بدون مؤاخذة:للحفاظ على مسيرة التعليم في فلسطين
جميل السلحوت:
لن نتكلم هنا عن معاناة بناتنا وأبنائنا طلبة المدارس في مرحلة التعليم الالزامي، فهي كثيرة جدا، تتوزع بين عدم توفر مدارس نموذجية لغالبية الطلبة، وعدم وجود ملاعب حتى للاصطفاف الصباحي، وعدم توفر وسائل تعليم مساعدة، والنقص في المختبرات والمكتبات المدرسية، وعدم توفر الأمن والأمان للطالب في بيته وفي الطريق الى مدرسته وفي المدرسة....الخ.
لكننا سنركز هنا على قضية عدم التزام جزء كبير من الطلبة بالدّوام المدرسي بدايته ونهايته، وعدم تقيدهم بقوانين التعليم، وعدم احترامهم لمدرّسيهم، و....هكذا، فما أسباب ذلك؟ وما هي الحلول؟
وفي الواقع أن هناك أكثر من سبب لذلك، منها ما يقف خلفه الاحتلال، ومنها سببه الأوضاع الاقتصادية المتردية في الأراضي الفلسطينية، ومنها عدم وجود قوانين رادعة، وسنتطرق هنا الى قوانين الردع، والردع هنا لا يعني العنف الجسدي أو اللفظي، فكثير من الطلاب وأولياء أمورهم فهموا قانون "عدم تعنيف الطالب" بطريقة معكوسة ومغلوطة، وفهموا أن عدم تعنيف الطالب يعني اعطاء الضوء الأخضر للطالب بتعنيف المعلم، وعدم احترامه، وعدم الالتزام بالدّوام المدرسي وغير ذلك، وفهموا أن كلّ شيء مباح للطالب حتى يكمل مرحلة التعليم الالزامي، و"أنّ القانون يحميه" وأنّ المعلم ملزم بقبول مسلكيات وتصرفات الطالب حتى لو تعرض لاعتداء جسدي من الطالب أو من بعض ذويه، وإلا فانه قد يفقد وظيفته، وقد يُجرّ الى المحاكم بعد تقديم شكوى للشرطة، عدا العطاوي والصلحات العشائرية وتبويس اللحى.
وآمل هنا أن لا يفهمنّ أحد أنني أدعو الى إعادة معاقبة الطلاب بالتعنيف الجسدي أو اللفظي، أو فصل الطلبة المشاغبين في مرحلة التعليم الالزامي، كما كان يحصل مع أبناء جيلي في خمسينات وستينات القرن الماضي. بل أدعو الى وضع قوانين صارمة وتنفيذها على أرض الواقع لضبط مسيرة التعليم، وقد سبقتنا الى ذلك الدول-أوروبا وأمريكا- التي قلدناها في قانون"عدم جواز تعنيف الطلاب" فقد رافق تلك القوانين قوانين رادعة ضبطت العملية التعليمية دون تعنيف، وبذلك تقدّم التعليم عندهم ويتطوّر باستمرار لافت، وكانت النتائج نبوغ العلماء وما واكب ذلك من ثورة علميية تكنولوجية أذهلت العالم.
وسأعطي أمثلة على ذلك مما شاهدته من قوانين تعليمية في أمريكا أثناء زيارتي لإخوتي هناك، وتحديدا في مدينة شيكاغو، التي يبلغ عدد الطلاب فيها أكثر من التعداد السكاني لشعبي جميعه، فقبل حوالي عامين كان علاء ابن شقيقي داود في الصف التاسع، في مدرسة نموذجية، تبعد عن بيته حوالى 3 كيلو متر، وفي الحيّ الذي يسكنه"بريدج فيو" وسكانه في غالبيتهم من المغتربين العرب وبعض المسلمين، واصطفّ علاء –في الحيّ وليس في المدرسة-مع ثلاثة أطفال عرب من جيله في مشاجرة صبيانية على زميل لهم من أصول تركيّة وبطحوه أرضا، وفي اليوم التالي تقدم الطالب تصحبه والدته بشكوى الى إدارة المدرسة، فأوقفت الادارة علاء وزملاءه عن المدرسة لمدة شهر حتى تبحث القضية، وعقدت جلسة تأديبية للطلبة حضرها مديرة المدرسة، والباحثة الاجتماعية، وضابط السلوك، وممثل عن مديرية التعليم، وممثل عن لجنة أولياء الأمور، وممثل عن البلدية، وطُلب من أولياء الأمور احضار محامٍ للدفاع عن الطلبة المتهمين بممارسة العنف ضد زميل لهم خارج حرمة المدرسة، وبعد الجلسة التأديبية التي حضرها محامٍ عن علاء تقاضى ألفي دولار، صدر القرار محذرا من خطورة الموقف، وبالتالي: نقل الطلبة"المعتدين" الى مدارس داخلية في ولاية أخرى، أو أن ينقلهم ذووهم الى مدارس خارج المقاطعة التعليمية لمدة سنتين، وتبين أن المدرسة الداخلية تقع في معسكر تدريب للجيش، وتطبق على الطلبة فيها القوانين العسكرية ومنها، اجبار الطالب في الخامسة صباحا ، على الركض مسافة أربعة كيلو مترات، واختار شقيقي داود –رأفة بابنه- أن ينقله الى مدرسة تبعد عن البيت أكثر من 40 كيلو متر، وكان يستيقظ في السادسة صباحا كي يوصل ابنه الى المدرسة، وليذهب بعدها الى عمله، وعند انتهاء الدوام المدرسي كان يترك عمله ليعيد ابنه من المدرسة.
وعلاء الآن يتعلم في مدرسة ثانوية تبعد عن البيت حوالي كيلو متر، ويدرس فيها حوالي 3000 طالبة وطالب، والتعليم فيها هادئ ومنتظم مثل بقية المدارس، وهي لا تتهاون في أيّ صغيرة أو كبيرة، وفي بداية العام الدراسي الحالي كنت هناك، واتصلت موظفة من إدارة المدرسة بشقيقي داود تخبره عن مخالفة قام بها ابنه علاء، وتكرارها سيوجب عقابه، والمخالفة كانت أنّ علاء أخذ معه الكتاب المقرّر لإحدى المواد الدراسية ونسي أن يأخذ معه الدفتر.
وعلمتُ بمخالفة أخرى وهي أنه تم توزيع ساندويتشات"هامبورغر"على الطلبة في وجبة الغداء، وأحدهم فلسطيني مسلم، وبعد أن أكل لقمتين سأل المعلمة إذا ما كانت اللحمة لحم خنزير، فأجابت بالايجاب...فألقى الساندويتش في سلة القمامة وصاح في وجه المعلمة: لماذا فعلتموها؟ ألا تعلمون أنني مسلم وأن لحم الخنزير حرام؟ ففصلوه من 22-5 حتى نهاية العام الدراسي لأنه صرخ في وجه معلمته، وسمحوا له بالعودة لتقديم الامتحانات النهائية، مع حرمانه من علامة الواجبات المنزلية وهي 40% من مجموع العلامات، ولولا حذر ادارة المدرسة من اعتبار القضية عنصرية دينيه لفصلوه كليا. ولولا أن الطالب مجتهد لرسب في صفّه.
والأمثلة كثيرة، لكنها تأكيد على ضبط العملية التعليمية في مدارس طلابها بالآلاف وينحدرون من أصول مختلفة وثقافات مختلفة. وأن أولياء الأمور يراقبون أبناءهم الطلبة ويوجهونهم باستمرار خوفا من الوقوع في المحظور. فلماذا لا توجد عندنا قوانين رادعة للحفاظ على مسيرتنا التعليمية؟