الجمعة 19-04-2024

هجرة الشباب من غزة .. الطريق نحو المجهول

موقع الضفة الفلسطينية

هجرة الشباب من غزة .. الطريق نحو المجهول

يتهافت الشباب الغزي على مكاتب السياحة والسفر في سبيل الحصول على تأشيرة تمكنهم من الخروج من سجن غزة الكبير إلى عالم آخر أملاً في عيشة أفضل، خاصة مع استمرار الحصار المطبق على قطاع غزة، وانخفاض سقف الحريات الفردية، وتدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، وحالة القمع الأمني التي انتشرت في القطاع منذ الانقسام السياسي، فأمسى الشباب يدفع كل غالي وثمين في سبيل الخروج وسلوك طرق غير شرعية وصولاً إلى المجهول.
عبد الناصر شعبان (26 عاماً) من مخيم دير البلح وسط القطاع خرج في مارس 2012 برفقة مجموعة من الشبان بعد أن حصلوا على تأشيرة سفر إلى تركيا وبالتنسيق مع الجانب المصري خرجوا من قطاع غزة عبر معبر رفح إلى مطار القاهرة ترحيلاً وصولاً إلى مطار اسطنبول، لتبدأ رحلة المعاناة المحفوفة بالمخاطر.
عبد الناصر لم يكن يعشق الموت ولكنه تعرض للأذى والضرب والشبح على أيدي أفراد أبناء جلدته بسبب انتمائه السياسي، مما أضاف سبباً جديداً لمغادرته مع ضيق الحال والبطالة وعدم القدرة على العمل حسب قوله.
تركيا- اليونان
يقول في حديثه مع بوابة الهدف حيث يمكث الآن في أيسلندا شمال أوروبا: "مكثنا في تركيا أسبوع فقط إلى أن وجدنا المهرب ويدعى (فرهاد) وهو تركي كردي ومع اختفاء غفر السواحل على شريط النهر بين تركيا واليونان شمالاً صعدنا إلى ذلك القارب المطاطي شبه المتهالك وكان برفقتنا عائلة عراقية مكونة من الأب والأم وطفلة، وشاب من خانيونس توفي غرقاً في إحدى رحلاته بين الضفتين اللعينتين"، وأضاف " كانت الأجواء باردة في أوائل نيسان وقد تعرضنا للغرق ولكننا تماسكنا وقاومنا، حتى انفجر القارب قرب الضفة الثانية من النهر، فتشبثنا في أفرع الشجر المتدلية، ونجونا من الموت بأعجوبة وأخيراً وصلنا إلى شواطئ اليونان ومنها إلى العاصمة أثينا".
كان عبد الناصر يظن أنها آخر المخاطر، وقد مكث في اليونان نحو خمسة أشهر متنقلا بين جزرها ومدنها محاولاً الخروج بتأشيرة مزورة صنعها له المهربون مستخدماً عدة مطارات دون جدوى، فكل مرة يتم ضبطه وإرجاعه إلى أثينا مع منحه بطاقة شخصية يستطيع من خلالها التنقل داخل البلد.
ويزيد: "جاءت اللحظة الحاسمة التي قررنا فيها بعد يأس أنا ورفاقي المغادرة براً ومشياً على الأقدام إلى الحدود المقدونية ومنها إلى وصربيا ومن ثم إلى حدود هنغاريا (المجر) شمالاً لننطلق بعدها إلى أوروبا وكانت خارطة أوروبا حينها لا تفارقنا، وبالفعل انطلقنا في رحلة الهلاك".
الطريق إلى مقدونيا
وأضاف بنبرة لا تخلو من تنهيدات متقطعة وابتسامة يتخللها التعب :" عندما وصلنا إلى حدود مقدونيا انهال علينا الجيش المقدوني بوابل من الطلقات النارية وأعادونا إلى داخل حدود اليونان عدة مرات بعد ضربنا بالهروات والعصي، حتى نجحنا بعد عدة محاولات بالدخول إلى مقدونيا بمساعدة سائق باكستاني يدعى بوقاس وكنا 30 متهرب في (ميكروباص) صغير وقد أعيانا وقتها التعب والجوع والعطش، ومكثنا في بيت مهجور متهالك لا يصلح لنوم البهائم على حدود مقدونيا، وكلما جاءتنا أنباء بوصول الشرطة للمكان للتفتيش قفزنا من فتحات في الجدران إلى الجبل ومن ثم نعود عند انصرافهم، وقد كان ذلك يتكرر نحو خمس مرات يومياً، وكنا دوما على تواصل مع أهلنا وذوينا في غزة عن طريق الانترنت".
ويواصل "استمر الحال بنا هكذا حتى أواخر نوفمبر وواصلنا المحاولة وعدنا إلى صربيا متخفيين داخل (كونتينر) في قطار بضائع واكتشفتنا الشرطة الصربية واعادتنا إلى مقدونيا للمرة الثالثة، حتى نجحنا في دخول الأراضي الصربية أخيراً مشياً على الأقدام وفي كل مرة كنا ندفع مبلغ من المال للمهربين حتى تجاوز المبلغ المدفوع لهم 10 آلاف دولار منذ خروجنا من غزة".

وأضاف: "تم الإمساك بنا في صربيا من قبل الشرطة الصربية ونحن نحاول الخروج من الحدود الشمالية إلى المجر، وقاموا بوضعنا في سجن قذر عشنا داخله أيام سوداء، جدرانه مليئة بالرطوبة، ودورة المياه غير صالحة للاستخدام، كنا عشرون مسجون في غرفة صغيرة وبيننا أربعة جزائيين واثنين من لبنان وعشرة أفغان، وكانوا يحضروا لنا الوجبات الثلاثة من الخبز ولحم الخنزير، فنأكل الخبز ونرجع باقي الطعام، وعندما علموا بأننا من فلسطين أخبرونا أن هذا السجن بناه هتلر لنا، فأجبناهم لو علم هتلر أننا سنحضر هنا لهدم السجن قبل أن يرحل".
عشرة أيام في الغابات
انقطعت أخبار عبد الناصر عن أهله وذويه لمدة عشرة أيام فقدوا خلالها الأمل في سماع خبر يبل رمقهم، فلم يجدوا تفسيراً لانقطاع اتصاله بهم الذي لم ينقطع ولو لساعات منذ خروجه من غزة إلا أن مكروهاً أصابه، وحاولوا جاهدين الاتصال به ومعرفة خبر عنه دون جدوى، إلى أن اتصل بهم من داخل السجن في هنغاريا بعد أن تم الإمساك به في محطة القطار أثناء محاولته الخروج من البلاد إلى منطقة أخرى يستطيع من خلالها الوصول إلى ألمانيا عبر البحر.
أضل عبد الناصر الطريق في الغابات أثناء توجهه مشيا من الحدود الصربية إلى هنغاريا وكانت الأحوال الجوية سيئة جدا في أول ديسمبر، وقد نفذ كل ما لديهم من طعام وشراب، وأصبحت أقدامهم لا تقوى على المشي أو حتى حملهم، وكانوا يلتفون بالكرتون أملا في الدفء وإذا أصبح الصباح استيقظوا يبحثون عن الحطب ليشعلوا النار لعلهم يشعرون بالدفء حتى انهم بحثوا عن أوراق الشجر ليأكلوها دون جدوى، وقد واصلوا المشي حتى خرت قواهم وأنهكهم التعب وزحفوا حتى وصلوا إلى منزل في منطقة مهجورة قريباً من الحدود الصربية المجرية، يقول: طرقنا الباب وسقطنا على أعتاب المنزل من شدة البرد والجوع والعطش والتعب وقد خرجت لنا سيدة شقراء في أواسط العمر وقد بدت عليها علامات الخوف والوجس منا، فأخرجت جواز السفر من جيبي وألقيته لها وقلت لها أنا فلسطيني ضللت الطريق وتركني المهربون بعيداً أرجوك أريد ماء أنا أموت، فذهبت وأحضرت لي ماءً وجربات وصنعت لي مشروباً ساخناً وكان برفقتي محمد أحد أقاربي وهوا من بقي معي للنهاية، ووعدتنا السيدة بأنها لن تبلغ عنا وستوصلنا إلى محطة القطار من بعيد لأنها تتعرض للمساءلة القانونية في حال وجدونا معها كوننا متهربين".
المجر النهاية
ويضيف " وصلنا إلى محطة القطار وقد شك فينا سائق القطار فأراد أن يبلغ أفراد الأمن عنا طمعاً منه في مكافأة قدرها 10 آلاف دولار ترصدها الحكومة لمن يسلم متهربا، فذهبت إلى رجال الأمن وقمت بتسليم نفسي مع محمد لهم ومكثنا عدة أيام في المعتقل وقاموا بأخذ بصمة اليدين وقد تمكننا وقتها من الاتصال في ذوينا ليطمئنوا علينا، وبعدها تم نقلنا إلى مخيمات اللجوء في مدينة ديبرسين شمالاً وقد حصلنا على اللجوء والإقامة هناك ولكن دون جدوى لان هنغاريا تعتبر من الدول الفقيرة والضعيفة اقتصاديا بالإضافة إلى معاملتهم السيئة للاجئين.
لم تكن تلك آخر معاناة عبد الناصر في أوروبا، وقد خسر اثنين من رفقائه خلال تلك الرحلة الطويلة المحفوفة بالمخاطر، وقد سقط كلاهما في النهر بين تركيا واليونان ولم يستطيعا السباحة والنجاة، أحدهم من مدينة خانيونس والآخر من مدينة غزة، وماذا أصعب من أن يفقد الشخص حياته التي ظن انه سينجو بها حال خروجه من غزة.
معاناة من نوع آخر
لم يعش هذا الشاب حياة رغيدة في أوروبا كما كان متوقعا، فقد أغلقت غالبية البلدان أبوابها في وجهه بسبب قبول لجوئه في المجر وأصبحت بصمته هناك وصمة عار له أينما حل، فلا استطاع العمل في المجر بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية هناك وفشلت محاولات اللجوء التي تقدم بها في دول أخرى، واضطر للعمل في السياحة داخل اليونان لتوفير مصروفاته وتطوع مع المؤسسات الأهلية التي تقدم العون للاجئين كالصليب الأحمر بسبب ما لمسه من معاناة لتلك الفئة من خلال تجربته المريرة، وانتهى به الحال في جزيرة أيسلندا شمالاً، والتي لم تمنحه الإقامة والعمل إلا بعد ارتباطه بفتاة أيسلندية، لتستقر حياته بعد خمسة أعوام من المعاناة.

عائلة هذا الشاب لم تلتقي به منذ أن خرج من غزة في مارس 2012 عدا والديه الذي نجح في الحصول على تأشيرة لم شمل لهما في المجر فخرجا للعيش هناك ولكنهما لم يقويا على الغربة والحياة هناك فعادا إلى غزة مجددا والآن ينتظران فتح معبر رفح للخروج للقائه في جمهورية مصر العربية، لأنه لا يريد المجازفة بدخول قطاع غزة مرة أخرى وعدم التمكن من الخروج منها هو وزوجته.
لم يكن عبد الناصر الشاب الأول والأخير وربما كان حظه رغم كل ما سبق من مآسي أفضل بكثير من غيره، فمنهم من لم يحصل حتى اللحظة على إقامة تمكنه من العمل، ومنهم من اضطر مثله للارتباط بفتاة أجنبية تمنحه الإقامة والعمل، ومنهم من دفع حياته ثمناً للهروب من غزة وواقعها المرير، وعلى الرغم من ذلك تشير الإحصائيات إلى ازدياد معدل الهجرة بين شباب غزة في الآونة الأخيرة غير مبالين بما يمكن أن ينتظرهم من معاناة ، فبلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا علي كرام.
وقد أظهرت نتائج مسح الشباب الفلسطيني في أواخر 2015 أن حوالي 24% من الشباب (15-29) سنة لديهم الرغبة في الهجرة للخارج، ويبدو أن للأوضاع السائدة في القطاع دور في زيادة نسبة الرغبة في الهجرة للخارج، إذ بلغت نسبة الشباب الذين يرغبون في الهجرة للخارج في قطاع غزة 37% مقابل 15% في الضفة الغربية، كما أظهرت النتائج أن 63% من الشباب (15-29) سنة الذين يرغبون في الهجرة لا يفكرون بهجرة دائمة، بواقع 73% في الضفة الغربية و56% في قطاع غزة.

انشر المقال على: