عقيدة " الأراضي المحررة "
أتيحت لي في عام 1977، أي بعد وصول اليمين الإسرائيلي بقيادة مناحيم بغين ، إلى سدة الحكم في إسرائيل ، فرصة الإستماع إلى محاضرة ألقاها الياهو بن اليسار ، والذي كان من كبار المستشارين لبغين ، وأول سفير له في مصر بعد توقيع إتفاقية السلام معها .
وكان إبن اليسار قد وصل إلى العاصمة الأمريكية ليعد العدة لزيارة بغين الأولى لواشنطن بعد أن أصبح رئيسا للوزراء .وكان هدف المحاضرة إعلاميافحواها أن النظام الجديد في إسرائيل على إستعداد للوصول إلى سلام في المنطقة ، حتى عن طريق التنازل عن أراض من أجل ذلك الهدف
وهنا، كشف إبن اليسار عن وجه اليمين الإسرائيلي ، وعن أهدافه حيث قال :" إننا على إستعداد للتنازل عن شرقي الأردن مقابل سلام شامل مع العرب " . قال ذلك على إعتبار أن ما يسمى بـ " أرض إسرائيل " والتي تشمل شرقي الأردن ، كلها تابعة للشعب اليهودي .
تذكرت ذلك وأنا أقرأ تفاصيل تقرير " لجنة إدمون ليفي " ، وهي اللجنة القانونية الخاصة ، والتي أوصت بشرعنة جميع البؤر الإستيطانية ، وأكدت أن إسرائيل ليست قوة محتلة بالضفة الغربية .
معنى ذلك أن الضفة الغربية هي " أراض محررة " ، كما أطلق عليها ، ولا يزال ، اليمين الإسرائيلي ، واليسار الصهيوني أيضا رغم أن الأخير لا يتحدث عن ذلك علنا . وهذا الموقف يتناقض في الأساس مع كل مواقف المحافل الدولية ، ومع مواقف محكمة العدل الدولية في لاهاي ، والتي لم تعترف حتى يومنا هذا بشرعية قيام إسرائيل بضم القدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية ، وتتناقض أيضا مع كل :" القرارات الصادرة عن المحكمة الإسرائيلية العليا التي أكدت أن إسرائيل هي قوة محتلة في المناطق التي سيطرت عليها في أعقاب حرب الأيام الستة " ( هآرتص 21/7/2021) .
والتقرير لا يتحدث طبعا عن سكان الأراضي المحتلة ، بل عن الأراضي فقط . ولكن هناك حوالي ثلاثة ملايين عربي فلسطيني يعيشون على تلك الأراضي . وهذا التجاهل لوجودهم لم يكن محض صدفة ، بل يشير إلى تخبط بالنسبة لما تريد إسرائيل عمله بالنسبة لهم . فضم الأراضي المحتلة قد يؤدي إلى أن تضطر إسرائيل إختيار واحد من ثلاثة إمكانيات:
الأولى : إمكانية ترحيلهم حتى بالقوة ، وهذا امر غير وارد إذ كيف يمكن طرد ثلاثة ملايين إنسان دون أن يكون هناك تحركا عالميا ضدّ هذه الخطوة ؟ ومن ثم هناك إمكانية رفض السكان الأصليين تنفيذ هذه الخطوة ومواجهة القوة بكل أسلوب يستطيعون إستخدامه .
الثانية : إقامة نظام أبرتهايت ، وهو نظام عنصري لا تستطيع إسرائيل تحمله ، وهي تدعي أنها دولة ديمقراطية ، تنتمي إلى المجتمع " الغربي الحضاري " ، والإكتفاء بالإستناد إلى الحقوق :" القانونية والتاريخية للشعب اليهودي " في فلسطين لتبرر ما تبغي القيام به ، معتمدة على أن الرأي العام العالمي سيتفهم موقفها .ولكن بعض العقلاء من الإسرائيليين أكدوا أن الأمور لن تسير حسب هذه الأهواء .
والثالثة : إقامة دولة واحدة تمنح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة جنسية إسرائيلية ، وحقوقا مثل جميع المواطنين في الدولة ، وهو أمر خطير ويتناقض مع فلسفة " إسرائيل دولة يهودية " ، وفلسفة أسس الفكر الصهيوني التي صيغت في المؤتمر الصهيوني الأول ( عام 1897 ) ، وفي الوقت الذي تواجه فيه حكومات إسرائيل صعوبات في التعامل مع فلسطيني 48 والذين يشكلون 20 بالمائة فقط من سكان الدولة ، فكم بالحري إذا إرتفعت هذه النسبة إلى 30 أو 40 بالمائة ؟
فتوصيات هذه اللجنة ليست حديثة ، فهي تدور في خلد القيادة الإسرائيلية منذ إحتلال الضفة والقطاع أثناء حرب 1967 . ففي أعقاب تلك الحرب ، حيث كان حزب العمل قائد حكومة التجمع الوطني في حينه ، إتخذت إسرائيل موقفا مفاده أنه ، طالما ان الأراضي (المحتلة ) لم تُحتل من دولة تابعة لها، بل من دولة إحتفظت بها ، ولهذا فإن معاهدة جينف لا تسري على هذه الأراضي . ( هآرتص 10/7/2012 ) . ولكن إسرائيل لم تستطع تطبيق هذا المفهوم بسبب الموقف العالمي وقررت إستبداله بما يسمى "قوانين لاهاي " .
فالجشع الإسرائيلي بالتوسع وفرض المزيد من السيطرة على مقومات الحياة في الأراضي المحتله ، لن يتوقف ، وهي تحاول ، وبشكل مستمر، فرض الأمر الواقع . في مقدمة ذلك الإستمرار في مصادرة الأراضي والممتلكات العربية ، وإقامة المستعمرات اليهودية وغيرها من التصرفات التي تتناقض مع كل القوانين .
ويمكن الإشارة أيضا إلى آخر قرار إتخذه المستشار القانوني لحكومة إســرائــيــل يــوم17/7/2012، يهودا فاينشتان ، والذي ينص على أن :"الحرم القدسي الشريف هو جزء لا يتجزأ من أراضي إسرائيل ، ولذا ينطبق عليه القانون الإسرائيلي ولا سيما قانون الآثار وقانون التنظيم والبناء " ( وكالة أنباء معا 17/7/2012 ). ولهذا التصريح ، والذي جاء بعد 45 سنة من الإحتلال ومن ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل ، لا بدّ وأن له أبعاد معينة ، خصوصا وأنه يتحدث عن "حق التنظيم والبناء " .
كل هذه التحركات الإسرائيلية ، لم تواجه بأية تحركات فلسطينية أو عربية مضادة ، الشيء الذي قد يعزز موقف القيادة الإسرائيلية، بكل ما تقوم به من حفريات وتنقيب تهدد بإنهيار المسجد الأقصى ، وتحصل على دعم شعبي إسرائيلي حيث أن شريحة كبيرة منه تؤمن أن المسجد أقيم على أراضي " الهيكل " ‘ على الرغم من فشل كل الباحثين بالأثار ، والذين يعملون منذ إحتلال بيت المقدس عام 1967، من العثور على أي دليل يثبت صحة هذا الإدعاء .
إن توصيات لجنة ليفي ، حتى لو جمدت الآن ، إلا انها تعبير عن أفكار ومخططات مستقبلية لإسرائيل ، ويجب عدم التهاون بأبعادها