فاطمة الخطيب/ حكايا تلّ الزعتر وشاتيلا: «صِرنا حكايا»
فيحاء عبد الهادي
2019-09-29
هناك أهمية قصوى لنشر المزيد من حكايات المجازر، بعد توثيق المزيد مِن شهادات مَن عايشوها.
المجازر تتواصل، والمجرمون ما زالوا طلقاء، لكن ذاكرتنا الحيَّة وحكاياتنا لهم بالمرصاد؛ تلاحقهم ليلاً ونهاراً، وبكافة الأساليب؛ السياسية، والحقوقية، والأدبية، والفنية؛ حتى لا يفلتوا من العقاب.
*****
قدَّمت "فاطمة الخطيب" - المهجَّرة من الخالصة إلى لبنان عام 1948 - شهادتها، عام 2012، حول مجزرة تل الزعتر، بعد ثلاثة وستين عاماً من وقوعها، وحول مجزرة شاتيلا، بعد ثلاثين عاماً من وقوعها، ضمن مشروع توثيق المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى العام 1982، الذي نفَّذه مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق/ اليونيسكو.
"تزوَّجت في تل الزعتر، ولما صار الحصار شهرين، دقنا الأمرِّين، نروح على الميّ عشر نسوان نرجع خمسة. في المخيم كنا نعجن ونخبز، وين فيه شباب مقاومين نروح، وشو عايزين نساعدهم، كنا نمشي جنبهن، ما نخاف، ونشجّعهن، انآهيلهُم ونغنيلهم. نجمّع النسوان، ويلا يا صبايا، نترك اولادنا في الملاجئ، ونروح. نروح على دير الراعي الصالح، على المستشفيات بالجبل، نركض نعبّي ميّ للمسلحين، والشباب، اللي عايز ميّ يوخد كالون، كان كالون الميّ كالون دم، ونقطة المّي بنقطة الدم، والله الصواريخ تيجي قدّامنا واحنا حاملين كلان الميّ، واللي يروح يروح واللي يضلّ يضلّ.
وقت ما تحاصرنا، النساء كانت تهتم بالجرحى داخل المخيم، كانوا البنات يطلعوا على الهلال، بنتي "ميسا" طلعت مع الشباب لتعمل دورة إسعاف في دير الراعي الصالح، على الجبل، لقت أولاد خالها بالمحور، قَلّها: شو جابك؟ كيف شو جابني؟! أنا أحسن منكوا؟! بدنا نسعف الجرحى، "وسميرة" طلعت على المحاور عند الشباب دورة إسعاف. بنتي كانت نازلة هي ورفيقتها اللي استشهدت، قنصوها، "آمنة عثمان"، وإخوتها تنين وأختها راحوا، تنذكر ما تنعادّ!
راح خيّي بتلّ الزعتر، بحرب الشوارع، وحيد بين تمن بنات، وعنده خمس شباب.
حرب شوارع بس دخلوا على المخيم، قسماً بالله مثل الخرفان مسّطحة بالشوارع! دارت حرب شوارع طول الليل، واللي يسلم يسلم واللي يروح يروح. حماتي ختيارة، حملها ابن سلفي على ظهره عشان يتخّلص منهم، ويا حرام! قتلوها وقتلوه. بنت عمي، فاطمة، إجرها مقطوعة حملها هذا الشاب "قاسم"، كمان شلّحوا اياها، وقتلوه.
طلعنا على الدكوانة، اللي يقول: سوري يتركوه، واللي يقول: فلسطيني يدبحوه على الطريق. ما خلّوا شاب، هجموا علينا بِدُّن يقوّصونا، بنتي حاملة كيس نايلون، حاطّة فيه هويات وصور، قَلّها: شو حاملة يا بنت (..)؟ قُلتلُّه: مش حاملين شي، أواعينا زتّيناهم، يا حرام علينا حافيين طلّعنا. ما صَبَر لأفكّ الكيس من إيدها، وبراس السنكة فتحه، واللي فيه هويات وصور وأوراق ولادة، وقَلّي: ياخوات (..) كلكم مسلّحين، إسَّا بدكم تموتوا، قُلتلُّه: إذا قتلتنا شو بدّك تستفيد؟! كُلُّن اولاد زغار. شويّ إلا مع جيِّة واحد، فش 18 سنة عمره، ومدني، بَعَدوه على الزاوية، قَلُّه: شو بدّك فيهم؟ قّلُّه: ما حرقك قلبك على الأطفال؟! شو بدّك فيهم؟! قَلُّه: هدول كلهم مسلحين، قّلُّه: أتركهن، بدّيش أتركهن، طلع ما معه رصاص، ولو معه، كان كوَّمنا بالدكوانة، أنا واولادي، أبصر شو راح يجيب! والشاب قَلهن: متخافوش، أركُضوا وراي، وركضنا وراه، مرَّت سيارة مليانة، وقفها، قَلُّه: إفتح الطبونية، وحطّنا أنا واولادي، وعمي، وساقت السيارة فينا للمتحف، على المتحف فتّشوا، شو معك مصاري يشلّحوك، شو معك ذهب يشلّحوك، الشاب ياخدوه ويقتلوه قدّام عينك، وإنت عم تطلّعي عليهن، عملوا مجازر، ما خلّوا ولا شاب.
كتير اغتصبوا، بنت ابن عمي أخدوها، وبنت خالي صبية، أخدوها، "سليمة الخطيب"، مخلفة جديد، عمر ابنها شهر، زتوه على أمها، وحطوها بالدبابة، وبعدها ما بيَّنت، والتانية "مريم الخطيب"، صبّية، قتلوا زوجها قدّامها، وحطّوها بالدبابة. راح من عيلتنا بنتين من بيت الخطيب. كتير أخدوا بنات.
طلعنا من تل الزعتر، وين بدنا نروح؟! قعدت سنتين بالدامور. وأنا رُحت على ألمانيا، قعدت أربع سنين في ألمانيا، طلعت منها قبل الاجتياح بشهرين، الاجتياح استقبلنا. بعدين إجت مجزرة صبرا وشاتيلا، غطّت على الكل".
*****
"رجعت قبل حرب 82 من ألمانيا، سكنت في بير حسن، أمي وأختي واولادها 12 نفر، راحوا بمجزرة شاتيلا.
فُتِت بعد المجزرة على المخيم، ضَلُّه 3 أيام محاصر يقتلوا بالعالم، اطلَّعِت هيك، شو الجثث! تحت السيارات كلها مضروبة على الراس بالبلطات، مرميِّة وكلها منفّخة. طلّعت على بيت أختي كله كوم تراب، أصيّح: يا ديبة، يا ديبة، يا صابر، يا علي، حسين ونادر ومنذر ومريم وامتثال وآمنة، فِش حدا! قالوا لي: في جثث كلها عم يجمّعوها، أول ما لقيت أمي بين الشباب وجهها مغطّى بس نايمة، بس ما قدرت أشوف وجهها، وصرت أصرّخ وقُلتِلها: وين ديبة وأولادها؟ ياريت تكون أمي فِدا عن أختي وأولادها. صرتْ أطّلع هيك بين الجثث حتى ألاقي أختي وأولادها ما لقيت، وضلّيت للمغرب. تاني يوم كمان من الصبح للمغرب، توقف الجرّافات أسحب حالي وأَفِلّ، صرت مثل المجنونة أبرُم تحت الشجر، وأعتِّب كل بيت بيته، شافني الصليب الأحمر، قلّي: مين راح لك؟ قلت لهم: أختي وكل عيلتها، حطْيت اسمها في الدفاع المدني والصليب الأحمر، وما خلّيت مطرح. زَمَط ابن أختي، كان آخد جريح على المستشفى وهرب، والله سلّمه. يا أحمد، وين أمك وإخواتك؟ قَلّي: ما بعرف! تركتهن بالبيت، الصبر بالله. أحمد لقي أهلُه قاتلينهن وكابّين عليهن كلس، عِرِفهُن من أواعيهُن، وقَلّي: راحوا يا خالتي، ضليّت أروح لرابع يوم، لمّا صاروا يطلّعوا الجثث من الكراج، ما عاد وعيت على حالي، طلّعوا شباب، طلّعوا بنات، بس ما بعرفهن إلا من أواعيهن، مش مبيّنين من الكلس".
*****
لن تُفلِتوا،
وراءَكُم ذاكِرَتُنا الحيَّة/ في تلّ الزعتر/ وشاتيلا/ وطيرة حيفا/ ودير ياسين/ والطنطورة/ والشَّجاعية/ ومَجدِ الكروم/ وسَعسَع/ وكفر قاسم/ والصالحة/ ولِفتا/ ولوبيا،
وراءَكُم/ رَملُنا/ وزُجاجُنا/ وَلَحمُنا
وَراءَكم/ دَمُنا/ وَمِلحُنا/ وَحقلُنا
وَراءَكُم/ صُبّارُنا/ وَعِنادُنا
لَن تُفلِتوا/ لَن تُفلِتوا.