تكاد السنة الثانية تنقضي على الثورات الشعبية العربية، وما زالت تشغل العالم. حدث تاريخي سيبقى حاضراً، فاعلاً، ومتفاعلاً مع الواقع وأزماته، ومع مسيرته وتداعياتها. وسيحاط بالكثير من الأسئلة المربكة والأجوبة التي يفرزها الصراع الاجتماعي.. وحتى الآن، يبدو أن ما افرزته الحركة الشعبية في ثوراتها يزيد من حالة الإرباك والبلبلة لدى النخب الفكرية والسياسية والثقافية، بفعل عاملين: الاول؛ هو المستوى غير المسبوق من التدخل الخارجي في تحويل إنتفاضات الشعوب الى شماعة في لعبة الأمم. والثاني؛ هو سطوع نجم الإسلام السياسي بحضور كبير، وببرنامج هزيل، وبخطاب رجعي – تكفيري لا علاقة له بأساس وجع الجماهير المنتفضة ومطالبها السياسية والاجتماعية.
مسألتان متلازمتان وواضحتان أدّتا الى التشويش على " لحظة " ثورة الشعوب لكسر قيودها الحديدية، والتشكيك بثوراتها ومنطلقاتها وأهدافها، وجنوح البعض الى اشاعة الروح الانهزامية، وبث ثقافة الخوف على الحرية والديمقراطية والعروبة والاستقلال.. المفقودة أصلاً. الى ما هناك من اطلاق العنان لتحليلات ذهبت الى حد أنها تتلاقى مع الروحية الشرسة التي قاومت بها أنظمة الاستبداد جماهيرها في كافة مراحل نضالاتها السياسية والنقابية والشعبية من أجل الحرية والديمقراطية والتغيير.
الثورات تسير بشكلها الحلزوني، ولو أنها لحد الآن لم تكن بحجم الآمال والتوقعات التي حلمت بها الشعوب، فتركة النظام العربي المنهار ثقيلة جداً، والورثة المتقدمون لا يبشرون بخير الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. لكنهم لم يستقروا بعد، على وجه محدد ونهائي، لكن سيرورة الثورة جارية على قدم وساق، هنا أو هناك، وعملية الفرز تأخذ مجراها الطبيعي لتستقر على موقعها الطبقي في الصراع.
لكن، وبكل صراحة تتجاوز أسئلة كل المشككين، نقول، على ماذا الخوف والقلق!.. فإذا كان الخوف من الالتحاق والتبعية للإمبريالية والغرب، فالحال قبل الثورة لم يكن غير ذلك. وإذا كان الخوف على الحرية والديمقراطية فإنهما كانا المحال بعينه. أما حقيقة ما جرى من ثورات، وما حققته، بما لا يقبل الشك والجدل، أن الشعوب التي تعبت من كذب الحكام، ويأست من حصاد الرياح . انفجرت من كثرة تحملها وتحميلها كل آفات وفساد وأزمات نظم سياسية جعلت من شعوبها " فئران تجارب"، وانتزعت حق وجودها ككتلة بشرية هزت فيها عروش السلاطين، وكسرت احتكارهم لموقع القرار وفرديته، بحيث لم يعد هناك نخبة سلطوية مستبدة قادرة على التحكم بها كما تشاء، وكيفما تشاء. فما جرى ويجري هو مقدمة لمرحلة فرضت نفسها بقوة ارادة الجماهير، وهي تختلف عن حقبة " الأمر لي" أكان هذا الأمر من فرد، أو حزب واحد مهما كان حجمه وقوته.. وهذا يشمل بطبيعة الحال، السلف الطالح والخلف غير الصالح.
*****
فالتهويل على الناس أو المبالغة في تعظيم خطر الاتجاهات السياسية التي ترعاها قوى دولية وإقليمية وتغذيها بالمال والسلاح والرعاية والاعلام لا يفيد كثيراً، ولا يعني أن السلطات الناشئة عن صناديق الاقتراع تستطيع بدورها أن تتجاوز ما حققته الجماهير، أو أن تستطيع المماطلة في تحقيق مطالب الناس، ولو سارعت هذه القوى "الاسلامية" في تونس ومصر وليبيا وحتى اليمن إلى تقبيل أيادي الإدارة الأميركية وتقديم ما يلزم من تعهدات للمشروع الامبريالي- الاستعماري لتوفير ضمانات تكريسها في الحكم، أو إحكام قبضتها على مجتمعاتها، وهي المجتمعات ذاتها القادرة على إلغاء تأشيرة دخولها الى سدة الحكم، كما فعلت مع من سبقها.
قامت الثورات من أجل قضايا تهم الإنسان العربي في حياته وحريته وحقوقه، وهي قضايا لم تقم بها الأنظمة التوتاليتارية، ولم تسعَ مشاريعها الفكرية والسياسية للاعتراف بها واقعاً طيلة عقود زمنية من الحكم متلطية وراء شعارات فلسطين أولا، أو،القومية والعروبة والوحدة والتنمية والحرية والديمقراطية.. وفي النهاية لم نشم رائحة فلسطين، ولم نتذوق طعم الحرية.. والنتيجة من قاوم شعبه ورحل، ترك خلفه اشلاء وطن يعوم على تلال من الأزمات الوطنية، ومن يقاوم فشله سيزيد حتماً من كمية ونوعية هذه الأزمات.
ما هو مؤكد أننا في مرحلة صعبة وعسيرة، لكن لا يمكن العودة الى الوراء، يوم كانت ُتصادر حرية الناس وُتعتقل أفكارهم وابداعاتهم تحت مسميات وتبريرات "وطنية" مختلفة.
لا جدال، أن الديمقراطية حاجة وضرورة ماسة لمجتمعاتنا، لكنها لا تختزل بصندوقة اقتراع. ولا هي كافية وحدها دون أن تكون حاملة لمشروع وطني تحرري تنموي عربي، لتجيب على مشكلات التبعية والفقر والبطالة والوحدة والتطور.. وفي صلب هذا المشروع مسألة العلمانية. والاسلام السياسي لم يقدم لحد الآن ولن يستطيع أن يقدم حلولاً لهذه المعضلات، لأنه لم يضعها كمهمات أساساً، بدليل خطاباته وبرامجه المخيبة لآمال وحتى للذين صوتوا له بصناديق "الديمقراطية".
والعلمانية ليست فزاعة، كما تم تسويقها عن سابق تصور وتصميم من قبل الأنظمة البائدة، وكما تم تشويهها عمداً في مجتمعاتنا، لضرورات تخدم مصالحها في تأبيد سيطرتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بحيث بدل أن يلتحم النظام القومي العربي مع "علمانيته" إلتحم مع الدين بطبعاته السياسية المستحدثة والمفصلة على قياسات كل نظام، التي بدورها راحت تتمدد بنماذج سياسية أصولية وسلفية مستظلة بالدين كغطاء للنفاذ الى روح الناس. هذا التحالف بين المؤسستين السياسية والدينية المستتر حيناً، والمعلن حيناً آخر، فتح خلال الثورات الشعبية شهية النخب السياسية الدينية الى طرح نفسها الوريث الشرعي والوحيد لأنظمة الحكم الميتة.
نحن الآن في مرحلة تجريبية من صعود الإسلام السياسي، والتحدي يكبر يوماً بعد يوم، بسبب "مظاهر" التدين والفرز الطائفي والمذهبي المبالغ فيها، وهي مقصودة ومدروسة، لوضعها في خدمة مشروع سياسي – اجتماعي متخلف بعصور عن أنظمة الحكم البائدة، وهو المستفيد راهناً من المد الشعبي المطالب بالتغيير الجذري وليس بالبديل الوهمي. لكن شعوبنا لن تعيش مرة ثانية تجربة " مرضى الوهم" في تحقيق ما ضحت لأجله مع هذا الإسلام السياسي السائر حتماً إلى الانحسار والتفكك، خصوصاً أنه يفتقد إلى رؤية ومنهجية وبرامج تجيب على المعضلات والأزمات الدنيوية،عدا عن أنه قدم مبكرا أوراق اعتماده إلى القوى الامبريالية الموّلدة مع أنظمتها التابعة لأزماتنا التي ثارت شعوبنا عليها.
*****
لم تقم شعوبنا في ثوراتها لتختار بين حلين " قومية عربية هاربة من قوميتها وعروبتها" ولا بين اسلام سياسي متخلف. بل قامت من أجل تحررها الإنساني، وبناء مستقبل لعروبة علمانية ديمقراطية غير معادية للدين، تحمل في مضامينها مشروع لحركة تحرر وطني عربي. والأكيد أن رحلة هذا المشروع قد بدأت، مجدداً، بفعل هذه الثورات.