الأربعاء 04-12-2024

تقريرتجارة العمّال بالضفة.. أبو الخيزران يعود من جديد

×

رسالة الخطأ

أحمد بدير

تقريرتجارة العمّال بالضفة.. أبو الخيزران يعود من جديد
أحمد بدير
الضفة المحتلة _ خاص بوابة الهدف
لم يكن السائق أبو الخيزران في رواية "رجال في الشمس" للأديب الفلسطيني غسّان كنفاني مجرّد شخصيّةٍ انتهازيّة أوهمت الرجال الثلاثة (أبو قيس، أسعد، مروان) بأنّ نقلهم من خلال الصهريج في الصحراء القاحلة سيكون آمنًا، بل كان "فكرة"، حيث استبق كنفاني الزمن وحدّثنا عن ذلك مُسبقًا.

"الانتهازيّة" ذاتها فجعت أبناء شعبنا في بلدة عقربا بنابلس ظهر السادس من يناير الجاري، حيث استشهد تسعة من أبنائها -غالبيّتهم أطفال وفتية- في حادث سيرٍ مروّع بين مركبةٍ من نوع "كادي" كانت تقلّهم أثناء عودتهم من العمل في الزراعة بإحدى مستوطنات الاحتلال بالأغوار مع شاحنةٍ لنقل الإسمنت السائل، وذلك نتاج جشع السماسرة والمهرّبين الذين يُتاجرون بالأطفال للعمل في المستوطنات.

ما حدث "رُعبْ" بمعنى الكلمة

يقول مهران صلاح وهو أحد عمّال المستوطنات لـ"بوابة الهدف الإخباريّة"، إنّ "ما حصل مع الأطفال في حادث أريحا هو "رُعبْ" بمعنى الكلمة، والسماسرة يستغلون الأطفال بشكلٍ جنوني، فمثلاً كنّا نذهب في غالب الأحيان للعمل في قطف الخضار داخل المزارع "الإسرائيليّة"، فيعقد السمسار الذي يأتي بنا للعمل داخل المزارع مع المستوطن اليهودي اتفاقًا مباشرًا، أي عندما تكون أجرتي في اليوم الواحد 100 شيكل يتبقى لي منها 50 فقط، وهذا بعد أن يأخذ السمسار 30 شيكلاً له و20 لسائق السيارة، وهذا بالاتفاق مع اليهودي بشكلٍ مباشر، أي نذهب للعمل من الساعة الرابعة فجرًا وحتى الساعة الرابعة عصرًا من أجل 50 شيكل في النهاية!".

ويُتابع صلاح: "الكارثة الأخرى تكون في عملية نقل العمّال وغالبيتهم أطفال في بعض الأحيان، إذ تتسع سيارة "الكادي" -مثل التي حدث فيها الحادث المروّع الأسبوع الماضي- لستّة ركّاب إضافة إلى السائق، ولكن السائق الجشع يحمّل فيها أكثر من عشرة، وفي مرّة كنّا عائدين من المجدل القريبة من الأغوار فكنّا قرابة 22 عاملاً في سيارة "فورد" تتسع لسبعة ركّاب فقط، ولكن السائق لا يأبه إلا لكسب أكبر قدرٍ من المال بعيدًا عن حالتنا الصحيّة بسبب التكدّس داخل المركبة، وفي يوم آخر كنّا قرابة 120 عاملاً في باص نقل مخصص لـ 50 راكبًا فقط"، مُؤكدًا أنّ الحاجة للعمل كانت تجبر العمّال والأطفال على عدم الاعتراض ورفض هذه الجرائم.

وحول فاجعة عقربا، شدّد صلاح أنّ "السبب الرئيسي فيها هو استهتار سائق مركبة "الكادي" التي كانت تقل العمّال الأطفال، حيث ركّز السائق نظره طوال الطريق -بناءً على معلومات موثوقة من بعض الناجين- على المرآة اليمنى للمركبة وأخذ ينظر طوال الطريق إلى المناطق التي تقف فيها شرطة الاحتلال خوفًا من إيقافه ومخالفته بسبب الحمولة والزائدة، لا سيما وأنّ الشارع الذي وقع فيه الحادث يعتبر شارعًا حدوديًا ورئيسيًا، فتهوّره وعدم تركيزه وخوفه من إمساك الشرطة به أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه".

السلطة لا تُراقب ولا تُحاسب

وأردف الشاب الثلاثيني قائلاً: "السيارة الكادي تتسع لسبعة أشخاص فقط وكان السائق الجشع يحمل فيها 13 شخصًا يوم الحادث، استشهد منهم تسعة والباقي إصابات، ويدّعي السائق بعد ذلك خلال مقابلة له في الصحافة العبريّة أنّه تفاجئ بالشاحنة واصطدم فيها، ولكن لو توقّف هذا السائق وقوفًا مفاجئًا بهذه الحمولة لأصيب الأطفال داخل السيارة جرّاء التكدّس فقط من دون أن يكون هناك شاحنة أو حادث من الأساس".

وفي ختام حديثه، شدّد العامل صلاح على أنّ "كل ما يجري هو إجرام، والسلطة لدينا مقصّرة تقصيرًا واضحًا ولا تُتابع ولا تُراقب ولا تُحاسب، والحديث عن أنّ هناك خطأ في عمل الشارع أو مفترقات هذا الشارع هو مجرّد هُراء ليس إلّا".

الأموال قبل الأرواح

عرفات حمايل "أبو أحمد" من بلدة بيتا في نابلس، صاحب شركةٍ للمقاولات وأحد الرافضين للعمل في مستوطنات الاحتلال، يؤكّد لـ"الهدف"، أنّ "المهم لدى الناس هو تحصيل الـ50 أو الـ100 شيكل بعيدًا عن سلامتهم والحفاظ على أرواحهم، والسائقين همّهم الأوّل تحصيل الأموال بغض النظر عن سلامة العمّال والأطفال منهم"، داعيًا إلى ضرورة "منع الذهاب للعمل في الأغوار بتاتًا حمايةً للعمّال من أساليب الاحتلال في الاحتيال والنصب".

وأشار أبو أحمد إلى "ضرورة أنّ تُكلّف السلطة عددًا من الأشخاص وتعطيهم الصلاحيّات لمُخالفة السائقين الذين يتجاوزون القانون ويحمّلون أكثر من اللازم، وهذا في حال قالت السلطة أنّه لا يوجد لها سيطرة على الشوارع الخارجيّة الرئيسيّة"، مُبينًا أنّ "هذا الأمر يُعدّ ضروريًا للغاية حتى لا تتكرّر الحوادث المؤسفة، لذلك يجب اتخاذ خطوات جريئة في هذا السياق".

كما أكَّد حمايل أنّه يرفض العمل في المستوطنات، يُتابع: "لا يجوز أن تعمل لدى المستوطنين في أوّل النهار وتبني لهم البيوت في المستعمرات وفي آخر النهار يعتدون عليك ويحاربونك وينتهكون بلداتنا وقرانا"، لافتًا إلى أنّ "العمل متوفّر لدينا في الضفة ونعطي العمّال أجورًا معقولة، حتى في بعض الأوقات لا نجد عمّال للعمل معنا في المقاولات".

علاج المُسبّبات أولاً

أمّا رئيس بلدية عقربا صلاح بني جابر، فقد أوضح لـ"الهدف"، أنّ الأهم من الحديث عن سبب الحادث الأليم هو البحث عن علاج للمُسبّبات التي تدفع أطفالنا للذهاب والعمل داخل المزارع "الإسرائيليّة" والتسرّب من المدارس.

ولفت جابر إلى أنّ "الجهود تنصب الآن بالتعاون مع كل جهات الاختصاص حول اتخاذ سلسلة من الإجراءات لمنع عمل من هم دون السن القانوني، وأيضًا إلزام السائقين بالحمولة المسموح بها داخل المركبات وباصات النقل"، مُشيرًا إلى أنّ "العمل جارٍ مع وزارة التربيّة والتعليم لتفعيل الأقسام المهنيّة في المدارس الثانويّة إلى جانب توعية الأهالي حول خطورة عمالة الأطفال دون السن المسموح به".

الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فلسطين، أكَّدت في بيانٍ تعقيبي لها على حادث عقربا، أنّ حرمان فئة الأطفال من حقوقهم المقرّرة قانونًا أدّى إلى حرمانهم من الحق في الحياة، موضحةً أنّ المعلومات التي حصلت عليها تظهر انتهاكات واضحة لحقوق الأطفال، إذ تشير إلى أنّ خمسة من الضحايا وأحد المصابين هم أطفال تحت سن 18 عامًا، اثنان منهم تحت سن 15 عامًا، والسيارة التي كانت تقلهم كانت تحمّل أكثر من العدد المسموح به.

المؤسّسات الرسميّة عاجزة

وشدّدت الحركة على أنّ الحادث المؤسف كشف بشكلٍ واضح عن عجز المؤسّسات الرسميّة في حماية الحقوق المقرّرة قانونًا للأطفال، إذ كان هناك مطالبات متكرّرة وعديدة للجهات المختصة، لا سيما وزارتي العمل والتنمية الاجتماعيّة، بمتابعة ملف تشغيل الأطفال، وتفعيل أدوات الرقابة والمُحاسبة، لافتةً إلى أنّ هذا الحادث يظهر تقصيرًا واضحًا في أداء مفتشي العمل ومرشدي الحماية وشبكات الحماية في المحافظات، لذلك على الحكومة الفلسطينيّة الوقوف عند مسؤوليتها وتفعيل أدوات الرقابة والمُحاسبة لمشغلي الأطفال دون السن القانوني أو في المستوطنات.

كما دعت الحركة إلى إجراء تعديل بالإضافة على قرار وزير العمل رقم (1) لسنة 2004 باعتبار العمل في المستوطنات أحد الأعمال الخطرة ويحظر تشغيل الأطفال فيها، وتفعيل إلزامية التعليم الواردة في المادة 50 من قانون التربية والتعليم.

أبو الخيزران، المخصي المهزوم قاد الجميع إلى الموت، وأشباه هذا "الرجل" اليوم يقودون أطفالنا وعمّالنا لذات المصير، فكم من الذين قادوا سيارات "الكادي" و"الفورد" بعد صهريج أبو الخيزران قبضوا ثمن أرواح الأطفال الذين تتشقّف قلوب أمهاتهم لوعةً على فراقهم، فدُقّوا جدران الخزان.. قبل فوات الأوان.

انشر المقال على: