الجمعة 07-02-2025

صرخة اليرموك: "فلا نامت أعين الجبناء"

×

رسالة الخطأ

د. فيحاء قاسم عبد الهادي

صرخة اليرموك: "فلا نامت أعين الجبناء" بقلم: د. فيحاء قاسم عبد الهادي "لقد شهدت مئة زحف، وما في بدني موضع شبر، إلاّ وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء". خالد بن الوليد تلاحقني صور أهلي في اليرموك، تلاحقني صور الأحباء والأصدقاء، وكل من قابلت، ومن لم أقابل، أثناء زياراتي للمخيم. يطل الشهداء غسان الشهابي، وحسان حسان، وعبد العزيز الخضراء، وزهرة يوسف الزين، ومصطفى بحطيطي، وأسامة أبو هاشم، وسعيد الفواز، وثائر فاعوري؛ ممن استشهدوا قنصاً أو جوعاً. تطلّ مجموعة أصدقاء "عائدون"، و"دار الشجرة للذاكرة الفلسطينية"، و"العاشقون". يطل العزيزان بثينة وعلي، وأبو عرب وسميح، ثم هالة وجمال، اللذان صحباني لمقابلة المناضلة: "خزنة الخطيب"، جدة جمال/ التي قاتلت مع الشهيد عز الدين القسام، في حيفا، والتي هجِّرت إلى اليرموك، ثم رحلت، قبل أن تشهد فظاعة ما حدث ويحدث في المخيم الحبيب. أبحث عن بيوتهم؛ فلا أجد سوى الخراب والدمار والأنقاض، وأبحث عن أصواتهم الحرة؛ فلا أسمع سوى صوت الصمت، الذي يخرج على هيئة صرخات ممتزجة بالقهر. ***** اليرموك اليوم واليرموك أمس، ما بين حلم العودة، الحلم الذي عاش من أجله المهجَّرون إلى اليرموك، وربوا عليه أولادهم، وأولاد أولادهم، وما بين حلم اليقظة، الحلم الذي أحال حياتهم جحيماً مستعراً، وعذاباً يومياً. ***** اليرموك اليوم واليرموك أمس أمس، ما بين النصر والهزيمة، ما بين جيش موحَّد عربي، انتصر على الإمبراطورية البيزنطية، بقيادة موحدة، تحت راية الإسلام، في معركة اليرموك، التي شكلت، استناداً إلى المؤرخين الأجانب، واحدة من أكثر المعارك الحاسمة في تاريخ البشرية، وما بين جيش، وجماعات مسلحة مفتتة، اختلفوا على كل شيء؛ لكنهم اتحدوا على محاصرة وقتال المدنيين، في مخيم اليرموك، في معركة هدفت إلى معاقبة سكان المخيم، على حسهم القومي، عبر إذلالهم، ومحاولة تحويلهم من مناضلين إلى متسولين، وإعادتهم إلى المربع الأول، وإثارة النعرة الطائفية، والقبلية بينهم. ***** أمس أمس، كان لقيادة المعركة أثر كبير في النصر الذي أحرزه المسلمون في معركة اليرموك، شكلت القيادة مثالاً يحتذى في التاريخ العسكري؛ لأن قوة عسكرية صغيرة العدد؛ تغلبت على قوة عسكرية كثيرة العدد، بفضل القيادة الحكيمة، والذكية، والمبدعة، وبعيدة النظر، والشّجاعة، واليوم اليوم، كان لقيادة المعركة أثر كبير في الإحساس بالهزيمة المعنوية؛ ما أدى إلى تهجير الآلاف ممن يستطيعون الرحيل، من اليرموك إلى المجهول. وشكلت بعض فضائيات العالم العربي معيناً، في تشويه صورة المخيم، وتاريخه المشرِّف؛ مما رسخ في ذاكرة الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية، وشعوب العالم. ***** أدمتني مشاهد تلقي المساعدات الإنسانية، أدمتني فكرة التركيز على المساعدات الإغاثية، على أهميتها، لم أجرؤ على أن أحدِّق في العيون الغائرة، أو أن أنظر إلى الابتسامة الكئيبة فوق الوجوه المتغضنة، أو إلى الأجسام الهزيلة، ورغم أني أغمضت عيني؛ إلاّ أني رأيت القلوب المحطمة، وأصابع الاتهام التي يرفعها أهل المخيم، في وجه الكون بأسره. ما بين الحياد والالتزام القومي؛ ضاعت البوصلة، وتاه الطريق، وأظلمت الدنيا، تغنى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج بأغنيات الوحدة العربية، والمصير المشترك، لكن بعض القيادات العربية، سرعان ما نسيت شعارات الوحدة، وأغنيات الوحدة، وطالبت بتحييد كل من يقيم على أرضها، من غير شعبها، وعرَّضت من يخالف ذلك للاعتقال والطرد، وأحياناً عرَّضته للتعذيب والموت، وتكبر المصيبة، حين تبدأ الشعوب العربية، التي ضللت، - عبر وسائل الإعلام -، في تبني شعارات الأنظمة العربية، وفي معاملة الأشقاء العرب معاملة الغرباء؛ ما يتسبب في حدوث شرخ بين الإخوة، يبدأ خفياً، ثم يتمدد على القلب، ويعمي البصر والبصيرة، ويطيح بكل منطق. وتتعاظم المصيبة؛ حين تتبنى حركات التحرر الوطني، هذه المقولة، وتعمل عل ترسيخها؛ فهذا يعني التخلي عن شعاراتها، التي تربط حركتها التحررية بالحركات الثورية، عبر العالم، ما يؤدي إلى تعميق الفردية، وإلى نبذ الاحتكام إلى العقل، وتغييب القانون، لصالح الشرذمة والتفتت إلى طوائف وعشائر وقبائل. كيف يمكن أن نقنع أطفالنا، الذين أنشأناهم/ن على حب الوطن العربي الكبير، وحب الإنسانية، بأن يقلصوا المساحة، ويختزلوا الحلم، ويعودوا إلى أحضان القبيلة فحسب؟! يا الله، أية وحدة عربية نتحدث عنها؟! وأي حلم قومي نغتاله اليوم بأيدينا؟! وأي مصير مظلم ينتظر الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج؟! "إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض". ***** كيف يمكن أن نبعد شبح الرعب والموت، بأنواعه، عن أهلنا، في مخيم اليرموك؟! ما هو المطلوب لإنقاذ المخيم (ربع سكانه من السوريين)؟ والذي هاجر وهجِّر معظم قاطنيه إلى شتى دول العالم، حتى بقي فيه قرابة 20, 000 مواطن/ة؟ لو كان وصول المساعدات الغذائية، من طعام وشراب ودواء، وتدفق الأموال؛ هي التي تنشر الأمن والأمان بين سكان المخيم، لاقتصرت مطالباتنا على تكثيف جهود الإغاثة. ولو كان الحصار يطال الفلسطينيين، دون أشقائهم، لكان المطلب، توفير ممر آمن لهم وحدهم؛ لكنا نعرف أن المساعدات الإنسانية، والطبية، والمادية؛ لن تنشر الأمن والأمان، وأنهم سوف يظلون معرضين للقتل والاعتقال والتعذيب والموت؛ كما يتعرض السوريون جميعاً. كما نعرف أن الحصار مفروض على مناطق متعددة، في البلاد؛ وليس على مخيم اليرموك فحسب؛ الأمر الذي يستدعي إبراز البعد السياسي لقضية المخيم، دون إغفال البعد الإنساني. علينا مطالبة المجتمع الدولي بالضغط لوقف آلة القتل الجهنمية، بأشكالها كافة: القصف بالمدافع وطائرات الهليكوبتر، والدبابات، والقتل الهمجي البربري، ثم رفع الحصار، وفتح ممرات إنسانية، والإفراج عن المعتقلين/ات، ثم عودة المهجَّرين إلى بيوتهم. *****

انشر المقال على: