حياة لم يُلفّ جسدها بعلم الوطن
د. انتصار الدّنّان
استيقظت صباح يوم الخميس باكرًا على صوت طيران العدو الصّهيوني، الّذي كان يترصّد المواقع العسكريّة لمعظم الفصائل الفلسطينيّة، في مخيّم الرّشيديّة.
هديره كان يصمّ الآذان، يروح ويجيء مزمجرًا فوق المخيم، يرسم في سمائه عناقيد من الغضب، ويلقي حممه فوق المراكز العسكريّة، وشظاياه كانت تصيب البيوت الهزيلة الّتي لا تصمد حتى بوجه الرّيح. كان ذلك في بدايات شهر حزيران من العام 1982.
راحت البوارج تساعد الطّيران في عدوانه، ربّما تعب ويحتاج إلى من يدعمه، كانت البوارج ترصد حركة شباب المخيّم. اشتدّ القصف، وبدأ العدو الصّهيونيّ هجومه على منطقة صور.
صارت دبّاباته في المدينة.
حاصر مخيّمي الرّشيديّة وبرج الشمالي.
كانت حياة شابة يافعة من الشابات اللواتي يعملن ضمن صفوف المقاومة، قاومت مع من قاوم في مخيّم الرّشيدية. اشتدّ الحصار على المخيّم، وقصف الطيران موقعًا عسكريًّا تابعًا للحزب الّذي تنتمي إليه.
خرجت لإحضار بعض الطعام والماء لرفاقها الذين كانوا معها في الموقع، وعندما عادت وجدتهم جميعًا قد استشهدوا. كانوا ثمانية شباب.
عندها علمت أنه لم يعد هناك أمل، فمصيرها إما سيكون الاستشهاد أو الأسر.
استطاعت حياة الخروج من المخيّم بأعجوبة، إذ استطاعت التخفي بلباس امرأة عجوز تتّكئ على عصاها.
تركت حياة المخيّم، وفي طريق خروجها منه، كانت ترى صور الموت والدّمار مرتسمة على وجوه الأطفال والنّساء صفرة الرعب والموت. كان المشهد يعبّر عن نفسه. أمسكت بيد ابنة أخيها البالغة من العمر إحدى عشرة سنة، وخرجت. كانت الطّفلة خائفة، ترتعش من مجهول قد يحدث فجأة.
مشهد لم ترَ مثله من قبل، حشود النّاس كانت تتدفّق كالموج الهائج نحو المدينة الحزينة، تحرقهم أشّعة الشّمس، ووجع الموت والدّمار. لا يحملون معهم غير أقدامهم الّتي هدّتها حفر الأرض.
كانت الطّفلة دلال تسير بنصف حذاء، متعثّرة الخطى، تلتقط أنفاسها بصعوبة، فأجساد القتلى، الّتي كانت تراها في الطّرقات أخافتها، وتساءلت في نفسها عن صمت العالم حول ما يجري، وسألت عمّتها:" ما الّذي يحدث هنا يا عمّتي؟" لم تستطع الإجابة عن السؤال حتى أغار الطيران على جموع الناس، وأسكر العالم بدماء من سقطوا شهداء. استشهدت دلال، ولم تسمع الإجابة، وعادت حياة تجر خلفها حلم دلال بالحرية.
توقف القصف، وحياة تريد الاقتصاص من القتلة. عادت إلى المخيم، وبرفقة ثلاث نساء استطاعت جمع ما تبقى في مكتب حزبهم من أوراق تخص العمل العسكري، وبيانات المقاومين قبل أن يفجر العدو المكتب، واستطعن تخبئتها في مكان أمين. رفيقتها في العمل المقاوم الأولى كانت تعمل في مستوصف مخيم الرشيدية، أما الثانية فكانت لبنانية الجنسية من بلدة الزرارية، والثالثة كانت من مخيم برج الشمالي. في اجتماعهن الأول كانت وجهتهن التّوجّه نحو العمل الاجتماعي، واستطعن التواصل مع أسر الشهداء، وأسر المعتقلين، وكانت مهمتهن متابعة وضع تلك العوائل؛ ليكنّ إلى جانبهنّ في أي طارئ قد يحصل معهم. حملت النساء على أكتافهن همًّا كبيرًا، لكنهن استطعن التواصل أخيرًا مع قيادتهن في بيروت، واستطعن تأمين رواتب لتلك العائلات. كانت كل شابة تقوم بعملها على أكمل وجه مع حذر شديد، فكن يتلفن الكشوفات التي عليها أسماء تلك العوائل بعد أن ينتهين من دفع الرواتب. كن يعملن بسرّيّة تامة، لكنهن على الرغم من ذلك كن يخفن من أن يكشف العدو أمرهن أو أحد العملاء، فيخبر عنهن وتتم ملاحقتهن. النّساء الأربعة لم يكتفين بهذا العمل، بل صرن يفكرن بالقيام بعمل عسكريّ. بدأ التخطيط للعمل، وفي اجتماع مع فدائيي العمليّة في بيت الّتي تعمل في المستوصف، أخبرهنّ المنفّذ بأنّه عليهن تأمين السلاح للفدائيين، وكل ما يحتاجونه من أجل القيام بعمل فدائي يهز العدو. منفذ العمليّة اعتقل قبل التّنفيذ، لكن اعتقاله كان لسبب آخر. كان الاتفاق مسبقًا بأن يتم اللقاء في منزل أبي أحمد بعد التنفيذ .حياة طرقت الباب، ودخلت، لحقت بها النسوة الثلاثة، ورحن يتحدثن حول أوضاع المخيّم، وسوء أحوال النّاس. طُرق الباب مرّات عدة، وبرعب شديد، صاحب البيت فتح الباب مذعورًا.
- يا أبا أحمد، العدو ألقى القبض على فؤاد .
- فؤاد، ولم؟
- لا أعرف، لكنني سمعت أحدهم يقول: لقد ألقى العدو القبض على فؤاد، فقد كان يقف في ساحة المخيّم، وصودف مرور سيارة عسكرية، كان فيها مقنعون، فأشاروا عليه، فنزل ثلاثة جنود، وعصبوا عينيه، وقيدوا يديه، وأخذوه معهم.
ما أن سمع أبو أحمد بالخبر حتى طرد زوّاره من البيت، قائلًا:" يكفيني أن ابني استشهد، والآخر في الأسر، لم يعد عندي أبناء، ربما أتوا وهدموا بيتي".
خافت حياة، ولم تكن تعلم إن كان الفدائي قد نفّذ العمليّة أم لا، وهل نجحت أم لا؟
اتفقت النسوة عند خروجهن من بيت أبي أحمد على أن تذهب كل واحدة منهن إلى بيتها وتنتظر الخبر.
في اليوم التالي، عرفت حياة حقيقة الأمر، وأن العملية لم تنفذ، وأنّه لم يُعتقل بسبب العمليّة، ولم يُكشف أمرها.
لم تكن حياة تعرف كيف يستخدم السّلّاح، لكن عندما تقرّر البدء في العمل العسكريّ، حملت السلاح وصارت تتدرب في بيروت على حمله، وعلى كيفية مواجهة الاعتقال في حال تم اعتقالها من قبل العدو، وعلى احتماليّة الأسئلة التي قد تطرح عليها، وعلى وسائل التعذيب التي قد يستخدمها العدو .
اعتقلت حياة، لكنها لم تستطع أن تروي حكاية تعذيبها، فقد استشهدت في أثناء التعذيب، لتلحق بدلال من دون أن يُلف جسدها بعلم الوطن.