ملتقى حكايا السادس 2013: "لولا سلامك سبق كلامك.."
بقلم: د. فيحاء قاسم عبد الهادي
"ضحايا المجازر لا يُقتلون، فقط، يوم يُقتلون، تلك هي المرة الأولى؛ إنهم يُقتلون في كل مرة تعجز فيها الأصوات الحرة عن الجهر بالحق والحقيقة، وعن إدانة القتلة.. وتلك هي المأساة الكبرى، مأساة الضحايا الأحياء، الذين يحملون في ذاكرتهم، وفي وجدانهم، وفي عيونهم، رسالة ضحاياهم الراحلين".
د. بيان نويهض الحوت..في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
*****
ما الذي يمكن أن تقدمه الحكاية في عالم استبدل الكلمة بالرصاصة، والسلام بتفتيت العظام، والبسمة بالعصا؟!
ما الذي يمكن أن يُروى في عالم يدمِّر، ويشتت، ويفتت، ويسحق؟!
ما الذي يمكن أن يُحكى في عالم يأكل بعضه بعضاً، وتتزايد فيه الشهوة إلى الدماء، ويعلو فيه صوت القبيلة والطائفة على صوت الأخوة الإنسانية؟!
ما الذي يمكن أن يقال حين يكافأ المفسد والمرتشي، وتعاقب الضحية وينجو القاتل من العقاب؟!
ماذا أَحكي؟!
هل أَحكي أم لا أَحكي؟!
هل أَحكي قصةَ إِبريقِ الزَّيت؟!
إن قُلتم لا أو قُلتم نَسمَعُ؛ هل أَحكي قصةَ إِبريقِ الزَّيت؟!
*****
يعود ملتقى حكايا السنوي، العام 2013؛ ليؤكد، وبأشكال فنية متعددة، على أهمية الحكاية، ليس كفن فحسب؛ بل كعملية تربوية، يعيشها البشر معاً، على هذا الكوكب:
"نتساءل عما يمكن أن يحدث لو لم نثابر ونصرّ على إعلاء صوت الحكي والسلام، فوق قرقعة العظام؟! فحتى أمنا الغولة، في الأساطير القديمة، كانت تقول لمن يلقي عليها السلام: "لولا سلامَك سبَق كلامَك لأَكَلت لَحمَك قبل عظامَك"، ولهذا نبدأ بالسلام وبدعوات للكلام، مع أن الغول/ة في العصر الحديث يتَّخذ أشكالاً مختلفة، ولا يستعطفه السلام أو الكلام، ويأكل اللحم قبل العظام".
اجتمع الحكاؤون، والفنانون، - الذين يستخدمون الحكاية كشكل رئيس، في فنونهم المسرحية والسينمائية -، والمتدرِّبون على فن الحكي، وشركاء حكايا، من مؤسسات وأفراد، من مختلف دول العالم؛ ليتحاوروا، وليتعلموا، وليتواصلوا، عبر فن الحكاية، الذي يدخل القلوب دون استئذان، ويخاطب العقول، ويبحث عن المشترك بين الإنسان والإنسان؛ في الأردن/ جنوبها وشمالها ووسطها، وفي فلسطين/ جنوبها وشمالها ووسطها وعمقها، وفي لبنان، وفي مصر، وسورية، وبريطانيا، والسويد.
*****
نتلمس من حكايا هذا العام؛ ازدياد أهمية الرواية الشفوية، في مواجهة أشكال العنف كافة.
يتبيَّن أنه كلما ازداد الميل إلى الانغلاق، والجمود، والتحجر، والشرذمة؛ ازدادت الحاجة إلى طرح البدائل، للخروج من عنق الزجاجة الخانق.
وكلما ارتفع صوت الرصاص، ودارت آلة القتل الجهنمية؛ ارتفع صوت الضحايا، والمعتقلين، والمقموعين، والمضطهدين، وطلاب الحرية، نساء ورجالاً، ومن كافة الأعمار. يبحثون عن المشترك بينهم، ويروون حكايات تقضّ مضاجع المجرمين، والطغاة، والمستبدين، وتحرمهم النوم الهانئ.
*****
من بين العروض الفنية، التي قدِّمت في الملتقى، والتي تستخدم الحكاية أساساً للعمل الفني؛ تميَّز عرض فرقة "الورشة" المسرحية: زوايا: شهادات من الثورة، الذي أخرجه حسن الجريتلي، وكتبه شادي عاطف، وقدمته مجموعة من ممثلي الفرقة الموهوبين.
جمع العرض بين التوثيق، والتمثيل، والموسيقى، وسرد الحكاية، حيث استمعنا إلى رواية ست شخصيات مصرية، عن معاناة ثماني عشر يوماً من ثورة 25 يناير 2011.
استمعنا إلى شهادات من فرد من الألتراس، وبلطجي، وناشطة في حقوق الإنسان، وضابط من الجيش، وأم شهيد، وشاعر.
لم نعرف من أسماء الشخصيات سوى اسم الشهيد: "أحمد سالمان تغيان"، الذي استشهد يوم 28 يناير/ جمعة الغضب، حيث قامت والدته، بتوزيع صورته على الحضور؛ ما يعطي دلالة لا تخفى، وهي الرغبة في توثيق أسماء الشهداء، كي يخلدوا في الذاكرة.
أما الشخصيات الأخرى، فإخفاء اسمائها له دلالة أيضاً. شهادة عضو الألتراس، الذي فضل أن يكون اسمه مجهولاً؛ احتراماً لقدسية وثيقة الشرف للتشجيع الرياضي، التي اتفق عليها، بعد مذبحة ستاد بورسعيد يوم 1 فبراير 2012، والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة وسبعين قتيلاً، ومئات المصابين.
وشهادة الضابط، الذي رفض ذكر اسمه، وسنة التخرج، والذي تحدث عن امتلاكه صوتاً، بعد الثورة.
وشهادة البلطجي التائب، - والذي يمثل ست شخصيات، تمت مقابلتها، وكتابة شهاداتها – الذي يتعاطى المخدرات، وهو عاطل عن العمل حالياً، وله علاقات أمنية جيدة.
وشهادة الناشطة الحقوقية، التي شهدت على الأحداث، ودخلت مشرحة الإسكندرية، وشاهدت الجثث بعينيها، مع أهالي الضحايا، ثم شهادة أم الشهيد، ذات الشخصية القوية والحساسة، والتي تروي حكاية ولدها، الطالب في الثانوية، الذي قتل دون أن يكون مشاركاً بأية فعالية ثورية؛ لأنه كان قد خرج من درس خاص، ووقف يتفرج على الأحداث، في طريق عودته إلى البيت.
وأعتقد أن الاستماع إلى الشهادة السادسة، على لسان موسيقي، يعزف على العود، ويغني للوحدة بين المسلمين والمسيحيين (أصلُب هلالَك وبصليبك هِلّ..حاوِط ميدانك تلقَ الوفي خِلّ) أضافت نكهة مميزة إلى الشهادات، فهو يروي عن الشعراء الذين كتبوا الشعر، وعزفوا الموسيقى، وعاشوا حياة الميدان الثرية، في ميدان التحرير في تلك الفترة.
ونأمل أن يضاف إلى هذا العرض لاحقاً شهادة شابة وشابة، ممن شاركوا بفعالية في الثورة، بأشكالها المتنوعة والمبدعة.
****
"لقد تكلم الموت، وتكلم القتيل. وتكلم الشهود، عن المجازر، وما زال الضحايا الأحياء ينتظرون القاتل كي يتكلم".