جمود غير مسبوق في الحراك السياسي
المحامي إبراهيم شعبان
الناظر للساحة السياسية يرى جمودا غير مسبوق في الحراك السياسي المحلي والإقليمي والدولي بشأن القضية الفلسطينية. ولا يبصر المتفحص والمدقق والمتابع للقضية سوى الركود. وكأن هذا الصيف اللاهب امتد ليحرق جميع بذور النباتات السياسية التي كانت مورقة لتخدع الناظرين بأن عملا سياسيا يتم أو في صدد إتمامه.
القضية الفلسطينية مؤجلة ومجمدة على ألأقل هذا العام، رغم التصريحات المجاملة والدبلوماسية بين الفينة والأخرى التي تصدر عن المسئولين هنا وهناك، وهي التي لا تعبر عن حقيقة الوضع السياسي الكئيب . ولا يبدو في الأفق القريب أية أنوار تضيء النفق المظلم ومن غير المتوقع أن تضاء مثل هذه الأنوار في القريب العاجل وغير العاجل.
تقوم إسرائيل باستغلال هذا الوضع الشاذ أبشع استغلال. فهي تملأ الأرض الفلسطينية زرعا شيطانيا استيطانيا وبخاصة في مدينة القدس العربية فهي لا تكترث بقانون دولي ولا بميثاق جنيف الرابع ولا بمحكمة جنائية دولية ولا بمجلس الأمن ولا بجمعية عامة ولا بفصل سابع من ميثاق الأمم المتحدة. بل وصل ألأمر بأحد القضاة الاسرائيليين أن اعتبر الإحتلال الإسرائيلي منتفي عن الأرض الفلسطينية. وهي تدير احتلالا طويل الأجل مدرا لمال وفير على اقتصادها مستفيدا من سيطرته على الأراضي المحتلة. وهي تنهب المياه الفلسطينية وتعيد بيعها لأصحابها في حادثة غير مسبوقة في التاريخ الحربي وغير قانونية. ووصل بها الأمر في تقارير مؤكدة أنها تنهب نفطا فلسطينيا اكتشف حديثا في بعض المناطق. ووصل بها الإستهتار وخرق حقوق الإنسان الأساسية إلى درجة إخلاء المواطنين المدنيين العزل وزوجاتهم وأطفالهم في جبل الخليل من منازلهم من أجل استعمال المنطقة كساحة للتدريبات العسكرية. هل سبق في التاريخ الفلسطيني، أن كان جمود سياسي اكثر.
في هذه الأجواء السوداوية، تتنطح الولايات المتحدة الأمريكية لأية محاولة فلسطينية، حتى لو كانت رمزية مثل عضوية الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية الحكومية الأخرى. وتهدد وترغي وتزبد إذا ما تحركت السلطة الفلسطينية لأي تحريك للوضع الجامد غير المتحرك. ووصل الأمر بالرجل المورموني " رومني " مرشح الرئاسة الجمهوري الأمريكي بإطلاق حملته الإنتخابية من القدس استجداء للصوت اليهودي في الإنتخابات الأمريكية القادمة. لا فرق بينه وبين المرشح الديموقراطي الرئيس الحالي باراك أوباما الذي فشل فشلا ذريعا في التسوية السياسية، ولم يقم حتى بإلقاء حجر ليحرك المياه الراكدة تلبية لدعوته من على مسرح جامعة القاهرة أو في قضية الإستيطان وانهزاميته أمام نتنياهو أو في إغداق الرشوات المالية الإنتخابية على إسرائيل أو في دعوته إسرائيل للعودة إلى حدود الرابع من حزيران.
وليس بعيدا عن هذه الأجواء الكئيبة ما يجري على الساحة الأوروبية من كلام رخيص مبتذل مع الفلسطينيين يقابله عمل مع الشركاء الإسرائيليين عبر توقيع ستين اتفاقية. الإتحاد الأوروبي يدفع ثمنا ماليا مقابل الجمود السياسي تماما كما كان يدفع ليلتسين في روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي. بل إن فرنسا وبريطانيا وألمانيا تبذل جهودا سياسية جبارة لتنحية الرئيس بشار الأسد وتنسى بالكامل ما يجري على الساحة الفلسطينية. هذا تناقض ما بعده تناقض بل مهزلة ما بعدها مهزلة، ولكنه العمل السياسي في الزمن الرديء.
أما العرب فغارقون في الجهل والأمية والفردية والغيبية فغدت الإقليمية مطلبا وهدفا. ويبدو أن ما يسمى بالربيع العربي مقدم على تمزيق العالم العربي فوق تمزيقه وتشتته بحيث تكون الصورة الحالية وردية إذا ما قيست بما سيحصل من تمزق قادم. من يذكر القضية الفلسطينية هذه الأيام في العالم العربي، وإلى أي درك انحدرت وسقطت. شعار المرحلة " اللهم أسألك نفسي " " وكفى الله المؤمنين شر القتال ".
جميع هذه الأوضاع ساهمت بشكل أو بآخر في الوضع السياسي الفلسطيني الجامد، بل أدت إلى تفاقمه. فليس الوضع السياسي جامدا فقط بل هناك أزمة تلو أزمة بل دخلنا في سلسلة أزمات تنخر الشعب الفلسطيني وتستنفذ قواه. فمن أزمة الرواتب إلى أزمة الجامعات إلى أزمة الفساد إلى أزمة الأقساط الشققية، حتى وصلت الأزمة إلى أزمة القتل الإنساني والثأر القبلي والتصريحات العربية والدولية وصناديقها تقدم جعجعة مالية للفلسطينيين بينما لا يرى المواطن الفلسطيني المنهك سوى الأزمات والأقساط البنكية التي لا تنتهي.
هذا الأمر يشمل جناحي الوطن، فكلا الجناحين مكسوران، فهذا يشكو وهذا يلوم وحل الدولة الفلسطينية المستقلة يذوي ويبتعد. أما الحل المنشود فمعطل إلى يوم يبعثون. وهذا يبقي المياه الراكدة جاثمة على صدور الفلسطينيين بدل القيام بحركة جريئة غير متوقعة من أحدهما، لتحريك الوضع الجامد، ونفض الغبار عن صدر الشعب الفلسطيني في هذا الشهر الفضيل. يبدو أن الجميع اكتفى بالصيام والصلاة ولم يلق بالا لهذا الوضع البائس.
منذ قرن والشعب الفلسطيني يواجه الأزمة تلو الأزمة ويرزح تحت انتداب أو احتلال، بينما شعوب الأرض قاطبة نالت استقلالها أو خلعت مستعمرها. أمر يستدعي التأمل والتفكر بل العصف الفكري وليس اليأس والخمول للمأساة الفلسطينية. أمر يستدعي طرح حلول جادة ومبضع جراح ومعها نقاشات مستفيضة وإن كانت طويلة الأجل، فهي أفضل من الحلول العبثية المورفينية قصيرة الأجل. هذا أمر يستدعي إعادة التفكير في جميع نواحي البنيان الفلسطيني وأوجهه داخليا وخارجيا، وسياساته واستراتيجياته، وإلا كانت الرياح الإسرائيلية والقوى العظمى تأخذنا وتلقي بنا في مهاوي الردى.
يجب أن نذكر دائما وأن لا ننسى للحظة بأننا قابعون تحت احتلال استيطاني كولونيالي إسرائيلي في خضم عالم متفرج مشاهد لا يأبه لما يشاهده، ولا يتحرك إلا لمصالحه الضيقة أما عواطفه فمكانها أدبياته وليس قراراته. يجب إعادة ترتيب وضعنا الداخلي وخياراتنا ما دمنا نلعب في الوقت الضائع بل نستفيد منه. وكل عام وأنتم بخير!!