روحي الخالدي من أبرز أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
(1864-1913)
المصدر: كتاب/ أعلام فلسطين أواخر العهد العثمانيّ- د. عادل منّاع
هو روحي بن ياسين أفندي بن محمد علي الخالدي. وُلِد في القدس في محلة باب السلسلة، حيث تجمُّع منازل آل الخالدي. واشتهرت هذه العائلة بالعلم والخدمة في المحاكم الشرعية في القدس وخارجها لعدة قرون. في القدس التحق بالكتاتيب ومدارس الحكومة الابتدائية. وحين تولّى مدحت باشا ولاية سوريا سنة 1295ھ/1878م عُيّن والده قاضياً شرعياً في مدينة نابلس فالتحق هو بالمكتب الرشدي فيها. ثم التحق في طرابلس الشام بالمدرسة الوطنية التي أنشأها الشيخ حسين الجسر. وفي سنة 1297ھ/1880م سافر مع عمّه عبد الرحمن نافذ أفندي الخالدي إلى الأستانة، وهناك قابل شيخ الإسلام عرياني زاده أحمد أسعد أفندي، الذي شجّعه على العلم فأنعم عليه برتبة (رؤوس بروسه)، وهو لا يزال تلميذاً في السادسة عشرة من عمره.
دراسته العالية:
عاد روحي إلى القدس بعد رحلة قصيرة إلى الأستانة، وحضر الدروس في المسجد الأقصى، وتردّد على مدرسة (الأليانس) ومدرسة الرهبان البيض، (الصلاحية)، ليتقن اللغة الفرنسية.ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت، وظلّ فيها إلى حين انحلال المدرسة، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في المسجد الأقصى. وعُيّن في ذلك الوقت موظفاً في دوائر العدلية لكنّه كان يطمح إلى مواصلة دراسته. وحاول والداه منعه من السفر والاغتراب, فعُيّن رئيساً لكتّاب محكمة بداية غزة، إلا أنّه رفض الوظيفة والتحق بالمكتب الملكيّ السلطاني في الأستانة سنة 1305ھ/1887م. وأمضى في ذلك المعهد للعلوم السياسية والإدارة ست سنوات، حاز في نهايتها، سنة 1893، على شهادة التخرج. وبعد تخرجه عاد إلى القدس، حيث عُيّن معلماً في مكتبها الإعدادي لكنّه رأى أنّه أجدر بوظيفة أعلى فعاد إلى الأستانة، ومنها سافر إلى باريس، ثم عاد ثانية إلى العاصمة العثمانية، وأخذ يتردّد فيها على مجلس الشيخ جمال الدين الأفغاني. واشتدّت مراقبة الجواسيس الذين كانوا يحضرون مجلس الشيخ الأفغاني، ففرّ إلى باريس والتحق بجامعة السوربون، ودرس فيها فلسفة العلوم الإسلامية والآداب الشرقية. وفي السوربون تعرّف إلى كبار المستشرقين. ثم عُيّن مدرّساً في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، ودُعِي إلى الاشتراك في مؤتمرات المستشرقين وإلقاء المحاضرات في اجتماعاتهم.
وعاد إلى الأستانة، وصدرت الإرادة السنيّة في 8 جمادي الآخرة سنة 1316ھ/24 تشرين الأول (أكتوبر) 1898م بتعيينه قنصلاً عاماً في مدينة بوردو الفرنسية وتوابعها. وقد نجح في عمله هناك، وذاع صيته حتى انتخب رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة، وكانت الجمعية تضمّ ستة وأربعين قنصلاً. فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذّر وجودهم فيها جميعاً، ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم في بوردو. وبقِيَ قنصلاً عاماً نحو عشرة أعوام، إلى حين إعلان الدستور سنة 1908، وكان خلالها ينشر أبحاثه ودراساته في الصحف العربية، ويكتفي بتوقيع (المقدسي)، أو بنشرها من دون توقيع، خوفاً من ردة فعل السلطات العثمانية الحميدية.
عضوية البرلمان:
عقب إعلان الدستور في تموز (يوليو) 1908، رجع إلى القدس فانتخبه أهلها نائباً عنهم في مجلس النواب العثماني (المبعوثان) في تشرين الثاني (نوفمبر) 1908.
وكتب مراسل جريدة (المؤيد) في القدس، الشيخ علي الريماوي، بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1908 ما يلي: (نال أكثرية الأصوات عندنا في انتخابات مجلس المبعوثان، ثلاثة متفق على أنهم أفضل الموجودين، وهم أصحاب السعادة والعزة: روحي أفندي الخالدي، قنصل الدولة الجنرال في بوردو، وسعيد أفندي الحسيني، رئيس بلدية القدس السابق، وحافظ بك السعيد، من أعيان يافا).
وكتب جرجي زيدان مقالة بعنوان (نوابنا في مجلس المبعوثان) نشرها في مجلة (الهلال) في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1908 ذكر فيها روحي الخالدي فقال: (وقد عرفنا أيضاً من نوابنا أرباب القلم في مجلس المبعوثان صديقنا روحي بك الخالدي صاحب مقالة (الانقلاب العثماني) في هذا (الهلال). ويكفي الاطّلاع عليها لمعرفة سعة علمه في أحوال الدولة ودخائل سياستها. وقد عرفه القراء من قبْل باسم (المقدسي) وكذلك سمّى نفسه في كتابه (تاريخ علم الأدب)، الذي نُشِر على حدة، غير مقالاته العديدة في المواضيع المختلفة. وكلّها أبحاث جليلة تدلّ على علمٍ واسعٍ ونظَرٍ صحيح مع إخلاصٍ في البحث. وكان القراء قبل أنْ يعرفوا اسمه يعجبون بعلمه وفضله ويسألوننا عن حقيقة اسمه، ولم يكنْ يأذن لنا بإذاعة ذلك لأنّه كان قنصلاً جنرالاً للدولة العلية في بوردو في فرنسا. ومع اعتدال لهجته وتجنّبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضّل كتمان اسمه).
مواقفه:
كان روحي الخالدي عضواً في جمعية (الاتحاد والترقي)، فكان مؤيّداً للحرية والدستور، ليبرالياً في أفكاره بصورة عامة. وتنبّه إلى المخاطر الصهيونية، وعبّر عن مقاومته لنشاطها في فلسطين في مناسبات ومواقف مختلفة. ففي مقابلةٍ صحافية مع جريدة (هتسفي) (الظبي) (العبرية) في أوائل تشرين الثاني ( نوفمبر) 1909، عبّر عن مقاومته المبدئية للحركة الصهيونية ونشاطها الاستيطاني في فلسطين وحذّر من أنّ استمرار النشاط الصهيوني والاستيطان المكثّف قد يؤدّي في المستقبل إلى طرد العرب، أهالي البلد الأصليين، من بلدهم: (لسنا مدينين لكم بشيء فقد فتحنا هذه البلاد من البيزنطيين وليس منكم) بتلك الكلمات خاطب الصهاينة من على صحيفة جريدتهم العبرية في ذلك الوقت المبكر من بداية الصراع الفلسطيني–الصهيوني.
وينقل مؤلف كتاب (العرب والترك في العهد الدستوري العثماني) مضمون أحد خطابات روحي الخالدي في البرلمان سنة 1911، فيقول:
(وألقى خطاباً طويلاً كشف فيه عن أماني اليهود في استعادة مُلْك فلسطين. ثم أخرج من جيبه ورقةً تلا منها نصّ رسالة كتبت بقلم (أوسيشكين) أحد أركان الحركة الصهيونية، يبيّن فيها الوسائل الواجب أنْ يأخذ الصهاينة بها كي يبلغوا أمانيهم وهي: نيل الميزة والأفضلية في فلسطين بواسطة الأموال وتوحيد آمال الإسرائيليين وجمع شتاتهم، وإنماء روح الوطنية في قلوبهم واستخدام السياسة لبلوغ الأمنية السامية. واستنتج الخالدي من ذلك الصهاينة لا يريدون أقلّ من أمة لهم في فلسطين واستيطان أرضها. ثم نبّه إلى ازدياد عددهم حتى أصبح في متصرفية القدس وحدها مئة ألف يهودي. وأنّ أغنياءَهم ابتاعوا لهم نحو مائة ألف دونم، وأنّ القوانين التي سنّتها الحكومة لهجرتهم وإيجاد جواز السفر الأحمر للأجانب منهم لم تنفعْ في منع هجرتهم إلى فلسطين لأنها لم تُنفّذ. وأمّا الباقون من مهاجري أوروبا، وأنهم أسّسوا بنكاً باسم بنك الاستعمار اليهودي).
ولما حُلّ المجلس سنة 1912، عاد روحي إلى القدس. وعندما أعيدت انتخابات مجلس المبعوثان، أعاد أهل القدس انتخابه. فسافر إلى الأستانة ثانية، واستمرّ في تمثيل (متصرفية القدس) ومصالح سكانها في البرلمان على خير وجه.
اختير روحي أفندي في المجلس نائباً للرئيس، فكان من الأعضاء البارزين في ذلك العهد. وكان تزوّج في بوردو من آنسة فرنسية اسمها هرمانس بنسول، وأنجب منها يحيى، (جان). وقد أنهى ابنه دراسته الجامعية وتخرّج مهندساً كهربائياً، وعاش في القدس ثلاثة سنوات، ونال من بني عمومته حصّته من إرث والده ثم عاد لبوردو واختير رئيساً لبلديتها. ويرجّح أنّه توفّيَ فيها في أوائل الحرب العالمية الثانية، سنة 1942، وتوفّيت والدته بعده بقليل، سنة 1943. توفّيَ روحي أفندي في 6 آب (أغسطس) 1913 عن عمرٍ قارب الخمسين سنة، بعد إصابته بحمى التيفوئيد.
آثاره القلمية:
1- (رسالة في انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الإسلامي). وهي محاضرة ألقاها سنة 1896 في باريس.
2- (المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر). محاضرة ألقاها سنة 1897 في باريس أيضاً.
3- (برتلو: العالم الكيماوي الشهير)، مقالة قصيرة من ست صفحات نشرها في مجلة (الهلال).
4- (فيكتور هوجو وعلم الأدب عند الإفرنج والعرب) سلسلة مقالات نشرتها (الهلال) ثم جُمِعت في كتابٍ طُبِع تحت عنوان (تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب)، بتوقيع المقدسي سنة 1904.
5- (حكمة التاريخ) مقالة نشرها في جريدة (طرابلس الشام) سنة 1903 من دون توقيع، ولما بلغت الأستانة واطّلع عليها المسؤولون صدر الأمر بتعطيل الجريدة.
6- (الانقلاب العثماني) و(تركيا الفتاة) مقالتان نشرتهما (الهلال) سنة 1908.
7- (الكيمياء عند العرب) طبعته دار المعارف سنة 1953.
هذا مجمل الآثار القلمية المنشورة وله كتب ومخطوطات ضاع أكثرها، منها:
1- (رحلة إلى الأندلس).
2- (كتاب علم الألسنة أو مقابلة اللغات).
3- (تاريخ الصهيونية).
4- (تاريخ الأمة الإسرائيلية).
5- (تراجم أعلام الأسرة الخالدية) (توفّي المؤلف قبل إنجاز الكتاب).
وعموماً، كان روحي أفندي مثقّفاً واسع الاطلاع، وأحد أعمدة النهضة العربية في فلسطين (مثل عمّه يوسف ضياء) في أواخر العهد العثماني. وتشير كتبه المخطوطة والمطبوعة إلى تنوّع اهتماماته الأدبية والسياسية والتاريخية. وقد وصفه الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه بأنّه رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين. وأضاف آخرون أنّه كان رائداً في مجال دراسة الأدب العربي المقارن. وقد ظهرت الطبعة الأولى من كتابه (تاريخ الأدب) سنة 1904.