قراءة في كتاب "هواجس أسير"
للأسير كفاح نصر الدين طافش
عماد الزغل
ندوة اليوم السابع
يعد كتاب "هواجس أسير" للكاتب الأسير كفاح طافش نموذجا جديدا وفريدا لأدب السجون، ذلك أنه حطم كل المحرمات "والتابوهات" التي يخطر الحديث عنها في أدب الحركة الأسيرة الفلسطينية، ولذلك فهو إصدار يستحق القراءة والتحليل.
ويقع هذا الإصدار الجديد الذي أصدرته دار الجندي للطباعة والنشر في القدس في مئتين وأربعين صفحة من القطع الصغير ، وقد رأى النور بعد عامين تقريبا من تحرير الكاتب له، حيث ذيّل الكاتب آخر صفحة له بتاريخ حزيران 2011
الكاتب الذي ما زال يكتب بوعي الأسير الفلسطيني، لأنه ما زال في السجن يقضي حكما لمدة خمسة عشر عاما، قضى منها عشرة تقريبا، عالج قضية الأسرى وما يلاقونه من ألم ومعاناة داخل القبور الاسمنتية كما يسميها الكاتب بطريقة جديدة بعيدة عن الخط التقليدي الذي ينتهجه الأسرى الفلسطينيون في كتاباتهم، بتدوين المفاخر والبطولات الحارقة، وكسرهم لإرادة السّجان بالإضرابات الطويلة عن الطعام وانتهاج حياة الزهد والمقاومة داخل جدران السجن، فسلط الكاتب الضوء على الأسير بوصفه إنسانا يعاني من أزمات نفسية وسلوكية بل وأخلاقية داخل جدران السجون، وهذا ما هو محظور في أدب الحركة الأسيرة لأنه يوحي بانهزامية الأسير أمام السجان الصهيوني، ويسجل نجاحات لمصلحة السجون في تحطيم الأسرى وقهرهم وتشويه نفسياتهم والنيل من إرادتهم.
الكتاب الذي قسمه الكاتب الى هواجس يمكن تصنيفه ضمن المذكرات الشخصية التي تضيء جانبا من حياة الكاتب، وهي سيرة متجزئة تبين جانبا من حياة الكاتب وهو في الأسر، ومصطلح "هواجس" مناسب لأنه ينطبق على ما كتبه الكاتب بوصفه تصويرا لخلجات نفسه وأحاسيسه ومشاعره داخل السجن منذ بدء التحقيق معه إلى أن استقرت أحواله داخل السجن لقضاء فترة محكوميته الطويلة نسبيا.
كفاح طافش الأسير الذي ينتمي الى اليسار الفلسطيني لا ينسى أي مفردات المعاناة التي يلاقيها الأسرى الفلسطينيون بدءا بالتحقيق والشبح والتعذيب النفسي، مرورا بغرف العار أو ما يعرف بغرف "العصافير" وهو مصطلح مرادف "للعملاء" في قاموس الأسرى الفلسطينيون، وتعريجا على البوسطة وهي السيارة التيس تنقل الأسرى "والأبراش" وهي التي ينام عليها الأسرى، وهي مصطلحات مألوفة لكل أسير فلسطيني.
وقد تمتع الكاتب بالجرأة البالغة في طرح قضايا الأسرى، فقد اعترف أنه سقط في فخ العصافير على الرغم من حزنه الشدي، ولم ينسى أن يضيء جانبا لا يتجرأ أحد على الحديث عنه، وهو قضية اللواط بين بعض الأسرى، كما لم ينس أن يصور خلجات نفسه بل وأحلامه لا بالحريه بل المشاهد الجنسية التي كان يراها في منامه، وهذه مرة في حدود ما اعلم يعالج فيها كاتب قصيدة الجنس في حياة الأسرى الفلسطينيين.
لقد صور الكاتب نفسية السجين في أرق تفاصيلها مسقطا ذلك على نفسيته التي كانت تعاني الوحدة والألم بعيدا عن الأهل وعن المتغيرات التي تحدث خارج القضبان، مشيرا بإصبع الاتهام أحيانا الى انه لا يشعر بالسجين ولا بآلامه إلا من يعاني مثل معاناته ، ناقدا عبارة "السجن للرجال" لأن السجن في نظره يصيب السجين بتشوهات نفسية تترك أثرا بالغا على السجين حتى بعد خروجه من السجن.
بل ان الكاتب يعكي حالة تشبه الجنون تصيب الأسرى، فهو يخاطب فرشته وكأسه وكرسيه ويجري حوارا معها، فالفرشة تشكو من كثرة استمنائه، والكرسي مل منه وكذلك الكأس، فحتى الجمادات تمل حياة الرتابة داخل السجن.
والكاتب لا ينسى الوحدة الشعورية التي تفصله عن الأسرى على الرغم من أنه يعيش معهم، فالسجن يجبرك على ان تعيش مع من تختلف معهم في الميول والاتجاهات والنزعات النفسية وهذا يؤثر سلبا في نفسية الأسير، وهو من أشد ألوان المعاناة داخل نفوس الأسرى.
أما لغة الكاتب في لغة شاعرة محلقة مفعمة بالصور والمجازات والتشبيهات والاستعارات حتى انك تضل طريقك وأنت تقرأ سطوره، وتتعب من داخل العبور ولا تعرف الراحة إلا عندما يستقر بك على الأرض في بعض السطور التي يستخدم فيها الألفاظ على حقيقتهافي معرض السرد للأحداث التي مر بها الأسير، فالكاتب يمتلك ناصيته اللغة الشعرية في الوصف ويستطيع التعبير بكل دقة وتصوير أدق خلجات النفس التي يشعر بها الأسير داخل السجن.
ولا ينسى طافش أن ينقلك أحيانا خارج السجن فيصف أهله واحدا واحدا، ويصور علاقاته معهم كبيرا وصغيرا من عرفه ومن لم يعرفه راسما صورة لحضور كل واحد منهم في حياته ومدى حنه على فراقه.
إن طافش قد نقلنا من عوالم التحدي والبطولة الخارقة للأسطورة الفلسطينية خلف القضبان والتي جسدها العيساوي ومن قبله عمر القاسم واسحق مراغة وعبد الصمد حريزات الى المعتقل الإنسان الذي يواجه معاناة نفسية وسلوكية، فهو ينقلنا من المعتقل البطل الى المعتقل الإنسان وهو ما يعتبر إضافة جديدة لأدب السجون.