القنبلة التي ستحرقنا وتُبعثرنا
وحش توراتي آخر في طريقه إلينا
ملف خاص نشرته جريدة المستقبل العراقي بعددها الصادر ببغداد في 1/8/2012
كاظم فنجان الحمامي
بات من الواضح للعيان إن الأوضاع السياسية والجغرافية والأمنية لن تستقر ولن يهدأ لها بال بعد الاكتشاف الغازي الهائل في حوض البحر الأبيض المتوسط, وعلى وجه التحديد في الحقل الإسرائيلي الجبار, الذي أطلقت عليه حكومة تل أبيب اسم (ليفياثان Leviathan), والتسمية مستوحاة من التوراة, لوحش خرافي, يخرج من جوف البحر, ويبتلع ما تقع عليه عيناه في السواحل القريبة والمدن الشاطئية, والحقيقة إن الموضوع ابعد بكثير من إحياء الرموز التوراتية والتلمودية, فلليفياثان مفاهيم أخرى أكثر بشاعة من الوحوش الخرافية كلها. .
فعلى الرغم من الميول الصهيونية للرمزية الكهنوتية في التعبير عن نواياها التوسعية, جاء اختيارها لاسم (ليفياثان) بقصد الإشارة إلى حدود سلطات الدولة المؤسساتية المطلقة, التي بشر بها توماس هوبز Thomas Hobbes (1588 – 1679), وعبر عنها باصطلاح (ليفياثان), وهي في نظره : الدولة الحديثة التي يتولى فيها السلطة قطب واحد, أو مؤسسة واحدة, ترتبط أطرافها بعلاقة تحالف, ومعاهدة مصيرية لتأمين المصالح المشتركة, ولا تُنقض المعاهدة حين تكون الأطراف في خطر, بل تُنقض في حالة انهيار نظام المؤسسة الحاكمة, وهذه هي الغايات الدفينة التي ستتضح لنا بصورة جلية في هذا الموضوع. .
في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2010, عثرت إسرائيل على كنز غازي عملاق, يحاذي الشواطئ الفلسطينية المغتصبة, بعمق خمسة كيلومترات, في المياه الاقتصادية, التي أطلقت عليه اصطلاح (ZEE), والتي تبدأ من الطرف الغربي لميناء حيفا, ثم تتمدد بالطول والعرض لتقترب من الشواطئ اللبنانية والسواحل السورية, وتضم معها مقتربات جزيرة قبرص, وتحتوي على كميات هائلة من الغاز الطبيعي, يصل حجمها التخميني إلى مئات المليارات من الأمتار المكعبة. وبالتالي فإن الاكتشاف الغازي الجديد سيغير الحسابات التعبوية والسوقية, وسيفجر الأوضاع السياسية, ويقلبها رأسا على عقب, وسيزعزع الاستقرار في سوريا ولبنان, فالحقل الغازي الجبار يبسط مكامنه البحرية في المياه اللبنانية والسورية والتركية, ومن المؤكد انه سيخلق المزيد من التعقيدات في المواقف والأوضاع السياسية الشرق أوسطية, وظهرت بوادر تلك التعقيدات بعد التدخل القطري والتركي المباشر في المنطقة, لأنهما يمثلان المخالب الخفية لانطلاق خطوط أنابيب مشروع (نابوكو), ما يعني إننا نقف على بعد أيام معدودات من إعلان ولادة (خليج عربي) جديد في الجزء الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط, وان الحروب الخليج الساحقة التي زعزعت استقرار المنطقة, واستنزفت ثرواتها في العقود القريبة الماضية, سيعاد تفعيلها من جديد بصيغة أخرى ستغير ملامح خارطة بلاد الشام بأساليب طائفية رخيصة. .
لقد تكلمنا في المرات السابقة عن الرمزية الصهيونية في شعار (نابوكو NABUCCO), وكنا أول من اكتشف النوايا الخفية لهذا المشروع الغازي التوسعي, وقلنا إن القوى الشريرة اختارت هذا الاسم (نابوكو) لأنه يعبر عن الصيغة اللغوية العبرانية, التي قلبت اسم الملك البابلي (نبوخذ نصر) واستخفت به, فكلمة نابوكو تمثل صيغة تصغير واستخفاف لاسم (نبوخذ نصر), الملك الذي قاد السبي البابلي العظيم, ولو راجعنا الشعار مرة أخرى لوجدنا إن حرف (A) رُسم على شكل قنطرة أنبوبية مقوسة تربط بين حرف (N), الذي يمثل النيل Nile, وبين حرف (B), الذي يمثل بابل Babylon, والمقصود هنا التمدد من النيل إلى بابل الواقعة على الفرات. .
اما (أنقرة) فقد صارت هي القنطرة التي تلتقي عندها خطوط أنابيب (نابوكو), ثم جاء اكتشاف حقل (ليفياثان Leviathan), أو (Levantine) ليضيف الرياح القوية للمهزلة, ويرسم سيناريوهات جديدة للفتنة الطائفية المرشحة للانفجار في الشرق الأوسط بتحريض مباشر من الأطراف المرتبطة بالتحالف الليفياثاني, الذي تكلم عنه (هوبز), وبالاتجاه الذي يسهل الأمر على إسرائيل, ويخدم مصالحها الاستثمارية, ويساعدها على بسط نفوذها في المنطقة. .
بدأت حكاية (ليفياثان) عام 2009, وهو العام الذي باشرت فيه شركة (نوبل إنيرجي) تنقيبها في عرض البحر على بعد (80) كيلومترا غربي ميناء حيفا, فاكتشفت وجود الغاز الطبيعي في طبقات (تامار) بكميات تقدر بنحو (238) مليار متر مكعب, وتوسعت في مشاريعها الاستكشافية والتنقيبية فاكتشفت عام 2010 إنها أمام حوض هائل من الغاز الطبيعي, من النوع عالي الجودة, يحتوي على كميات خرافية من الغاز, يكفي لجعل إسرائيل من البلدان الفاحشة الثراء. .
ومع اكتشاف هذا الحقل الخرافي بدأت إسرائيل بالتساؤل عن كيفية الارتقاء نحو مصاف الأمم المنتجة والمصدرة للغاز, وتساءلت عن كيفية حصد الموارد المالية الهائلة, وكيفية استثمار عوائدها النفطية والغازية, وتساءلت أيضا عن كيفية ضمان الهيمنة والاستحواذ على مكامن هذا الحقل كله, من شماله إلى جنوبه, ومن شرقه إلى غربه, ما يعني حرمان سوريا ولبنان من استثمار حصصها, ومنعها من الاستفادة من استحقاقاتها الغازية الواقعة في مياهها الإقليمية, فوجدت ضالتها في التآمر, بالسعي نحو استبدال الزعامات العربية الحالية بزعامات مضمونة الولاء لتحالف (ليفياثان). .
لقد أكد الناطق الرسمي باسم معهد الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة (USGS) بقوله: ((إن منابع الغاز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط توازي كبريات المنابع الغازية المستثمرة الآن في مناطق متفرقة من العالم)), وأضاف: ((إن منابع الغاز في حقل ليفياثان أضخم وأوسع وأعمق من كل المنابع التي اكتشفتها الولايات المتحدة)), وتقول تقارير المعهد: إن مصادر النفط والغاز شرقي المتوسط تقدر بنحو (1,68) مليار برميل من البترول, وبنحو (3450) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة, وهناك منابع غير مكتشفة لمنابع النفط والغاز في حوض النيل بمصر تقدر بنحو (1,76) مليار برميل من النفط, ونحو (6850) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة, وقدر المعهد إجمالي الخزين في الجزء الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط بنحو(3,4) مليار برميل من النفط الخام, ونحو (9700) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. .
وبناء على ما تقدم فان الاكتشافات النفطية والغازية الجديد ستفتح أبواب الصراع السياسي على مصاريعها, فعندما سمعت لبنان بالحقل الجديد, وعلمت انه يمتد داخل مياهها الإقليمية كادت أن تطير من الفرح, واستبشرت خيرا بتعديل أوضاعها الاقتصادية, فقدمت طلبا إلى الأمم المتحدة لضمان حقوقها النفطية والغازية, فجاء الرد من إسرائيل على لسان وزير خارجيتها (ليبرمان), بالقول: ((إن إسرائيل لن تتخلى للبنان ولا لسوريا عن قطرة واحدة)).
ومن نافلة القول نذكر إن إسرائيل لم تصادق حتى الآن على اتفاقية الأمم المتحدة للبحار والمحيطات لعام 1992, ولا تعترف بتقسيماتها الشاطئية والإرخبيلية, وقد باشرت بالفعل بتضييق الخناق على الحكومة اللبنانية باستخدام السلاح الطائفي المتاح لكل من يرغب بزعزعة الاستقرار في الأقطار العربية والإسلامية, ويعد من أسهل وابسط وأسرع الأسلحة المضمونة النتائج حتى في المجتمعات الإسلامية, التي تتظاهر بالتجانس والاستقرار المذهبي, فالقوى الشريرة عندها القدرة الكافية لاختراقنا بأساليبها الخبيثة, التي زرعت جذورها في المنطقة منذ عقود, واستعانت بها في تنفيذ مخططات التمزيق والتجزئة. .
ختاما نقول: لقد أدرك البيت الأبيض أهمية الاكتشافات النفطية والغازية الجديد, واستنفر طاقاته كلها لإدخال التعديلات الطارئة على معاهدة (سايكس بيكو) لعام 1916, ومن المرجح أن يكون عام 2016 هو الموعد المقرر لإنتاج معاهدة جديد, بعد مرور قرن من الزمن على انتهاء صلاحية المعاهدة العتيقة, التي رسمت خطوطها الحدودية الفاصلة بين الأقطار العربية على التوقعات التخمينية للنفط, ثم جاء دور الغاز الذي سيعبث بمصير الدول العربية كافة, ومن دون استثناء, بما فيها الدول التي تقف الآن خلف الناتو, والدول التي تنكرت لدينها وعروبتها وارتضت بالذل والهوان, ورضخت لإرادة البيت الأبيض, وبما فيها الدول الإسلامية, التي ماانفكت تغذي الشرايين الرئيسة للتناحر الطائفي, الذي يعد من أمضى وأقوى وأرخص الأسلحة, التي استعان بها أعداء العرب في زعزعة أمنهم وتمزيقهم وتفريقهم وبعثرتهم وتجزئتهم. .