قراءة في رواية غوايات أوسلو ومازن سعادة
د. وفاء درويش:
عندما يبدأ المرء بقراءة رواية أطوار الغواية لمازن سعادة، فانه يواجه بموقف حاد لا يقبل التأويل، هو موقف جنة ضمير وصوت الرواية الأساسي المتمثل بالوعي الكامل لواقع ما بعد أوسلو المدمر. ثم ينتقل الكاتب لوصف تفاصيل علاقة جنة بيوسف بطل الرواية، الفنان/ الحالم الذي ابتلع اسطورة الوهم وقرر العودة الى وطن وقع في فخ اتفاقية أوسلو، التي صورت للحالمين انتصارا كاذبا. وحين يتوغل القارئ بعلاقة جنة ويوسف يعتقد ان رواية سعادة تصور طورا واحدا لا أطوارا من الغواية، وهذا الطور هو بالطبع العلاقة الجسدية الخالصة التي تمتد على مدى سبعة أيام متواصلة من العشق الذي يذكرنا بأنسنة انكيدو من خلال تجربته الجنسية في اسطورة جلجامش. وما أن نخرج من استوديو الفنان يوسف في مدينة تونس، الذي شهد تلك العلاقة/ طور الغواية الأول للهجرة الى جنيف، حتى نصطدم بمرارة الحقيقة التي حذرت منها جنة، والتي تكشف عن مستويات أخرى، أعمق وأكثر أهمية من غواية الجسد. ينقلنا سعادة من غواية الجسد الى غواية السياسة، فيتناول اتفاقية أوسلو بكثير من السخرية التي تتناول المدينة النكرة أوسلو، التي لم يعرف عنها البطل سوى أن مخترع البطارية كان منها. فقد كان لتلك المدينة النكرة، أوسلو أكبر الأثر على حيوات أناس ومستقبل وطن. تلك المدينة التي انتجت اتفاقية يسرت ليوسف العودة الى وطن، وهم، وحلم تحول الى كابوس، فتتوالى أطوار الغواية. غواية نكران الأخ لأخيه، حيث ينكر كمال أخيه يوسف بعد عودته الى الوطن خوفا من قسمة الإرث، ينكر كمال أخيه ليستأثر بالبيت والحديقة والأرض. ذلك الموقف يعرض يوسف لأول مرحلة من مراحل الاغتراب عن القرية والبيت ومسقط الرأس وذكريات الطفولة. ثم يتواصل بمسلسل من الارهاصات من حواجز عسكرية إسرائيلية الى فهلوية سائق سيارة مشطوبة وسواه من فقراء الوطن المحبطون الذين حولتهم المرحلة الى ذئاب ينقض الواحد منهم على الآخر من أجل مكسب مهما كان صغيرا. بعد لفظه من بيته وقريته يقوم يوسف باستئجار بيت صغير، روف بناية صغيرة في مدينة رام الله التي كان لعودة أوسلو اليها واتخاذها معقلا لقيادة السلطة أكبر أثر تدميري على جمالياتها ونكهتها. يقوم يوسف بتزيين روف المبنى الجميل القديم بأوعية الزهور والنباتات الجميلة ويحولها الى جنة يمارس بها الفن والحب مع الصحفية النرويجية صوفي وزوجة صاحب البناية، جميلة، التي يكبرها زوجها بأكثر من ثلاثين سنة، فتشبع رغبتها المكبوتة وحرمانها مع يوسف. وبعد ينتقل بنا سعادة الى أطوار غواية المال فنلتقي شخصية عيد أبو سالم الانتهازية الجشعة التي امتلأت بها مدينة رام الله بعد أوسلو ممن أعماهم جشع المال عن أي قيمة جمالية أو تراثية فيقوم بشراء المبنى من شبلي زوج جميلة ليهدمه على رأس يوسف، ليقيم مكانه ناطحة سحاب تشوه كمثيلاتها جمال المدينة. ومن شخصيات الرواية الأكثر واقعية ووقعا للألم، شخصية الشاعر المناضل هادي/ بيروت، الذي تحوله عودة أوسلو الى رجل الأمن/ فايز، القمعي الذي يتفنن بأساليب التجسس وجمع المعلومات عن يوسف وأصدقائه بواسطة المدرس/ صابر، الذي يسكن نفس البناية التي يسكن فيها الفنان يوسف، والذي يعمل مدرسا للغة العربية، أغواه المال وقمعه الخوف وسيطرت عليه غيرته المميتة من علاقة يوسف بجميلة، التي كان يعشقها ويحلم بها كل ليلة قبل مجيء يوسف للسكن في البناية. غيرة مدرس محافظ من نمط حياة فنان حر، نمط حياة يتطلع لها ولكنه لا يستطيع الاستمتاع بها. يتمكن فايز من اعتقال وتعذيب يوسف بسبب اختلافه وبسبب إصراره على أن لا يكون واحدا من القطيع، وعلى خلفية مسرحية ألفها مع مخرج مسرحي متحمس لبناء مسرح محلي، مسرحية تنتقد أوسلو وتعري فساد السلطة والتنسيق الأمني، مما يتسبب بإحباط يوسف ومن ثم موته، اختفائه، تحت ركام روفه الحلم. يأتي التعبير عن خزي التنسيق الأمني في أطوار الغواية، عندما تختلط اللغة العربية بالعبرية لحظة تفجير القبو الذي اختبأ به أبطال المسرحية في نهاية العرض المسرحي التجريبي، والتي كان ألفها الفنان يوسف مع المخرج المتحمس وليد. ومع تفجير الموقع أو القبو يختفي تدريجيا صوت الشهيد مالك الذي يمثل شهداء الوطن. هذا الصوت الذي صاحب الرواية في كثير من محطاتها يختفي مؤكدا نكران أوسلو وتداعياتها لتضحيات من فقدوا حياتهم ليس من أجل أطوار غواية المال والسلطة، ويستشهد الكاتب بكلمات الشاعر معين بسيسو الذي يشكل نقيض فايز من حيث التأكيد على ثوابت النضال. "في النعش متسع لأغنيتين، واحدة تقول أنا الكفن والثانية تقول سئمت الرحيل من الرحيل الى الرحيل" فيرحل مالك الشهيد بهدوء. تنتهي الرواية كما بدأت بجنة التي تعود الى رام الله للكشف عن الطريقة الغامضة لموت، لاختفاء يوسف، وتستعيد لوحة غبش الرؤية والمرحلة والحقيقة التي كان يرسمها يوسف بعد عودته الى الوطن. باختصار، الرواية تجسد موت الحلم بموت يوسف، وهزيمة الحلم بهزيمة جميلة التي تترك رام الله لتعود الى براءة قريتها، وعدم عرض المسرحية التي كتبها يوسف بعد اعتقاله من قبل الصديق والشاعر والمناضل السابق ورجل الأمن وممثل السلطة الحالي. وتبقى في الرواية غواية وحيدة بريئة هي غواية الجسد. عندما ينتهي القارئ من رواية أطوار الغواية فإنه بعد الاستمتاع بها، يجد نفسه يرتطم بمرارة الواقع وواقع المرارة ويكتشف سر كرهه الغامض لمدينة طالما أحبها. تصور الرواية بأسلوب ممتع ومن خلال سرد لتجارب شخصية بعيدة عن الشعارات والتنظير قدرة السياسة المنهزمة على تشويه البشر والحجر معا.