الآلهة فينوس تزور نهر الأردن
بقلم الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين
سجن جلبوع المركزي
3-10-2012
في منطقة نائية محاطة بأعواد القصب، سمع رجرجة ماء، وكانت أسراب الفراشات تحوم فوق بقعة من ذلك المكان قريبة منه، عاكسة على أجنحتها البيضاء والملونة ضوء الشمس الساطع، حتى تراءى له الأمر وكأنه يشاهد نجوم النهار، هذا المنظر الجميل المبهر جذبه متسللاً بين أجمة القصب على أطراف أصابعه، خشية أن يثير جلبة تفزع من بالمكان، فاقترب زاحفاً، رويداً رويداً، حتى أطل من خلف ربوة صغيرة تعلوها قضبان القصب، وكأنها نافذة سجن حفرت في جدار.
تجمد في مكانه متصنماً، لدرجة أنه عجز للوهلة الأولى عن التنفس من روعة ما شاهد، انها "فينوس" آلهة الحب والجمال! تجلس على ضفة نهر الأردن، وتداعب مياهه النقية بقدميها العاريتين إلا من الجمال الآخاذ، كأنها تراقصهما فوق صفحة المساء كراقصتي باليه تجذبهما موسيقى تشايكوفسكي المتدفقة والساحرة في "بحيرة البجع" أو في "الجمال النائم".
ترتفع قدم لتحط الأخرى في تناسق بهي، وتتناثر من حولهما قطرات الماء كحبات لؤلؤ انفرط عقدها، وتنعقف الأصابع المرجانية للخلف كقوس يجلس فوق أخمص مرمري، يصيب بنباله العشقية روح البشر المسكين، ويجول في ثنايا الماء مشط يقشعر له الجسد في رعشة حب أزلي، فكلما ارتطم عقب كاحلها بوجه الماء؛ احدث فيه فجوة صغيرة "كغمازة" في وجه عذراء تبتسم من شدة الخجل!.
عصفت به التخيلات، واشتد هبوبها لاعجاً في نفسه، ورأى روحه كفراشة محلقة بين الفراشات تطوف حول هامتها المشعة بنور الهي، وقفير قلبه يبث مشاعره الجياشة كجماعة نحل انفلتت من زنبيلها، كيف لا وهو يغمد نظره برؤيتها في ذات المغطس الذي تعمد فيه المسيح، فتلعفت عيناه صورتها عدة مرات، لتقطعا شكهما بيقين امتثاله في حضرة المعبودة! فيخال نفسه يحيط بذراعيه كنار خصرها الرواء ، ويستنشق رائحة شعرها الجذاب الذي يحاكي السماء، ويشعر بشفتيه الجاسئتين تترطبان بملامة جيدها العذب وكفه يداعب هيدبيها الرابضين في هودج صدرها كجوزلي حمام يتلظلظان جوعاً كلما اشرأب عنقها وبانت ضواحكها، فهو الذي يعلم أن جزعة واحدة مما تشتهيه نفسه تكفيه، لأنه ليس بالناسك الكنود .
خرشته ذبابة في أنفه، فلطمها بكفه مصدراً صوتاً جلب انتباهها، فرنت ببصرها نحوه لتجده يتوصوص عليها من وراء أصيص الرياحين الذي يعلو سور حديقتها، فقفزت مرتبكة من فوق الطست الذي كانت تغمر وتداعب قدميها فيه، مسدلة ثوبها الشفيف فوق ساقيها الرخاميين، وقالت له بصوتها الخريدي : أأنت؟! فأجابها متلعثماً بعد أن ارتطم رأسه من شدة الخجل بحافة الأصيص: ل ... ل... لأنك، ل .. ل..لأنني!.
هي المرأة التي يهيم بها وتهيم به عشقاً، وكان قد اقتفى وجعها الذي نز من اهابها الطفولي، حتى آل ملحاً في فمه! وعرف انها عاشت الحرمان الأسري منذ طفولتها ولم تجربه إلا رسماً في كراستها المدرسية! ومنذ لقائهما الأول حلما معاً ببناء أسرتهما الصغيرة! غير أنه خيب رجاءها، وصلب حلمها الطفولي... الأنثوي على جدران زنزانته! واسقطها في حفرة الحرمان من جديد!.
فيا لبختهما العاثر، أهو حظه أم حظها؟ والى متى كتب عليها في سفر الأزل أن تسير هذه الدرب الوعرة؟ ومتى، وأين، وكيف ستكون نهاية تعاستها وبداية سعادتهما؟ وهل سيتبقى من عمره ما يكفي لانتشالها من دياجير الظلام؟
فبقدر ما يحبها وتحبه بات يكره نفسه، لأنه تركها منتظرة على قارعة الحرمان، وكلما لاكته هذه المشاعر وابتلعته، أدرك أنه يتوقد حباً فوق شفتيها القانيتين، فيا حبيبته الحنطية انتطريه كسنبلة قمح غرستها يد القدر في قلب هذا الزمان!!.