من طاقة الزنزانة
يرسل محمد كناعنة ترانيمه
رشاد أبوشاور
قبل عام أرسل محمد كناعنة ( أبو أسعد) ترانيمه للقرّاء، بعد أن حفر اسمه على جدران عدّة زنازين، في عدّة سجون، وحمّلها العنوان( بمشيئة الملاّح)، ووصفها ب( ترانيم من الأسر)، وهي نصوص تتجلّى عبر كلماتها إرادة الصمود، ورؤية الربيع القادم لا محالة، على إيقاع موج بحر حيفا، وهو يطّل من فوق قمة الكرمل على الساحل الفلسطيني، متنسما هواء الحريّة لوطنه الجميل، ولأطفال سيعيشون بفرح بعد زوال سجون الاحتلال، وتواصل الوطن الفلسطيني الواحد، ولقاء أهله، فلا قطاع، ولا ضفّة، ولا ،أرض محتلة في ال48..فهي فلسطين الواحدة، هكذا كانت، وهكذا ستبقى أبد الدهر.
(أبوأسعد) وصل اسمه، وأخبار تصديه في مقدمة الصفوف لمخططات الاحتلال، إلى آخر نقطة في بلاد العرب، عبر الفضائيات المنحازة للمقاومة، بما يطرحه من ثقافة تحّض على المواجهة، وعدم الركون لسلام خُلّب خادع، ودفعه للثمن، وآخره: فرض الاحتلال عليه الإقامة الجبرية في بيته في الجليل، بعد معركة ( سيف القدس) والانحياز للشيخ جرّاح، والأقصى، وباب العامود، ودوره، وما يمثّله من انتماء، في معركة شعب فلسطين الواحد، وأرض فلسطين الواحدة.
هذا المقاوم العنيد الصلب، في مجموعة ( نصوصه) الجديدة(ماء زهر) يواصل إبداعه الذي عاشه في السجون:
لا طارق هنا ليحرق السفن عند شاطئك
وحيدة في الحرب أنت
وللسلم الف ناب وناب
لا معتصماه يأتيك بجيوشه
( مونديال 29)
والتي يخاطبها لا تحتاج لذكر اسمها، فهو، ومن عاش معهم في السجون، والزنازين، لأجل فجرها، معروفة، ومنذ عشرات السنين والفلسطينيون يقدمون لها دمهم ويُعلّقون على المشانق، ويهتفون باسمها ويترنمون بأناشيد الحريّة كما يفعل محمد كناعنه، وإن خُذلوا فهم لا ييأسون.
لو تأملت تقاطيع وجه ( أبو أسعد) فسترى فيه التصميم، والغضب، والحزن، والشقاء، فتتذكر ما أنشده شاعر فلسطين إبراهيم طوقان في وصف الفدائي:
صامت لو تكلما
لفظ النار والدما
وفي لقاء وحيد جمعنا في عمّان، تكلمنا فيه، نحن الحضور، لبث صامتا، وكان يُنقّل نظره بين وجوه وأفواه المتكلمين، والحضور...
في نّص مفعم بالشعر، والحنين، والرقّة، والشوق، وهو في الزنزانة الموحشة الباردة المعتمة يكتب:
ليل الخريف هذا
ما أقساه وأنعمه
حين تبكي الدمعة الدمعة
ويشتاق المبسم للمبسم
حين لا تجد الشفة زهرة الخد
وتلثم في لياليه الباردة
أطراف الوسادة
ليل الخريف هذا
ما أطوله
من الصخرة ينفجر الينبوع، ويتدفق الماء زلالاً، ومن صدر محمد كناعنه، الأسير الفلسطيني البطل، تتدفق المشاعر الرقيقة والحنين، والشوق لمبسم الحبيبة، ويطول عليه ليل الخريف، ويميل فمه ليلثم طرف وسادة السجن، غير محرج من شدّة الشوق ، واللهفة على العناق، فالثوّار هم الأكثر رقّة وعشقا.
ليس صخرة هو، ولكنه إنسان، ورجل يعشق الحبيبة ويفتقدها، و..يواصل كتابة ( ترانيمه) ، وقصائده النثرية، ونصوصه العميقة الإنسانية والشاعرية، هو الفرد، وهو ابن هذا الشعب، وهذه القضية المقدسة، وابن البحر، والجبل،ابن الجليل، والقدس وغزّة، وكل فلسطين، والعاشق لياسمين الشام، هو الذي لم ييأس من صهيل خيول المعتصم في زمن عربي آت لا محالة، والذي كل طفل وطفلة من أولاد فلسطين وبناتها..أبناؤه وبناته، ولهدى غالية ينشد، ولهم جميعا...
محمد كناعنه( أبوأسعد) يُضيف بترانيمه، ونصوصه الشعرية، لأدب السجون، قل: لأدب المقاومة، ما هو جدير بالتقدير، بل والمباهاة بهذه الروح التي تجعل من ليل الزنازين أناشيد فجر لفلسطين، وحُب لشعبها العظيم...
أبو أسعد يوجه من فضاء الجليل وعده لهدى غالية التي فقدت ( كل) أسرتها على شاطئ بحر غزّة، ولكل أطفال وطفلات فلسطين، ولكل شعب فلسطين:
هدى غالية
لن يبقى الحال على ذات الحال
تحية لك، هناك، في بيتك في الجليل،يا رفيقي محمد كناعنه، وأنت( تقيم) بين أفراد أسرتك، في بلدك، الذي حتما سيعود حرا لكل أبناء البلد المكافحين بعناد وكبرياء، والمتشبثين بالبقاء حتى الفجر الذي أبدعه دم الشهداء، وعيون الأسرى والأسيرات في السجون، ومن يعيشون على عهدها في الشتات والمنافي البعيدة والقريبة...
*صدرت (بمشيئة الملاّح) عن دار فضاءات – عمّان عام 2020
* هذه الكلمة بمثابة تحية لمحمد كناعنه وما يبدعه...