التّنوير المحظور.. ضحايا السُّلطة والدِّين
رشيد الخيون
مدخل
وردت مفردة النُّور في الكتب المقدسة كثيراً، وتباين المقصود بها، على أن يكون هو الله نفسه، أو أنه واهب النُّور وصانعه، أو المبعوث منه، فجاء في الآية القرآنية: “وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا”(الزُّمر:69)، وهي الإيمان ضد الكفرِ: “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”(الصَّف: 8). وصحت المقابلة بينها وبين معكوسها “هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ(الرَّعد:16)، وبها يكون الانقاذ من الخطيئة: “لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور”(الطَّلاق:11). وعلى العموم وردت مفردة النُّور في القرآن الكريم ما يقرب مِن أربعين مرة.
كذلك تكرر ذِكرها في “الكتاب المقدس” بعهديه القديم والجديد، بل أُستهل العهد القديم بها، إيذاناً بتدشين خلق الكون: “وقال الله ليكن نورٌ، فكان نورٌ/ ورأى الله أنَّ النُّورَ حَسنٌ، وفصل الله بين النُّورِ والظَّلامِ، وسمّي الله النُّورَ نهاراً والظَّلامَ ليلاً، وكان مساء وكان صباح”([1]). بل اعتبر الله في العهد الجديد أبا الأنوار: “تنزل مِن عل مِن عند أبي الأنوار، وهو لا تبدل فيه ولا شبه تغُّير”([2]).
كذلك أكثر كتاب الصَّابئة المندائيين “كنزا ربا” من ذِكر مفردة “النُّور”، وسمَّي الله بـ “ملك النُّور الكبير ذو العظمة (مارا إد ربوثا) مِن ملك النُّور الكبير ذي العظمة”([3]). وحسب عقيدة هذه الدِّيانة، يُشار في الآرامية الشَّرقية إلى أم كائن الظَّلام بـ “روهه” وإلى واهب النُّور بـ”هيبل زيوا”، وهو جبرائيل نفسه، ويقضي واهب النُّور على أم كائن الظَّلام في معركة كونية([4]).
لا نرجو أن نُقدم دراسة، في ما تقدم، عن النُّور في الأديان، إنما لتوضيح المفارقة عن احتفاء الأديان الواسع بهذه المفردة، ثم يحولها الفقهاء والأحبار والقساوسة وأرباب السُّلطة إلى معكوسها “الظَّلام”، لتظل متداولة بمدلولها الدِّيني العبادي والعقائدي البحت؛ وحتى مفردة “العقل”، التي أيضاً أكثرت منها الكتب الدينية، لكن بغرض واحد هو الإيمان، فالنُّور والعقل أصبحا رمزي الإيمان، مقابل الظَّلام والجهل رمز ي الكفر والإلحاد من هنا يأخذ منحوت “النُّور” “التَّنوير” معنىً آخر مفارقا للمفردة الأصل، وهو فعل النُّور، الذي يعني (Enlightenment)، بل وفي العديد مِن الحالات يقف بعيداً مِن الدِّين، ومعارضاً له، وقد تبدلت الأزمان وظلت الأحكام على وضعها منذ القرون الخوالي، لتظهر المواجهة، التي نشعر بها اليوم بضيق وفزع لأنها فجرت عيوناً مِن الدِّماء، بين النُّور برمزيته الدِّينية والتَّنوير كرمز للتطوير والتَّقدم، وقد يصطدم مع الدِّين في وجوه ومواقف.
محاولات دينيّة
لقد جرى الحديث، ومِن مؤسسات دينية، عن التَّجديد الدِّيني، أو التَّنوير الدِّيني، للتخفيف من الهوّة بين الدِّين والحياة، فجاء مَن تحدّث عن محو الفوارق بين الدِّين والعلم، وظهر ما يسمّونه بـ”إعجاز القرآن العلمي”، بادعاء أن كلَّ نظرية علمية، واكتشاف واختراع، قد ورد مسبقاً في كتاب القرآن، وقد انتقد صاحب “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” جواد علي(ت1987) هذه الظاهرة قائلاً:
“لفتت النهضة الأوروبية الحديثة أنظار بعض المفكرين، ففسّروا الإسلام تفسيراً عصرياً، وفسّروا القرآن تفسيراً علمياً فيزياوياً وكيمياوياً ونحو ذلك، فالذي فعله المرحوم طهطاوي جوهري، وغايته من ذلك إظهار أن الإسلام دين يوائم كل زمان ويناسب كل مكان، وإنه قد بشّر بهذه العلوم في وقت ظهوره، وقد فاتهم أن النظريات العلمية هي في تبدّل وتغيّر، وأنّ بعض ما نسمّيه بالمسلّمات قد لا يسلّم به في المستقبل، وأنّ ما جاء به الجوهري من تفسير قد حكم العلم ببطلانه، فيما بعد، وأنّ هذه التفاسير تعرّض القرآن للتغير والتبديل. ثم فاتهم أنّ القرآن ليس بكتاب كيمياء ولا بكتاب في الفيزياء ولا بكتاب في العلم أو الفنّ أو التقنيات، وإنّما هو كتاب جاء هدياً للناس ورشداً”([5]).
قلنا احتكرت مفردة “النُّور”، بل أخذوا يفسّرون كلّ تفوّق في العلم والتقدم على أنه نفحة دينية، ووضعوا مقابلها، مثلما وردت دينياً، مفردة الظُّلمات، وما زلنا نتذكر ذلك البرنامج، الذي كان يُذاع من عدة محطات تلفزيونية عربية في آن واحد، في الستينات من القرن الماضي، تحت عنوان “نورٌ على نورٍ”، وهو برنامج ديني بحت، يشرح أمور الشريعة وتطبيقاتها، وتفاصيل العبادة، وعُدَّ ذلك هو النُّور.
ثم أخذ يظهر رجال دين منهم مَن ألتحف بالتصوّف طريقة، ومنهم مَن قدّم نفسه بالمعتدل، وتتسابق عليهم المحطات الإذاعية والتلفزيونية، يتلاعبون بنعومة الألفاظ وحركات البدن، ويحوَّلون كل ما هو علمي على أنه ديني، حتى منهم مَن كتب عن “الطّب الإسلامي”. كذلك ظهر أرباب الصَّحوات الدِّينية، يتحدثون على التجديد الديني بإعادة الزَّمن إلى حلقة السَّلف، وكلُّ ذلك “النُّور” تسرّبت منه ظلمة دينية بعيدة عن الدِّين نفسه، كعبادة وسلوك أخلاقي، لينتج الإسلام السياسي الصَّحوي الكارثي حتى تدرج إلى ظهور جماعات العنف الديني، وبطبيعة الحال أن الجماعات الدِّينية اليوم تعتبر نفسها جماعات تنويرية، بما تطبقه على المناطق التي تسيطر عليها، كسلطة أو دعوةً.
لم نكن نعرف مفردة “التنوير” بمعناها الاصطلاحي إلا بعد الاختلاط بأوروبا، والاطلاع على ما حصل فيها خلال القرون الوسطى، مِن نهضة دينية، أو ما عُرف بعصر “الأنوار”، ولعلَّ البداية كان مع الحملة الفرنسية(1798) على مصر، ثم ما سمّي بعصر الاستعمار، بمعنى أن ما كان يحدث، مِن قبل بمنطقتنا، لا يخرج عن الإطار الديني، وحتى رجال الأنوار المسلمون، الذين غرقت المكتبات بسيرهم وأفكارهم في القرن التَّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لم يتحركوا لولا التَّأثير الأوروبي، سوى كان في حالة الشَّيخ رِفاعة رافع الطَّهطاوي(ت1873)، أو الإمام محمد عبدة(ت1905)، أو عبد الرَّحمن الكواكبي(ت1902)، أو خير الدِّين التّونسي(ت1889)، أو جميل صدقي الزَّهاوي(ت1936)، أو شبلي شميل(ت1917).
العبرة باهتزاز دعوة التَّنوير بمنطقتنا وثباتها بأوروبا، وهذا ما يميز التَّجربة الغربية، بداية مِن القرن السَّادس عشر الميلادي، وكم ضحايا سقطوا، بين قطع الرأس في المقصلة والحرق في المحارق التي عُدت لمَن أتهموا بـ”الهرطقة”([6])، بينما تجربة التَّنوير بمنطقتنا اعتمدت على التَّقليد وليس الأصالة آنذاك، وبين تيارين متفقين على الهدف، ومختلفيْن في الأسلوب والعقيدة، وبهذا ظهر الانشغال عن تحقيق الهدف بالنِّزاع بين التَّنويريين أنفسهم. ففي حالة نموذج العِراق سطع التَّنوير وخفت، حتى كأن لم يكن شيئاً، وبقية بلدان المنطقة أيضاً، ونموذج الرَّبيع العربي أظهر هشاشة حركة التَّنوير، التي لم تتوقف في يوم مِن الأيام، وهي بين نجاح وفشل، لكن ليس هذا الواقع كله، بل هناك عودة لتلك العودة، وبوسائل وآليات أُخر، تقوم على أساس فشل التيار الإسلامي السِّياسي، بفروعه كافة.
اعتمدت النهضة العصرية، أو الدَّعوة إلى التَّنوير، على ما صُنف في التَّجربة الأوروبية، مَن قبل شخصيات حملت وزر تلك الدَّعوة الناشئة، وأودّ ذكرها هنا، كي تكون شاهداً بل ودافعاً وسانداً لما ندعو إليه الآن، فالتذكير بالماضي واستعادته يساعدان على الغرس في الحاضر، الكتب التي صدرت خلال القرن التَّاسع عشر ونقلت التجربة الأوروبية إلى المنطقة، وما نقله فيها مصنفوها الرَّحالون بين عواصم الغرب، وعلى وجه الخصوص باريس، ولتأكيد تلك الجهود وذلك المقصد مِن تأليف تلك الكتب نُذكّر بما قاله أحد مجاهدي التَّنوير بحدوده الدِّينية، خير الدِّين التُّونسي: “والغرض مِن ذِكر الوسائل، التي أوصلت الممالك الأوروباوية إلى ماهي عليه مِن المنعة والسُّلطة الدُّنيوية، أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقاً، ولنصوص شريعتنا مساعداً وموافقاً، على أن نسترجع منه ما أخذ مِن أيدينا، ونخرج باستعماله مِن ورطات التفريط الموجود فينا، إلى غير ذلك مما تتشوف إليه نفس النّاظر في هذا الموضوع”([7]). من تلك الكتب:
“تلخيص الإبريز إلى تخليص باريز”(القاهرة 1834) لرفاعة الطَّهطاوي، “السَّاق على السَّاق في ما هو الفرياق”(باريس 1855) و”كشف المخبا عن فنون أوروبا”(تونس 1866) لأحمد فارس الشِّدياق، “رحلة إلى أوروبا”(بيروت 1867) لفرنسيس مراش، “الكنز المخبأ للسياحة في أوروبا”(الآستانة 1876) لنخلة صالح، “الدنيا في باريس”(القاهرة 1893) لأحمد زكي، “إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا(القاهرة 1892) لأمين فكري، “الرِّحلة إلى فرنسا(تونس 1846) لابن أبي ضياف، “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”(تونس 1867)خير الدِّين التّونسي، “الاستطلاعات الباريسية(تونس 1891) لمحمد السَّنوسي، “سلوم الأبريز في مسالك باريز”(تونس 1900) لمحمد بلخوجة([8]).
شواهد المتقدّمين
أجد في العبارة التي قالها الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان(ت60هـ)، وبغض النَظر عن مناسبتها أو غرضها، إلا أنها تبدو عميقة الدَّلالة والمعنى، في التمييز بين الأزمنة، وهذا لا يتحقق إلا بالدَّعوة إلى التَّحديث وبالتالي التَّنوير. قال معاوية: “إن معروف زماننا هذا منكرُ زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو أتى فالرَّتقُ خيرٌ مِن الفتق”([9]).
ألا يمكن اعتبار نزوع الأمير الأموي خالد بن يزيد(ت 85هـ) إلى العِلم والتَّرجمة، على أنه حركة تنويرية؟ وكان “أول مَن ترجم كُتب النُّجوم والطِّب والكيمياء”([10]). ومعلوم أن التَّرجمة تعني التَّلاقح في الأفكار، وأحد أُسس التَّقدم الثَّقافي والعلمي، وتُعدُ ركناً مِن أركان التَّنوير. كذلك حركة التَّرجمة في العصر العباسي، وظهور فرقة المعتزلة(القرن الثَّاني الهجري)، وجماعة إخوان الصَّفاء (القرن الرَّابع الهجري)، وحركة الفلسفة الإسلامية، وكتب الأدب، وأبرز مثال لها ما صنفه أبو حيان التَّوحيدي(ت414هـ)، ثم ظاهرة أبي العلاء المعري (ت449هـ)، وتكفي نظرة على حضارة بغداد العباسية لنفهم كم كان التَّنوير حاضراً في الاقتصاد والاجتماع والثَّقافة([11])، ومع أنه كان في حدود عصره إلا أنه بالمقابلة مع ظلامية الجماعات الدِّينية اليوم يُعدّ ممارسة تنويرية بمفهوم عصرنا.
أراد إخوان الصَّفا تحقيق التَّنوير على طريقتهم، فقيل عنهم “وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشَّريعة العربية فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، عِلميها وعَمليها، وأفردوا لها فهرستاً وسمَّوها رسائل إخوان الصَّفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثَّوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عزَّ وجلّ وطلب رضوانه، ليخلّصوا النَّاس مِن الآراء الفاسدة التي تضر النُّفوس”([12]). نلاحظ أن إخوان الصَّفا طلبوا التَّنوير أيضاً بالتأثر بأوروبا (الفلسفة اليونانية)، مثلما سعى إلى ذلك رجالات القرن الثّامن عشر.
إن لم يكن بين رسائل إخوان الصَّفا مِن محاولة التَّنوير فتكفيهم رسالتهم في “الموسيقى”، وهي مِن أكبر الرَّسائل، جاءت فيها مادة تنويرية هائلة، بينما تحريم الموسيقى مازال جارياً وبقوة في عصرنا الحاضر، قالوا: «يستعملها كل الأمم من بني آدم، وكثير من الحيوانات أيضاً، ومن الدّليل أن لها تأثيرات في النّفوس، استعمال النّاس لها تارة عند الفرح والسّرور في الأعراس والولائم والدّعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب في المآتم، وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الرّاحة والتَّعب، وفي مجالسّ الملوك ومنازل السّوقة، ويستعملها الرّجال، والنّساء، والصّبيان، والمشايخ، والعلماء، والجُهال، والصّناع، والتَّجار، وجميع الطّبقات»([13]). ومن إجلالهم للموسيقى يرى إخوان الصّفا أن أصلها هم الحكماء «وتعلّمها النّاس منهم، واستعملوها كسائر الصّنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة»([14]).
تعامل إخوان الصفا بأسماء مستعارة، خشية مِن سلطة الدِّين والدُّنيا، وأن الوزير أبا عبد الله العارض(قُتل 375هـ)، وهو ابن سعدان نفسه، قد شكك بأبي حيان التَّوحيدي أن يكون أحدهم، فكانت تلك مناسبة أن يُعرف وجودهم وإلا ظلت الرسائل يتيمة، أو يخطفها مَن يخطفها لتكون كتابه. قال أبو حيان: “سألنّي وزير صمصام الدّولة البويهي في حدود (373هـ)، فقال: حدثني عن شيء هو أهم من هذا إليّ، وأخطر على بالي، إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً يريبني، ومذهباً لا عهد لي به (…)، فقد بلغني يا أبا حيان أنك تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده، ولك معه نوادر عجيبة، ومن طالتَّ عشرته لإنسان صدقت خبرته به، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه، وخافي مذهبه»([15]).
كلَّ ما تقدم يمثل حركة تنويرية في المجتمع، ولضيق المجال اقتصرنا على ذكر هؤلاء مِن المتقدمين، ولولا ذلك المانع لتبسطنا في ذِكر المعتزلة ومقالاتهم التنويرية قياساً في زمانهم، وأهم ما سعى إليه المعتزلة وإخوان الصفا هو تحرير الإنسان مِن الشَّعوذة باسم الدين، عندما ارتأوا أن الله خلق الطبيعة ولا يتدخل فيها، فهي تعمل بذاتها([16])، وكم اليوم يستغل تدخل الله في الأجسام لبث الشعوذة وإغراق العقل فيها.
كانت تلك الأفكار محرمة على القراء، وتسبّب مطاردة الآمنيين، فقد حصل أن حُكم على الفقيه الحنبلي ابن عقيل (ت513هـ) بالموت لأنه طالع كتب المعتزلة، وترحم على بعض المتصوفة. اضطر، وهو في زعامة مذهبه، إلى إعلان توبته من مطالعة أو كتابة نص أو اعتقاد بفكر مخالف: «أنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى من كتابته وقراءته، وإنه لا يحلُ لي كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده»([17]). فتصور كم كانت تهمة الجانح إلى فكرة مغايرة، ولو للاطلاع عليها فقط، خطيرة، وكثيراً ما تؤدي إلى الموت.
إنّ العبرة، مثلما تقدم، في الاستمرار والثَّبات، فكل ما تقدم ضاع وسط الصراعات السِّياسية، حتى حصل سقوط بغداد(656هـ)، وها نحن نعود إلى تلك النتف لأصالتها، والضَّحايا الذين سقطوا دونها، ولمحمد مهدي الجواهري(ت1997) ما يُعبر به: “لثَّورة الفكر تأريخٌ يُحدِّثُنا/ بأنَّ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا”([18]).
تطلّعات المتأخّرين
بدأت في العهود اللاحقة حركات تنويرية، بالدَّعوة إلى العِلم والتَّقدم، مِن دون النّزوع عن الدِّين بل مع محاولة تطويعه، ولم يُسجل أحد أنه كان عائقاً، لكنَّ الخوف، مِن ضياع أو تقهقر السَّائد، مِن الفكر والأعراف، جعل المعارضين للتنوير، يشهرون الدِّين سلاحاً، مِن دون نفي تطرف بعض أصحاب دعوات التَّنوير أنفسهم، ومحاولات استنساخ التَّجربة الغربية بحذافيرها. فبعد إصلاحات محمد علي باشا(ت1848)، وإرسال البعثات الطُّلابية إلى أوروبا، اشتدت الدَّعوات في أقطار الدَّولة العثمانية لتحقيق التحديث، والتي برزت بدعوة للتقدم الاقتصادي واستخدام الآلات، ففي العام 1869 كتب إبراهيم صبغة الله الحيدري البغدادي(ت1882) لـ”حث العامة على تعليم الصَّنائع والمعارف، بحيث لا يحتاجون إلى صنائع الدُّول الأجنبية، وبناء المدارس والمكاتب”([19]).
غير أن الذين تقدموا الصَّدارة في الحركة التَّنويرية، دعاهم انبهارهم بالغرب إلى تصدر هذه الحركة، ويأتي في المقدمة الشَّيخ رِفاعة رافع الطَّهطاوي(ت1873)، فأخذ يُصنف ويترجم عن الفرنسية، وبث وعياً في طبقات المجتمع المصري، لكنه كالمنقطع عن الواقع، مع أن الواقع كان خالياً مِن بذرة نهضة.
كان الطَّهطاوي منبهراً وذائباً في الحضارة الغربية، ولأنه منبهر فيها؛ حاول تأكيد الإيمان الدِّيني لفلاسفتها قياساً بفلاسفة اليونان القدماء، وعلى ما يبدو للترغيب بهم. قال: “بلاد الإنكليز والفرنسيس والنَّمسا، فإنّ حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين، كأرسطو وأفلاطون وبقراط وأمثالهم، وأتقنوا الرِّياضيات والطَّبيعيات والإلهيات، وما وراء الطَّبيعة أشد الإتقان، وفلسفتهم أخلص مِن فلسفة المتقدمين، لِما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح، والثّواب والعِقاب”([20]).
بعده طلب جمال الدِّين الأفغاني(ت1898) التَّجديد عبر الوحدة الإسلامية، مع الحذر من الغربيين، ومِن استبداد فرد بأمة، ودعا إلى إنشاء حزب وطني للمسلمين، وعول على السُّلطان عبد الحميد(ت1918) في جمع كلمة المسلمين، محبباً بأمجاد الماضي البعيد، المصري القديم أو العِراقي القديم([21])، داعياً إلى الخروج مِن الجهل بالتعليم للأولاد والبنات على حدٍ سواء. قال: “إن كان العِلم فيكم مقصوراً على الرِّجال. بل أعيذكم مِن أن تجهلوا أنه لا يمكن لنَّا الخروج مِن خطة الحسف والجهل، ومِن محبس الذُّل والفاقة، ومِن ورطة الضُّعف والخمول، ما دامت النِّساء محرومات مِن الحقوق، وغير عالمات بالواجبات”([22]). مع أنه أحد الذين واجه نظرية داروين بنص ساذج، لا يخلو من الخرافة، عندما قال فيها: “ورأس القائلين بهذا القول داروين، وقد ألف كتاباً في بيان: أن الإنسان كان قرداً، ثم عرض له التَّنقيح والتَّهذيب في صورته بالتَّدريج على تتالي القرون الطّويلة”([23]). كذلك بسذاجة بائنة، مع أنه صاحب فكر ورؤية تنويرية قياساً بزمانه، نجده يقول: «وعلى زعم داروين هذا، يمكن أن يصير البرغوث فيلاً بمرور القرون وكرِّ الدّهور، وأن ينقلب الفيل برغوثاً كذلك”([24]). إلا أن حلم الأفغاني بالتَّنوير، عن طريق الوحدة الإسلامية، تبخّر بوفاته، ومِن بعد بانهيار الدَّولة العثمانية، التي لم تكن تملك الدَّوافع والمستلزمات.
ثم ذاب بعده حلم تلميذه الشَّيخ محمد عبده(ت1905)، الذي حصر نهضة الشَّرق بالمستبد العادل([25]). إلا أنه حمّل رجال الدِّين فشل التجديد الدِّيني، وتقهقر الشَّرق، بأبيات شعرية، قالها في أواخر حياته: “ولستُ أبالي أن يُقال محمدٌ/أبلَّ أو اكتظت عليه المآتم/ولكنه دينٌ أردت صلاحه/أحاذرُ أن تقضي عليه العمائمُ/و للناس آمالٌ يرجون نيلها/إذا متُ ماتت واضمحلت عزائم”([26]).
في تلك ألآونة تصدر الشَّيخ عبد الرَّحمن الكواكبي(ت1902)، “أُم القُرى” الجمعية التي يترأسها؛ الدَّعوة إلى التَّنوير، وذلك بالبحث عن أسباب ما سمُّوه خفوتاً، قياساً بما تقدمت به أوروبا. كانت حوارات الجمعية تُعقد بمكة، حدد الأعضاء أسباب الخفوت العام لدى المسلمين، في اجتماعات الجمعية(1897م)، ولخصها الكواكبي، وكان يُشار إليه بالفراتي، وكذلك الأعضاء أشير إليهم بالألقاب:
أسباب سياسية وأبرزها: تفرق الأمة إلى عصبيات وأحزاب سياسية، والحكم المطلق، والحرمان مِن الحرية، وفقدان العدل والمساواة، ووجود علماء مدلسين وجهلة صوفيين.
أسباب دينية وأبرزها: تأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمة، وتأثير فتن الجدل في العقائد الدِّينية، والتَّشدد في الدِّين، وإيهام الدَّجالين بأمور سرية في الدَّين، والتَّعصب للمذاهب والآراء وهجر النُّصوص، والعناد على نبذ الحريَّة الدِّينية.
الأسباب الأخلاقية وأبرزها: الاستغراق في الجهل، واستيلاء اليأس والإخلاد إلى الخمول، وانحلال الرَّابطة الدِّينية الاحتسابية، وفقد القوة المالية الاشتراكية بالتَّهاون في الزَّكاة، ومعاداة العلوم العالية، والتَّباعد عن المكاشفات والمفاوضات في الشُّؤون العامة([27]).
لم تحن الفرصة لوضع العلاج لهذه الأسباب، فالكواكبي توفي بعد أربع سنوات، ولم يظهر مَن ينوبه، لكننا نجد كتاب الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”([28])(1902) ما زال مؤثراً تأثيرا مستمراً، بل إنه في الآونة الأخيرة، وبعد ظهور فرص للإسلام السياسي في الحُكم والجماعات المتطرفة والتَّدين بلا وعي ديني سليم، بدا الاهتمام يطغى بالكتاب، حتى طُبع عدة طبعات، بالسَّوية مع كتاب الشَّيخ علي عبد الرَّازق(ت1967م) “الإسلام وأُصول الحكم”([29]) (1926)، الذي وضع حداً فاصلاً بين الدِّين والسِّياسة، ويأتي ثالثهما كتاب الشَّيخ محمد حسين النَّائيني (ت1936) “تنبيه الأمّة وتنزيه الملة”(1909م)([30])، القائل بحكم الدُّستور، على اعتبار أن الاستبداد الدِّيني، وكما وضح الكواكبي أيضا، متآخٍ مع الاستبداد السِّياسي بل الأول أخطر درجة.
لا يَخفى، أنّ هناك مِن غير هؤلاء المتقدمين، دعاة للتنوير، مِن خارج المجال الدِّيني، ومِن المثقفين المسلمين مثل قاسم أمين(ت 1908) في دعوته لتحرير المرأة([31])، وجميل صدقي الزَّهاوي (ت1936) في شعره ونثره([32])، وما واجهه من عنت مِن قِبل المجتمع(1910)، ودعواته في مجلس المبعوثين العثماني(1914) لاتخاذ السُّبل الحديثة والعلمية في الاقتصاد والتعليم، وكان يقول ذلك في جلسات المجلس، وكاد يفتك به رجال الدِّين بعد أن نعتوه بالزنديق والملحد([33])، وطه حسين(ت1973)، والضَّجة التي قامت ضده(1926)([34])، ومعروف الرُّصافي(ت1945) في شعره ونثره([35])، وإسماعيل مظهر([36]) في ترجمته لأصل الأنواع، وصالح الجعفري(ت1979) في قصائده ضد التَّزمت([37])، وعبد الله القصيمي(ت1996)، وله في هذا الغرض أكثر مِن كتاب([38])، وغيره هؤلاء الكثير.
فتاوى الاغتيال
كانت مِن أوائل اغتيالات القرن العشرين الدِّينية، معاداةً للتنوير وقمعاً للرأي، اغتيال الإيراني التنويري أحمد كسروي(11مارس1946)؛ وكان كاتباً مثيراً للجدل، جمع بين نقد الفكر الديني والفكر الإمامي الشيعي، مع نزوع للمدَنية والعصرنة والإلحاق بأوروبا، وسبق أن كان مؤيداً لحركة المشروطية أو الدستورية، بإيران والعراق وتركيا أيضاً، وظل قريباً مِن الشَّاه رضا(ت 1944) في إصلاحاته التي أراد لإيران بها الانتقال إلى العصر الحديث، خلال ذلك نفذ نواب صفوي(اعدم1955) مؤسساً منظمة “فدائيان إسلام” اغتيال كسروي، ولم يستطع قتله، ثم أجهزت عليه منظمته “فدائيين إسلام”.
كان صفوي يتعلم بحوزة النَّجف الدِّينية حينها، وعاد لتنفيذ المهمة، وقيل أصدر الفتوى وشجع على الاغتيال الشيخ عبد الحسين الأميني(ت1970)، صاحب موسوعة “الغدير”، الخاصة بولاية علي بن أبي طالب، وهو إيراني يعيش بالنَّجف. أما مَن كتب بأنّ الخميني(ت1989) هو الذي أفتى بقتل كسروي، مثل الكاتب الإيراني مير طاهري([39])، فهذا بعيد عن الواقع، فحينها لم يكن خميني مجتهداً أو معروفاً كي يصدر فتوى وتنفذ مِن قِبل “فدائيان إسلام”.
كان صفوي مقرباً جداً مِن الشّيخ الأميني، حتى أن الأخير عمل المستحيل لتهريبه مِن السجن، وتم التنسيق بينه وبين خلية إخوانية لهذه المهمة، اجتمعت لها قيادات من مختلف البلدان ببغداد، بعد الحكم عليه بالإعدام لمحاولة اغتيال رئيس الوزراء الإيراني، في ما بعد([40]).
على الرَّغم مِن اتفاق الإسلام السياسي، السني والشيعي، على ردة كسروي، إلا أن بعد تغير منحى الثَّورة الإسلامية الإيرانية إلى المذهب، وكتابة ذلك في الدستور(المادة 12) ونصها: “الدِّين الرَّسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”، تغير الموقف لدى بعض الإسلاميين، ومنهم السّروريون السعوديون، وأفكارهم خليط مِن الفكر الإخواني والسَّلفي، أسسهم الإخواني السوري محمد سرور(ت2016)، ولسبب طائفي أو مذهبي أصبح كسروي مصلحاً في كتابه “الِّشيعة والتَّشيع”، ويقوم أحد أبرز الصحويين السروريين مثل سلمان العودة بتحقيقه ونشره(1988). انظروا: كيف تفرض السياسة نفسها على الدِّين، الأميني الإمامي المؤيد لـ”فدائيان إسلام”، وهي منظمة اغتيالات، يتكاتف معه ومعها وبقوة الإخوان المسلمون، ثم لظروف يتغير كل شيء، إنه إخضاع الدِّين للسياسة وبمزاجية حزبية.
كان اغتيال المثقف التَّنويري حسين مروة(17 فبراير1987) ثم الكاتب والأكاديمي مهدي عامل(8 مايو1987)، لسبب فكري محض، لأنهما كانا مخالفين بموقفهما للهيمنة على شيعة لبنان مِن جهة حزبية والظَّلامية، فأُتخذ قرار تصفيتهما مع آخرين، ومر الاغتيال بلا كشفٍ عن المفتي بقتلهما، مع أن الأصابع تشير إلى قرار إيراني بالتصفية، حيث مرجعية حزب الله الذي نفذ فيهما الفتوى، وظل المثقف اللبناني التنويري، الشيعي خصوصاً، المنتمي لفكر يقارع الظلامية، يخشى ظله، حينها لم تتحدث منظمات دولية ولا حكومات عن تلك الكارثة، التي لا تخص مروة ولا عامل إنما تخص تدشين عصر نعيشه الآن تماماً.
قُتل حسين مروة بعد عشرة أعوام مِن انجاز مهمته، التي كلفه بها الحزب الشّيوعي اللبناني، تصنيف كتاب في تراث الفلسفة العربية الإسلامية، وصدر تحت عنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، وقد دام عمله بهذه الاطروحة عشرة أعوام، وكان قد بدأ بإنجازها العام 1968، جاء في تقرير مروة عن إنجاز مهمته إلى الحزب: “في مثل هذا اليوم، منذ عشر سنوات(2 آب- أغسطس 1968 بدأت الرِّحلة الرائدة، في عالم التراث الفكري- الإسلامي، التي شرفي الحزب أن أكون أول مغامر يدخل- نوراً- في مجاهلها، خارقاً أكثر من سور فكري وآيديولوجي مضروب حول هذا العالم التراثي، منذ أقاصي العصر الوسيط حتى الثلث الأخير من القرن العشرين”([41]). لهذا اغتيل مروة، فما بين مهمته في التنوير ومهمة قاتله في العبث بالدم دهر هائل.
ثم توالت اغتيالات المثقفين التنويريين بفتاوى دينية ظلامية، فاغتيل فرج فودة(8 يونيو1992)، إثر ندوة في معرض القاهرة للكتاب، وبدلاً من كشف المفتين بالقتل وفضحهم ومعاقبة القاتل، أُطلق سراحه، وأن الرئيس الإخواني محمد مرسي تكفل، في دعايته الانتخابية مِن ميدان التحرير، بإطلاق سراح مؤسس “الجماعة الإسلامية” عمر عبد الرَّحمن(ت2017) وعودته منتصراً إلى مصر، بينما فودة صاحب المؤلفات الفكرية، التي تخدم التجديد الإسلامي قبل غيلةً، يقف الشيخ الإخواني محمد الغزالي(ت1996) مدافعاً عن المنفذين لفتوى القتل به. بعدها تصدر فتوى لتصفية نجيب محفوظ(ت2006)، يهاجمه شاب سلفي جهادي، لم يقرأ كتاباً له، ويطعنه بسكين الفتوى(14 أكتوبر 1995)، ويمرّ الحدث كأن المهاجم ينفذ واجباً دينياً، يعان ويُحمد عليه.
بطبيعة الحال، هناك فتاوى قتل واغتيال للأفراد والجماعات، مازال مفتوها يبجلون كلَّ التبجيل، على أنهم ذادوا عن حياض الدِّين بفتاواهم، ولم يسأل المبجلون لهم عن دماء المغدورين، فلا كسروي ولا مروة ولا فودة ولا عامل ولا محفوظ كانوا يجيدون حمل السكاكين وكواتم الصَّوت، وبعد تجارب الإسلام السياسي بميليشياته، وعموم كواسر الإرهاب فيه، تبين أن ما كتبوه هو الذي ينتصر لمدنية الإسلام، لا وحشية القاتلين والمفتين. قال معروف الرَّصافي(ت1945) في ضجة طلب تكفيره، بسبب إلقاء قصيدة، في مسرح التَّمثيل ببغداد، في العشرينيات من القرن المنصرم، ضد الحِجاب نصرةً للنساء والتَّنوير: “يا أيها المفتي بتكفيرنا/مهلاً فقد جئت بأمرِّ نكير/ بأي جهلٍ فيك مستأصل/أعلمت يا جاهلٌ ما في الضَّميرٍ”([42]).
ضحية تطبيق الشَّريعة
شهد صباح الثامن عشر من يناير (كانون الثاني) 1985، إعدام الشيخ السوداني محمود محمد طه، وهو ابن السادسة والسبعين، بتهمة الرِّدة عن الإسلام. أتذكر سُئل حسن التُّرابي(ت2016)، خلال تقديمه لمحاضرة بالدوحة، ضمن نشاط “المركز العربي للأبحاث ودراسة السِّياسات”(أكتوبر 2012)، وكان حينها متنفذاً بالخرطوم، عن دوره في اغتيال (اعدام) الشيخ طه، فأجاب: حُكموه بالرَّدة واعدموه، وأنه لا علاقة له بما حدث، على أية حال حتى إذا لم يكن للإخواني التَّرابي دور ما، فسكوته وعدم اعتراضه مشاركة واضحة، لأنه كان مقتدراً ومؤثراً، يترأس حزب جماعة الإخوان “الجبهة الإسلامية القومية”، لكن قتل الرَّجل كان فيه فائدة سياسية.
كان رفض الشيخ المقتول قوانين الشريعة، التي أُعلنت في سبتمبر(أيلول) 1983، رحمة بالشَّريعة والأتباع من التَّفريط، ومن المغامرة بالدِّين وتطبيق حدوده، كقانون نافذ على النَّاس، وسط تراكم من الأزمات السِّياسية والاجتماعية والاقتصادية. ظل الشَّيخ، قبل إعدامه بعشرين عاماً، يعارض محاولات تطبيق قوانين «الإيمان» بالقتل، وقطع اليد، وسلب حرية النَّاس. وهو يرى أن الرِّق ليس أصلاً في الإسلام، وتغييب النِّساء عن الحياة ليس من الإسلام، والإسلام جاء متدرجاً في الأديان الكتابية، كي يتعاصر مع مدارك البشر. أفكار وآراء قابلة للجدل والحوار، لا تستدعي تهمة الرِّدة وعقوبة الموت، والحرمان حتى من مراسم الجنازة. وهو بمعارضته القديمة لقيام دولة دينية، حكم الرِّدة فيها مادة من مواد الدِّستور، ظل هدفاً، فاستصدروا ضده حكماً غيابياً بالإعدام (1968) عن طريق محكمة للأحوال الشخصية، لا شأن لها بمثل هذا الحكم، مع طلاق زوجته([43]).
لم تجد المحكمة طريقاً لتنفيذ حكمها آنذاك، فانتظر المتربصون حتى سبتمبر (أيلول) 1983، عندما أُعلن تطبيق قوانين الشَّريعة، مع إضافة «قانون الشروع بالزِّنا». ويعلم الشَّيخ كم يتجاوز مثل هذا القانون على حكم الشِّريعة، الذي جاء يحمي النساء والرجال من الأفاكين. شكلت لهذه المهمة محاكم عرفت بمحاكم «العدالة النَّاجزة»، أو «محاكم الطوارئ». يومها عارض الشيخ علانية، ومن موقعه في الحزب الجمهوري، تلك القوانين، واعتبرها مخالفة لروح الإسلام([44]).
قال أمام هيئة المحكمة، وهي تلوح بحكم الموت ضده: “أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك فإنّها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام”([45]). وبما أن حكم الردة على الشيخ كان حكماً سياسياً لا دينياً، فقد أُلغي الحكم حال سقوط نظام جعفر نميري في العام نفسه، وقررت المحكمة الدستورية العليا بطلان محاكمته «واعتبار كل ما ترتب عليها لاغياً»، لكنّ بعد فوات الأوان.
كان جوهر فكرة الشيخ طه أن الفترة المكية، وما نزل فيها من نصوص، تعتبر هي الأصل، بينما الفترة المدنية جاءت فيها السياسة والحرب والصبر على المنافقين وتأليف القلوب والمواجهات مع غير المسلمين، وبعد أن ثبت الإسلام كدين، وبهذا الحضور الكبير في العالم، فلا بد من العودة إلى الفترة المكية، تلك الفترة التي أراد فقهاء النَّاسخ والمنسوخ إلغاءها تماماً، مشيراً إلى آيات أطلق عليها تسمية آيات “الأسماح”، على اعتبار أن النَّسخ الذي نسخها بآيات الشدة، من القتال ومعاملة غير المسلمين، ليست أصلاً، ومثلما تقدم يمكن حصر مهمته التنويرية أنه اعتبر الحجاب ليس أصلاً في الإسلام، وتعدد الزوجات ليس أصلاً، إلى غير ذلك، فهو مع الحرية الفردية المطلقة، وبهذا يعتبر الفترة المكية الفترة الدِّينية الأصل([46]). هذا ما يمكن أن يوفر دعامة لمحاولات ترسيخ التنوير الدِّيني.
مَن يتحمّل الفشل؟
لا نستطيع القول إن كل تلك الجهود، ولم نأت إلا على جوانب منها لضيق المجال، قد انتهت مآلاتها من دون رجعة، لكن يمكن القول، وهذا ما حصل بالفعل، أنها تعرضت لانتكاسات على يد الأجيال التي تلتها. ومِن قراءة للوضع الحالي، أن الدَّعوة إلى التَّنوير والتَّجديد ستعود مِن جديد وبطرق وأساليب مختلفة، فما آلت إليه المنطقة أمسى لا يُطاق، مِن تصاعد الغلو والتَّطرف الدِّيني والمذهبي، وكل هذه المفردات توضع في خانة الظَّلام، وببلدان كانت واحات لذلك التَّنوير، كالعراق ومصر والشَّام، وبلدان المغرب العربي كتونس مثلاً، بما يمكن تحميل الأنظمة الاستبدادية، التي حكمت هذه البلدان، الحصة الكبرى مِن تقهقر مشاريع التَّنوير، وقد استعيض عنها بالآيديولوجيات والقهر الحزبي.
كذلك لم يُكتب النَّجاح للحركات أو الشَّخصيات الدِّينية، التي تدعو إلى التَّنوير بطريقتها، لأنها “ركزت على الإصلاح الدِّيني، ثم تطورت إلى حركات سياسية تحررية، حققت قدراً مِن الاستقلالية فإنّها، أي هذه الحركات، لم تستطع، لأسباب آيديولوجية وسياسية، أن تؤسس نظاماً اجتماعياً واقتصادياً يؤهلها لبناء نهضة عصرية، لأن أصحاب هذه الحركات، أو قادتها، كانت توجهاتهم منصبة بالدَّرجة الأولى على الإصلاح الدِّيني، أو مقاومة المستعمر”([47]).
ما يُساعد على قوة عودة الدَّعوة إلى التَّنوير بالمنطقة وجود وسائل التَّواصل المتقدمة، وإباحتها للنَّاس كافة، وما يُرافق ذلك مِن تأثير إيجابي على طرق التَّفكير، صحيح أنها سيف ذو حدين، لكن الحاجة إلى التَّنوير قد تجاوزت الإخفاء، ومثلما حدث انتصار التَّنوير بأوروبا بفعل المثقف والملك([48])، سيكون بمنطقتنا، إن استقرت سياسياً، هذا يكتب ويكشف ويحرض وذا يصدر القوانين. فحكاية “خروج طائر الفينيق من الرَّماد”، ليست خُرافة في رمزيتها. لم تختف الحاجة، ولا الدَّعوة، للتنوير إنما ظلت تتأرجح بين سطوع وخفوت، والظُّرف الحالي سيدفع باتجاه السّطوع مِن جديد.
*************
[1]) الكتاب المقدس، العهد القديم، بيروت: دار الشُّروق، الطبعة الرابعة 1997 سِفر التكوين: 1/8/12 ص 68.
[2]) المصدر نفسه، العهد الجديد 1/11 ص726.
[3]) كنزا ربا كتاب المندائيين الكبير، منشورات الماء الحيّ، سدني- أستراليا 2000 القسم اليمين، ص69.
[4]) دراشة إد يهيا (مواعظ وأحاديث يحيى بن زكريا) ترجمة: أمين فعّيَّل حطاب، بغداد: مجلس شؤون الطائفة العام، ص 223و228.
[5]– شيخ المؤرخين جواد علي وآراؤه في التَّاريخ، حاوره: حميد المطبعي، مجلة آفاق عربية (العراقية)، العدد 10 حزيران 1984.
[6]) راجع التجربة الغربية الثَّرية في تحقيق التَّنوير ومرادفه التَّسامح الدِّيني: لوكلير، جوزيف(ت 1988م)، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح، ترجمة: جورد سُليمان، نشر بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2009.
[7]) عن مقدمة كتاب التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق: المنصف الشّنوفي، تونس: الدار التونسية 1972 ص 85.
[8]) المصد نفسه، ص 10-11.
[9]) أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري(ت 279هـ)، أنساب الأشراف، لحقيق: سهيل زكار ورياض زركلي، مج: 5(بيروت: دار الفكر للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1996): 37. أحمد بن محمد بن عبد ربَّه الأندلسي(ت 328هـ)، العقد الفريد، تحقيق: عبد المجيد التَّرحيني، مج 4 (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1983): 171-172. هناك مَن نسب هذه الكلمة لعلي بن أبي طالب(اغتيل 40هـ)، مثلما جاء في خطبة لإنطوان الجميّل (ت 1948) بالإسكندرية في جمعية الاتحاد البناني، ثم شاع عنه(الجميّل، التَّسامح، مجلة الهلال، 1 نوفمبر : 1918) وبعد البحث في “نهج البلاغة”، الذي قيل أنه تضمن كلَّ ما قاله عليُّ بن أبي طالب، فلم نجدها، وها هي منسوب إلى معاوية في مصدرين معتبرين في البحث.
[10]) الجاحظ، عمرو بن بحر(ت255هـ)، البيان والتَّبيين، تحقيق: عبد السَّلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي، الطبعة السَّابعة الجزء الأول، ص 328.
[11]) عواد، ميخائيل(ت1995)، حضارة بغداد في العصر العباسي، بيروت: دار اليقظة 1981، نشر المؤلف تلك الفصول في مجلة النَّفط 1954.
[12]) أبو حيان التَّوحيدي(ت414هـ)، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: الأحمدين الأمين والزين، بيروت: مكتبة الحياة للطباعة والنَّشر، ص 5.
[13]– إخوان الصفاء، الرسائل، تقديم: بطرس البستاني، بيروت: دار صادر2006 الرسالة الخامسة من القسم الرياضي، في الموسيقى 1 ص 185.
[14]) المصدر نفسه.
[15]) التَّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة 2 ص 3-4.
[16]) إخوان الصفا، الرّسائل، الرسالة السابعة من الجسميات (21 من الرسائل) 2 ص 153.
[17]) موفق الدِّين بن قدامة المقدسي، تحريم النظر في كتب الكلام (نص إنكليزي وعربي)، تحقيق: جورج المقدسي، Great Britain, Headley Brothers LTD 1962: ص 1 وما بعدها.
[18]) ديوان الجواهري، دمشق: بيسان للنشر والتَّوزيع ةالإعلام 2000 الجزء الثَّالث، قصيدة: أبي العلاء المعري(قف بالمعرة)، ص10 .
[19]) الحيدري، عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، لندن: دار الحكمة، الطبعة الأولى 1998(منسوخة من طبعة قديمة) ص 25.
[20]) الطَّهطاوي، تخليص الأبريز في تلخيص باريز، دمشق: دار المدى للثقافة والنَّشر 2002 ص 30.
[21]) انظر: الأفغاني، سلسلة الأعمال المجهولة، تحقيق: علي شلش، لندن: رياض الرَّيس للكُتب والنَّشر، بلا تاريخ نشر، ص 78.
[22]) المصدر نفسه، ص 81-82.
[23]) الأفغاني، الرّد على الدّهرية والدّهريين. تحقيق: محمود أبو ريَّة. بيروت: دار الزّهراء 1981.، ص 65.
[24]– المصدر نفسه، ص 66.
[25]) الإمام محمد عبده، ديوان النَّهضة، أختيار النُّصوص: أودنيس وخالدة سعيد، بيروت: دار الملايين، الطبعة الأولى 1983 ص 163.
[26]) المصدر نفسه، ص 243.
[27]) الكواكبي، ديوان النَّهضة، بيروت: دار الملايين، الطبعة الأولى 1982 ص 205-209.
[28]) الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاتعباد، تحقيق: محمد عمارة، القاهرة: دار الشُّروق 2007.
[29]) عبد الرَّازق، الإسلام وأُصول الحكم، تونس: دار الجنوب للنشر 1996.
[30]) النَّائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تعريب: عبد الحسن آل نجف، قم: مؤسسة أحسن الحديث 1419هـ.
[31]) كاتب وباحث مصري كردي الأصل، اشتهر بمناصرته للمرأة ودفاعه عن حريتها، أكمل دراسة الحقوق بفرنسا، وعاد لمصر (1885) وعين في المحاكم وكيل للنائب العمومي ثم مستشار في محكمة التَّمييز، له كتاب “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”(الزركلي، الأعلام معجم تراجم، مصدر سابق، ج 6 ص 19).
[32]) كان نائب في مجلس المبعوثان بأستانبوب عن العراق، وفي جلساته (1914) أعلن عن آرائه في التطور، وقبلها نشر مقالاً في الحجاب وتحرير المرأة، وامتدح في شعره نظرية التّطور، على الرَّغم أن والده وأخاه كانا من مفتتي بغداد(راجع: نبيل عبد الحميد عبد الجبار، النّزعة العلمية في الفكر العربي الحديث، عمان: دار دجلة، طذ 2007 ص 333 وما بعدها).
[33]) انظر: فيضي، سليمان(ت1951م)، مذكرات سليمان فيضي من رواد النَّهضة العربية في العِراق، تحقيق: باسل سليمان فيضي، لندن- بيروت: دار السَّاقي، ص 188-189.
[34]) كتابه: في الشِّعر الجاهلي، القاهرة: مطبعة الكتب المصرية، ط1، 1926.
[35]) ديوانه: ديوان الرُّصافي، القاهرة: المطبعة التِّجارية الكبرى بطلب من محمود حمي صاحب المكتبة العصرية ببغداد، ط6، 1959. وكتابه الشَّخصية المحمدية أو حل الغز المقدس، كولونيا: منشورات الجمل 2002، وسلسلة الأعمال المجهولة، جمع نجدة فتحي صفوة، لندن: رياض اليس للكتب والنَّشر، ويوسف عزّ الدين، الرصَّافي يروي سيرة حياته، دمشق: دار المدى 2004.
[36]) نبيل عبد الحميد عبد الجبار، النّزعة العلمية في الفكر العربي الحديث(مصدر سابق)، ص 399 وما بعدها.
[37]) راجع: علي الخاقاني(ت 1979)، شعراء الغري أو النَّجفيات، قمّ: مكتبة آية الله العظمىالمرعشي النَّجفي 1408 هـ ج 4 ص 299 وما بعدها. ومما قاله في نبذ التزمت العام 1926: وقيد طالما قُيدتُ فيه/ وأهون بالرجال مقيدنا/ نبذتُ به ورائي لا مبالي/ وإن غضب الكرام الأقربونا/ حناناً يا أماثلنا حناناً: حناناً أيهما المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقةُ فتبعونا”(محمد جواد الغبان، المعارك الأدبية حول تحرير المرأة في الشِّعر العراقي المعاصر، بغداد: وزارة الثَّقافة العراقية- دائرة العلاقات الثَّقافية 2006، ص 53).
[38]) عبد الله بن علي القصمي، مولود بقرية قريبة من بريدة من بلدات القصيم، هاجر إلى عدة بلدان، ودرس بالعراق وأقامة بلبنان ومصر، يمكن التفريق بين مؤلفاته في الثلاثينيات، والتي كانت في وقت سلفيته، ومنها “البروق النَّجدية في اكتساح الظُّلمات الدجوية(1931)، بعدها كتب “هذي هي الأغلال”(1946) و”عاشق لعار التَّاريخ”، “لئلا يعود هارون الرَّشيد”(عن نبذة التعريف به، في كتابه: الثَّورة الوهابية، كولونيا- بغداد: منشورات الجمل 2006).
[39]) مير طاهري، السيرة الإرهابية: من بعوضة فولتير وإلى الخميني وشرم الشيخ، الشَّرق الأوسط، العدد 9740 والمؤرخ في 29 يوليو/تموز 2005.
[40]) معن شناع العجلي، الفكر الصَّحيح في الكلام الصَّريح، طبع خاص: 2012، ص 344. الشهيد نواب صفوي العالم المجاهد، موقع دار الولاية للثقافة والإعلام، على الرابط: http://alwelayah.net/?p=15069.
[41]) حوار مع فكر حسين مروة، عدد خاص من الطريق اللبنانية، العدد: 2/3 حزيران(يونيو) 1988 بمناسبة مرور عام على اغتياله، وثيقة تحت عنوان: ونفذت المهمة وهذا تقريري الأول، ص359.
[42]) الرُّصافي، ديوان الرُّصافي، القاهرة: المكتبة التّجارية الكبرى، الطبعة السَّادسة 1959ص 508 .
[43]) محمود محمد طه، طبعة المنظمة السُّودانية لحقوق الإنسان : 1996الرسالة الثَّانية في الإسلام، ص 5.
[44]) المصدر نفسه، ص 6.
[45]) المصدر نفسه.
[46]) المصدر نفسه، ص 93.
[47]) كافود، محمد عبد الرَّحيم، إشكالية الثَّقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة، الدَّوحة: دار قطرى بن فجاءة 1966 ص 14.
[48]) هذا ما يخرج به من نتيجة قارئ كتاب لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، مصدر سابق.