوم "ميسلون" (1920م).
وكما قال الجنرال "اللنبي" حين دخل القدس: "الآن إنتهت الحروب الصليبية"، قال الجنرال "غورو" في دمشق: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"!
وبالطبع، ليس "وعد الله" هو الذي أعاد اليهود إلى فلسطين، بل وعد الإستعمار والإمبريالية منطوقاً بلسان "بلفور" وزير خارجية أقوى دولها آنذاك: الإمبراطورية البريطانية العظمى.
ففي سياق الغزو الإستعماري للوطن العربي الذي إبتدأت مرحلته الحديثة بحملة نابليون المخفقة 1798م، ليتلوها بإحتلال الجزائر 1830م، وعدن 1837، ومصر 1882م، وليبيا 1911م، وما تخلله وواكبه: من سيطرة على البحار والطرق الإستراتيجية المحيطة بالوطن: (العربي، والهندي، والأحمر والأبيض)، ومن فرض نظم "الحماية" على مناطق أخرى منه، (في الخليج والمغرب).
في هذا السياق والمجال الواقعي- التاريخي، نقرأ النكبة (وما تلاها أيضاً) ونفهم إستمرارها, لا في مجال "الروايات" و "السرديات" التي هي ليست أكثر من ذرائع لتسويغ الأفعال وحشد المناصرين.
تغيير هذا السياق ومغالبته وتجاوز شروطه ومخلفاته: الإحتلال, والتجزئة, والتخلف، هو ما يجب الإنطلاق منه (وبخاصة مع عودة الإستعمار بإحتلال أميركا لأفغانستان والعراق، وإحتلال أثيوبيا للصومال، وتهديد دول عربية أخرى). وإستعادة الوعي القديم: التحريري، التوحيدي، النهضوي ومَوْضَعَتِه في الظروف المعاصرة، هي ما ينبغي فعله على من يريد أن يؤسس وعيه طبقاً لوقائع الصراع الدائر في بلادنا، وطبقاً لطبائع وديناميات القوى المنخرطة فيه، وميول وإتجاهات تطوره المستقبلية، وطبقاً لـ"الوضع على الأرض" كما يقول العسكريون.
* * *
وإذا كان بطلان دعاوى: "أرض الميعاد" و "شعب الله المختار" و "دولة الناجين من المذبحة- الهولوكوست"، واضحاً بجلاء في أذهان العرب، فإن دعاوى "نزع عنصرية إسرائيل، أو"دمقرطتها"، أو "ردها إلى حدود العام 1967م" – على أساس أنها دولة ومجتمع يريدان فقط "الإعتراف" و"الأمان" من العرب (!؟)- ما زالت قائمة على قدمين وساقين..
وهي دعاوى ومراهنات وأوهام، تنطلق إما من الشعور بالعجز وعدم القدرة على تحمل تبعات الصراع، وإما من التوهم بأن "إسرائيل": (الدولة والجماعات الإستيطانية: العسكرية, العنصرية, الإستعمارية, الإجلائية, الإحلالية) قابلة لتغيير جوهرها وإرتباطاتها الإمبريالية، والتحول إلى كيان مستأنس أليف متعايش مع جيرانه!
نقول "توهماً" لأن الحقائق على الأرض (وليس الخطابات الإعلامية) لا تترك مجالاً لمجتهد حول طبيعة وآليات عمل (إسرائيل). وهو ما يميزها، ليس فقط عن النماذج الإستعمارية القديمة والحديثة، بل وحتى عن نموذج الإستعمار الإستيطاني في الجزائر، والإستعمار العنصري-الإستيطاني في جنوب افريقيا.
فبالإضافة إلى تشاركها في سمات هذه النماذج، فإنها تمتاز عنها بـ" دورها ووظيفتها الإستعمارية في المنطقة, كقاعدة عسكرية بشرية كبرى للإمبريالية للسيطرة والإخضاع، وبعنصريتها اليهودية المغلقة، وطابعها الإغتصابي للأرض والإجلائي لأصحابها الأصليين، وبـإمتدادها وروابطها الخارجية المتعددة الأشكال مع معظم يهود العالم، وبإدعاءاتها بحقوق دينية تاريخية حضارية في البلاد المغتصبة.
هذه السمات الفريدة والخاصة، هي التي وسَمَت الصراع بطابعه التناحري الوجودي المصيري الشامل الذي يشكل فيه وجود أحد الطرفين نفياً كليَّاً للآخر على كل المستويات: البشرية والمادية والمعنوية والحضارية..
وفهمُ هذه السمات وإستيعابها، والإنطلاق منها في الوعي والعمل، هو شرط ضروري مؤسِس لأي فعل مواجهة جاد. ذلك أن وضع وطابع وحركة الضد (النقيض) تعيِّنُ حركة نقيضه وتمليها, وبخاصة إذا كان هذا (الضد-النقيض) متفوقاً وسائداً.
وهذا لا يعني فقدان زمام المبادأة، التي تتحقق بجدولة الأهداف وإختيار الوسائل الملائمة للصراع وفقاً للوضع على الأرض وليس كما هو في الرؤوس والأهواء، بل يعني إمتلاك رؤية واضحة شاملة للصراع بكل أبعاده. رؤية من شأنها أن تحسن تحشيد القوى وتوظيفها، وتقي من الوقوع في ضلالات الأوهام، ومياومات الساسة، وتحافظ على البوصلة والسير في الإتجاه الصحيح دون تخبط وتبديد للجهود والقوى والموارد والوقت.
* * *
لن تجدي الفلسطينيين والعرب إذاً، خطاباتُ العويل والندب وتوسلاتُ السلام في صراع لا رحمة فيه ولا توقف.
وستستنتج (إسرائيل) من كل هذا ما هو بديهي: عجز العرب الرسميين وتهافتهم, فيما تحسب ألف حساب لأصغر قوة عربية مقاومة.
* * *
وإذا كانت "النكبة" وشقيقاتها: "النكسة والكارثة والهزيمة, وسائر المترادفات" قد حلّت بالأمة، فهذا لا يعني القبول بالهزيمة كقدرٍ أبدي محتوم، ولا القبول بـفكر ونفسية المهزومين، الذين يتكيفون معها ويسعون للحصول على ما يجود به العدو بدعوى "إنقاذ ما يمكن إنقاذه". ونحن هنا لا نرسلُ الكلام إنشاءاً وبلاغة، (فإسرائيل) بلغت ذروة قوتها وتفوقها في حرب العام 1967م، ومنذ ذلك الحين ونحن نشهد تقهقرها وتراجعها وتآكل قوتها وقدرتها على القيام بوظائفها في المنطقة، وإن بشكل متقطع وبطيء.
ونقدِّر أن الصراع معها سيستمر على شكل حروب صغيرة، وإنتفاضات, ومواجهات, وإستنزاف متواصل, وبخاصة في أقطار بلاد الشام، وقد تنضم قوى وساحات أخرى.
* * *
إستمرارية النكبة ليست في قدرة (إسرائيل)، بل في هوان وتردي العرب.
وهنا تكمن النكبة
بل نكبة النكبة
* * *
" كان ما سوف يكون "