الولد سرّ أبيه- قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني
على خطوط التماس المتعددة مع ذاته تتنقل أفكاره، يسافر مع صور متعددة من هذه الذات لتأخذه بعيداً فيغيب عن جو السيارة والحديث الذي يدور بين ابنه وزوجته. ينظر إلى الشارع الذي تنطلق السيارة عليه باتجاه المجمع التجاري، لا يراقب عداد السرعة ليتدخل مع ابنه كمراقب السير، ولا يرى تفاصيل الشارع والمشهد المحيط كعادته. توقفت السيارة في ساحة الوقوف أمام المجمع التجاري الموجود على طرف المدينة الصغيرة. أصوات نوارس حادة أقرب إلى الزعيق، كأصوات بشر متصارعين، ينظر نحوها فيجد أنهما نورسان فقط وأنهما فعلاً يتشاجران زعيقاً ويشتبكان بالأجنحة والمنقار وكأن كلاً منهما يشتم الآخر بلغتهما. وبعد قليل يهدآن ويطيران بعيداً، ربما نحو البحيرة الصغيرة، هي صغيرة وهذا اسمها الرسمي. يتمنى لهما أن يهدآ عندما يصلا الماء، تماماً كما يتمنى لنفسه أن تهدأ من السباحة في بحر الصور وأن تغادره الصور ليستمتع بهذه الإجازة في هذه البلدة التي جاءها مع زوجته ليكونا مع ولدهما الذي يعمل فيها. لم يجدوا ما جاءوا من أجله في المتجر الكبير، الموظفة كانت متكاسلة نوعاً ما، حاولت مساعدتهم، لكن ما يريدونه لم يكن متوفراً، فاستراحت منهم واستراحوا منها، شكروها بلطف بعد أن اختتمت تكاسلها بأسف لطيف، وكأن كل فريق منهما تنفس الصعداء من مهمة لا تروق له.
وصلوا البحيرة الصغيرة، أو متنزه البحيرة الصغيرة كما هو مكتوب على اللوحة الكبيرة المثبتة على مدخل الغابة التي تحتضن البحيرة. النوارس هادئة مطمئنة تغطس في الماء ثم تخرج لتطير في شبه تلامس مع سطح البحيرة كأنها تمشي على الماء. دقق النظر في رف من النوارس طار فجأة محاولاً أن يميز النورسين اللذين كانا يتصارعان قبل قليل في ساحة المجمع التجاري، ثم ضحك من محاولته هذه بصوت مسموع. انتبه ابنه لضحكته فسأله عن السبب، أراد التمويه بأن الأمر يعود إلى شيء ما من الذاكرة، ثم صارحه بمحاولته تمييز النورسين، ضحك الابن وقال إن الفكرة خطرت بباله أيضاً وأنه حاول فعلاً البحث عنهما. ضحكا وضربا قبضتيهما المغلقتين كما يفعل الشباب، وقال لابنه كما كان يقول له دائماً في طفولته "الولد سر أبيه"، متذكراً المسلسل الكرتوني "البحار باباي" الذي كانا يشاهدانه معاً في تلك الأيام، تلك الأيام البعيدة، تنهد وهمس "كـأنها الأمس"
اقترحت الأم أن يركضوا نحو علامة على شاطئ البحيرة، أن يتسابقوا نحوها، اعتذر عن المشاركة بحجة التعب، كان ما زال متوزعاً بين صوره المتعددة، وأراد الاختلاء بنفسه "خذوا راحتكم". تحمله كل صورة منها إلى محطة من محطات الأيام التي مضت ودارت سريعة كما يدور عقرب الثواني في الساعة التي على معصمه وتحمله إلى مكان من الأماكن التي تصادق معها. عاد إلى لحظته، وأراد أن يثبت أنه يعيش اللحظة، إن لم يكن لنفسه فلهما فالتقط لهما بعض الصور من هاتفه المحمول وهما يقتربان باتجاهه عائدين من مشوار الركض. وصلاه وقال له الابن إنهما سيذهبان إلى المقهى القريب لإحضار قهوة، استطاب الفكرة ليجلس مع نفسه فترة أخرى، وطلب منه أن يحضر له قهوته سوداء دون سكر أو حليب كالعادة. استدار مواجهاً شمس الغروب وانعكاسها على سطح البحيرة، التقط عدداً من الصور، وانغمس في هدوء المكان، ليته يستطيع أن ينغمس في هذا الهدوء دون مشوشات. تذكر حواره مع أحد زملاء العمل في الوطن، حين قال يومها وهو يحدثه عن المدينة البعيدة التي يحبها بأنها أجمل المدن التي زارها وأسهب في وصف جمالها من وجهة نظره، فعلق الزميل "والوطن، وبلدتك؟"، فأجابه يومها شيئاً من هذا القبيل "صحيح أن تلك المدينة هي الأجمل، ولكن بلدتي هي الأغلى ووطني هو الأعز".
جلس على مقعد قريب ونظر نحو الأفق حيث تتلاقى السماء بالماء، كان هذا التلاقي يحيره في طفولته في التقاء السماء بالجبال العالية شرق قريته، وكم تمنى الوصول إلى قمة الجبل ليلمس السماء. نزل عن المقعد ليجلس مقرفصاً على الرمل المبلول. تناول عوداً ألقاه الماء على الشاطئ وبدأ يرسم خطوطاً متقاطعة ثم محاها بيده، ورسم ذلك الشكل الحلزوني الذي يرسمه عادة كأنه يفرّغ أفكاره التي تدور في حلقات متصاعدة وأنهى حلقاته بخط مستقيم ينطلق كالسهم. أطرق متأملاً الرسم الحلزوني ثم خربشه بالعود وغرس العود بالرمل في النقطة التي بدأ الشكل الحلزوني منها. كانت إطراقته صورة عن إطراقة أبيه، التي لا ينساها، حين كان يجتاحه حزن أو يغمره فرح فيجلس القرفصاء في ساحة البيت ويحمل عوداً يحرك به التراب، ويهز رأسه بين لحظة وأخرى كأنه يحدّث شخصاً آخر غير مرئي. سمع صوتاً واضحاً يأتي من البعيد البعيد يردد "الولد سر أبيه".