أبو العلاء المعري ..
لـزوم مـا يلــزم !
بسام الهلسه
لو كان أبو العلاء المعري منتسباً لأمة أُخرى، لإحتل مكانة عالية بين أعلام النهضة الكبار في الأدب والفكر والثقافة في العالم، لكن الأمم المستضعفة والمتخلفة –شأن العرب والمسلمين اليوم- لا تدفع الثمن من حاضرها البائس فقط، بل من ماضيها المتألق أيضاً!
وهي لا تعاني من إنكار وجحود الآخرين لها فحسب، بل ومن عدم تقديرها وإحترامها هي لذاتها. وهو الأمر الذي لا بد منه –إحترام الذات- (بدون إدعاء أو تجاهل لمنجزات الآخرين طبعاً)، للأمم, وللجماعات, وللأفراد, على السواء، إذا ما أرادوا أن يكون لهم شأن في الوجود، بل حتى إذا ما أرادوا أن يؤسسوا لوجود حي فاعل.
كان شيخ المعرة الذي رحل قبل 950 عاماً، من أكثر الشخصيات نفاذ بصيرة في عصره وفي تاريخنا عموماً، وهو الضرير الذي فقد بصره صغيراً في الرابعة من عمره.
فإضافة إلى الثقافة الموسوعية التي استوعبتها حافظته الهائلة، وذكائه الحاد، وسرعة بديهته، عبَّر المعري عن شخصية متميزة فريدة في الأدب والفكر العربي-الإسلامي، شكلت إنقلاباً على الثقافة السائدة في عصره، والتقاليد التي أرساها من سبقوه.
وإذا كان قد تأثر بالمتنبي في مطلع حياته، كما يتبدى في ديوانه الأول: "سقط الزند"، ومن شرحه لديوان المتنبي- وتخصيصه بلقب "الشاعر"، فسرعان ما قطع مع التقاليد الشعرية العربية التي وظفت الشعر للتكسب ولطلب الحظوة والمال، ليكرس شعره للتعبير عن تجربته الخاصة وتأملاته ونظراته في الحياة والناس والوجود. وهي نظرات وتأملات أعلت من قيمة ودور العقل، في زمن عمَّت فيه الخرافات والجهل، واحتفت بالمعرفة والأحكام القائمة على الخبرة والمعاينة الحية للواقع.
وخلافاً للشعراء -وللمثقفين أيضاً- الذين "يقولون ما لا يفعلون" قدَّم المعري نموذج المفكر والأديب الذي توافق أفعاله أقواله، وتتطابق أقواله مع أفكاره ومعتقداته. وكانت حياته منذ إعتزاله في داره في المعرة- إثر عودته من بغداد, ووفاة أمه- ترجمة صادقة لقناعاته التي عاشها بإخلاص مميز إلى الحدود القصوى. وهي حالة فريدة في الأدب العربي وفي الأدب الإنساني عموماً.
عاش المعري (973م-1057م) في أوان شيخوخة الحضارة العربية الإسلامية وأفولها، بعد قرنين زاهيين (التاسع والعاشر الميلادي- الثالث والرابع الهجري) عدَّهما العلامة "آدم متز" قرني النهضة العربية الإسلامية.
وبحسه الرهيف وتبصراته الثاقبة، أدرك بؤس ما آل إليه المسلمون، وتفاهة ما هم فيه وعليه يتكالبون. وبدل أن يشكو الزمان ويندبه ويصارعه لأنه لم يُعطِه ما يستحق كما فعل المتنبي، نراه وقد نبذه لأنه لا يستحق، بل هو موضع شبهة:
إن رابنا الدهرُ بأفعاله = فكلنا بالدهر مرتابُ!
وهو موقف أسبغه على الحياة أيضاً التي لم ير فيها سوى عناء موصول غير جدير بالمجاهدة، فتساوى لديه النواح والغناء:
غير مُجدٍ في ملتي وإعتقادي = نوحُ باكٍ، ولا ترنمُ شادي
وهو أيضاً ما جسَّده في سلوكه الإعتزالي الذي امتد نحواً من أربعين سنة لم يغادر فيها داره سوى مرة واحدة, إضطرارا,ً ليتوسط لأهل المعرة لدى قائد أراد مهاجمتها (ابن مرداس):
أراني في الثلاثة من سجوني = فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي = وكون النفسِ في الجسد الخبيثِ
وإذ ذهب في قناعاته إلى حد "لزوم ما لا يلزم", فقد إمتنع عن تناول اللحم وما ينتجه الحيوان والطير، وعاش نباتياً متقشفاً زاهداً في الحياة التي بدت له الرغبة فيها جهلاً:
رغبنا في الحياة لفرطِ جهلٍ = وفقدُ حياتنا حظٌ رغيبُ!
ولم يكن موقفه من الناس في عصره إلا إستئنافاً لموقفه من الحياة، بل ربما كان الأساس الذي انطلق منه:
يحسُنُ مرأى لبني آدمٍ = وكلهم –في الذوق- لا يَعذَبُ!
ما فيهمو برٌ ولا ناسكٌ = إلا إلـى نفـع لـه، يجـذبُ
أفضل من أفضلهم، صخرةٌ = لا تظلـِمُ الناس، ولا تكـذبُ!
قلتُ: في عصره، لأننا نعرف رأيه في السابقين من داليته المشهورة:
خفف الوطأ، ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد!
وهو كلام لا يصدر إلا عن نفس شفيفة رفيقة تفيض بالحب, وهو ما يؤكده لنا سلوك الشيخ العالم الذي لم تدفعه مواقفه للإنطواء السلبي، ولم يعنِ إعتزاله نبذ الناس وبغضهم، وهو ما نعرفه جيداً من حلقات الدروس التي كرسها لطالبي العلم، ومن عديد المؤلفات التي وضعها وصنفها، والتي شكل بعضها فتحاً في مجاله مثل "رسالة الغفران" التي تناقلتها لغاتُ الأمم بحفاوة وتقدير.
وهذه مآتٍ لا يأتيها إنسان لا مبالٍ، بل إنسان وعلامة كبير يشعر بعمق وعظم مسؤوليته تجاه الحقيقة وتجاه العلم إنتاجاً وتبليغاً.
ولم تطفئ عزيمته الماضية، نيرانُ الحقد والدسائس والإفتراءات التي أوقدها حاسدوه الصغار. وظل سراجه مضيئاً حتى آخر خفقة من قلبه. وحينما رقد رقدته الأخيرة، رثاه ثمانون شاعراً, فيما نقش على شاهدة قبره بيت شعره المبرِّح:
هذا جناه أبي عَلَيَّ = ومـا جنيتُ علـى أحـد!
رحم الله أبا العلاء.. ضاقت الأرضُ على سعتها بجسمه- بل قل: بنفسه الكبيرة- فالتمس العزاء لدى خالقه:
مَحَلُّ الجسمِ في الغبراء: ضنكٌ = ولكن عفو خالقنا: رَحِيبُ