الاثنين 20-05-2024

من أجل التغيير والثورة وعودة المثقّف الإشكالي / هشام البستاني

×

رسالة الخطأ

هشام البستاني

من أجل التغيير والثورة وعودة المثقّف الإشكالي
هشام البستاني

1- دور المثقف العضوي: من التلفيق إلى الصِدام.
على المثقف أن يكون رؤيوياً، استشرافياً، نقدياً، تصادمياً. ماركس كان يريد من الفلسفة أن تغيّر العالم لا أن تكتفي بتفسيره(1). آرثر رامبو كان يتسائل بمرارة: "الدنيا تسير! فلماذا لا تدور؟"(2). غرامشي كان يمقت التسويات، ويعتبر أن لحظة المخاض القاتلة هي لحظة الانسداد: القديم يموت، والجديد لا يستطيع أن يولد بعد(3). كوبيرنيكوس وجاليليو ذهبا في اتجاه مناقض بالكامل لمفهوم الكنيسة عن نظام الكون الذي وضع الإنسان والأرض في مركزه وجعل الأجرام السماوية تدور حوله(4). الحلاج صلب وقطّعت أوصاله لمحاولته الولوج إلى المعنى من مدخل مغاير (هو ذاته العارفة) بدلاً من عقل "المؤسسة" السائد(5). داروين أحدث زلزالاً في تبيينه نشوء الحياة التدرّجي الطويل وعودة جميع أنواعها إلى أصل واحد بدلاً من الفهم التقليدي/الديني المتعلّق بالخلق المنفصل والفجائي(6). لحظة المثقف –إذاً- هي لحظة الكشف والاصطدام.
لا ينبغي للمثقف أن يكون تسوويّاً. لقد قارب نصر حامد أبو زيد في كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"(7) ومحمد جابر الأنصاري في كتابه "الفكر العربي وصراع الأضداد"(8) الضرر الفادح الذي يحدثه الموقف التسووي/التوفيقي ("التلفيقي" بحسب الأنصاري) بتطور الأفكار وتقدّم المنظومات الفكرية. بعيداً عن الاطمئنان والاستقرار الذي يسعى إليه أفراد الطبقة الوسطى عموماً، فإن على الأفكار المتناقضة أن تتصارع إلى النهاية لينتج ما بعدها ويكتمل التجاوز، أي ليحصل تطوّر نوعي في البنى الفكرية والمعرفية وتنتج نقلة حضارية. مثل هذا لم يحصل في ما يسمى "الثقافة العربية الإسلامية" التي لا تزال عالقة على التسوية الكبرى بين التيارين الكبيرين داخلها: تيار العقل وتيار النقل.
شيءٌ مثل هذا يقوله الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري حتى عن الثقافة "الغربية". في كتابه "البيان الإلحادي"(9). يذهب أونفري إلى أن الثقافة الأوروبية "العلمانية" ما تزال في عمودها الفقري ونظامها الأخلاقي ثقافة مسيحية. وهو يدعو لنظام ما بعد مسيحي لإحداث النقلة النوعية بدلاً من استمرار الفخ التسووي السائد حالياً.
دور المثقف إذاً أن يدفع الأمور إلى نهاياتها الفكرية والمعرفية، وأن يحفّز انتقال هذا الصراع من العالم المعنوي (عالم الأفكار) إلى العالم المادي، لا أن يقف في منتصف الطريق، ولا أن يكتفي بالكلام دون التعبير المادي عنه. غرامشي تحدّث عن المثقف العضوي: مفهوم صار يستعيره كل من أراد أن يكتب كلمتين فارغتين عن دور المثقف دون أن يلتفت ذلك الكاتب إلى نفسه، وإلى مدى انطباق ما يكتب عليه بالذات! إن كان المثقف في حالة اشتباك دائم مع الأفكار والسلطة، وإن كان يعتبر نفسه فرداً اجتماعياً طليعياً مستقبلياً، فالمطلوب منه لتكتمل "عضويّته" الغرامشية أن يمارس رؤاه ولو كانت تتعارض مع الفهم السائد وما قد يسمى "الأخلاق العامة" و"النظام العام" و"قيم المجتمع"، ولو كانت تتعارض مع مصالحه.
لا ينبغي على المثقف أن يكون "ذهناً فقط"، كما ذهب إلى ذلك أحد "كبار المفكّرين" في الأردن وهو يبرر عدم انسجام أفعاله مع أفكاره، ووجوده في حالة من الانفصام النظري-العملي تتوائم ونفعيّته وانتهازية توجّهاته وموقعه داخل بنية السلطة، وما يستتبعه ذلك الموقع من فوائد خاصة. إن هذا الموقف هو موقف معطّل ومفيد في آنٍ معاً: معطّل للحركة، ومفيدٌ لاستمرار الوضع السائد. يقول حيدر حيدر: "الحياد في زمن الصراع تواطؤ"(10). والصراع هذا يضعه ماركس في مستويين لا فكاك بينهما: النظرية والممارسة معاً، وليس واحدة أو الأخرى.
هكذا نفهم أن اصطدام المثقف يكون مع البنية لا مع الظاهرة، مع المتن لا مع الهامش، مع السبب لا مع النتيجة. وإن كنا نتحدّث هنا عن اصطدام معرفيّ، فإن هذا سيحتّم بالضرورة تجلّي الاصطدام المعرفيّ باصطدامات سياسية واجتماعية تنسجم والاصطدام المعرفيّ وتتولّد عنه.
2- إصلاحٌ أم تغيير؟ فشل "الدولة" الناشئة بعد الاستعمار.
الحديث عن "إصلاح" يفترض ابتداءً اتفاقاً مسبقاً على سلامة البنية وسلامة ميكانزماتها العامة، ويفترض تشخيصاً مسبقاً بأن البنية سليمة يشوب بعض أجزائها بعض الخلل، وأن هذا الخلل لا يؤثر على الإطلاق على إمكانيات البنية واستمرارية كفائتها وعملها.
البنية التي نتحدث عنها هنا هي "الدولة" العربية المعاصرة التي نشأت في المساحات الجغرافية التي حددها الاستعمار البريطاني/الفرنسي/الإيطالي بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرّت بعد خروجه. سنبدأ من التساؤلات الأساسية: هل ينطبق مفهوم "الدولة" على هذه الكيانات؟ وهل بالإمكان أن تتمتع مثل هذه الكيانات بالاستقلال والسيادة الفعليين؟
غنيٌّ عن القول أن الاستعمار قبل خروجه من المنطقة العربية، قسّمها، محوّلاً إياها إلى أجزاء وظيفية: الوظيفة الأولى كانت ضمان استقرار توازن القوى الاستعمارية نفسها، الوظيفة الثانية كانت تفكيك البنية الاجتماعية/السياسية بما يضمن دواماً للمصالح الاستعمارية، والوظيفة الثالثة إقامة "إسرائيل" كقاعدة أمامية وراعٍ دائم لتلك المصالح. هذا التقسيم مارسه الاستعمار في الكثير من مستعمراته القديمة، مثل شبه القارة الهندية التي قسمها إلى جزئين دائمي الاشتباك (الهند وباكستان)، وافريقيا التي قسمها إلى دول صغيرة هشة جاهزة للانفجار في أي وقت.
ابتداء من اتفاقية سايكس – بيكو والاتفاقيات الكثيرة التي تلتها(11) وأعادت رسم خرائط "دول" المنطقة، كان التوجّه واضحاً: إنشاء كيانات مصممة لتكون مفرغة مسبقاً من إمكانات التحرر الذاتي الكامل، وليعاد من خلالها انتاج التشكلات الاجتماعية عبر تضخيم الهويّات الإثنية والدينية والطائفية والعشائرية الماقبل مدنيّة، وبعضها مصمم ليشكل بؤراً للتوتّر و/أو الامتصاص. هي إذاً كيانات تابعة كنتيجة لتصميمها المسبق، وكنتيجة لكونها منقسمة وغير كاملة، وكنتيجة لطبيعة الأنظمة الحاكمة التي جاءت بعد الاستعمار وبقيت على صلة وثيقة به، وسارت على منواله في تحطيم البنى السياسية الداخلية واستبدالها بالعلاقات القائمة على الفساد من جانب، وعلى الطائفة والدين والعائلة والعشيرة والعصبة والإثنية من جانب آخر.
يمكن اعتبار "الدولة" الناشئة بعد الاستعمار أي شيء باستثناء كونها دولة. المفاهيم الأساسية المتعلقة بدولة الحق والقانون المنبثقة عن قيم البورجوازية ودول السوق القومية (مثل "سيادة القانون" و"المؤسسات الحاكمة" و"حقوق المواطنة") لا تنطبق هنا. ويمكن القول أن هذه "الدول" المفرغة سلفاً من إمكاناتها التحررية تتم إدارتها بما يشبه عقلية العصابة: لا توجد "تقاليد" أو أعراف راسخة أو مجموعة من القواعد التي تنطبق على الجميع بلا اسثناء – حتى تنظيمات المافيا والعصابات المسلحة تمتلك مثل هذه القواعد والأعراف(12)، لكن الطبقات الحاكمة في الدول العربية الناشئة بعد الاستعمار كانت لديها حرية إصدار القوانين، تغيير القوانين، تطبيق القوانين، عدم تطبيق القوانين، حل البرلمان وعدم الدعوة لانعقاده، إصدار قوانين مؤقتة، تعديل الدساتير، تنظيم انتخابات مزوّرة، الابتزاز، القمع، التعذيب، القتل، مصادرة الحقوق الأساسية للناس، الإيغال في الفساد والإفساد، تصنيع الهويّات المزوّرة وتضخيم الانقسامات الوهمية، ضرب البنى السياسية (الأحزاب، النقابات..الخ) وتشويهها وإلحاقها، ضرب البنى المؤسسية (البرلمان، القضاء، الأمن) وتشويهها وإلحاقها، وأخيراً: توريث رئاسة الجمهورية من الأب إلى الابن.
يصعب أن نجد نموذجاً في التاريخ يشبه "الدولة" العربية الناشئة بعد الاستعمار، لكن أقرب مثال وجدته كان دولة أقيمت في ما يسمى الكونجو البلجيكية بين عامي 1885 و1908 باسم "دولة الكونجو الحرّة" (Congo Free State)(13)، وهي عبارة عن "مستعمرة" غريبة النوع، لا تخضع للدولة البلجيكية، بل هي الملك الشخصي لملك بلجيكا ليوبولد الثاني، بكل سكانها ومواردها ومساحتها البالغة 2.3 مليون كيلومتر مربع. الدولة العربية الناشئة بعد الاستعمار هي ليست إلا إقطاعية كبيرة للحاكم والطبقة/المجموعة التي يمثلها و/أو تلتف حوله. هذا الحاكم خاضع لتأثير القوى الإمبريالية التي تدفع "مساعدات مالية" وتدرّب وتسلّح "قوى الأمن" لإبقاء الناس تحت نقطة الانفجار بخليط من الخوف، القمع، واشباع الحاجات الأكثر أساسية التي تقدّم بصفتها هبات من الحاكم وانجازات له.
القوى الإمبريالية التي تدفع "المساعدات" (=الرشوات)، عملت هي نفسها ومن خلال قروض البنك الدولي وخطط اعادة الهيكلة الاقتصادية لصندوق النقد الدولي وخصخصة القطاع العام، على تفكيك أية امكانيات لإحداث تنمية مستقلة، ونشوء اقتصاد قادر على الوقوف وحده على قدميه.
إن علاقات القوة وآليات الحركة داخل "الدولة" الناشئة بعد الاستعمار ناتجة بشكل كامل عن هذا الخلل البنوي الذي نشأت عليه في الأساس. والحديث عن "إصلاح" إذن لا يستقيم في ظل غياب مجموعة من العناصر الأساسية:
1- الغياب الكامل لمفهوم الدولة الحديثة (الديمقراطية البرجوازية).
2- الكم الهائل من التشوّهات المفبركة والحقيقية في البنى الاجتماعية وما تولّده من أزمات هوياتية.
3- التبعية الكاملة للكيانات الناشئة بعد الاستعمار وأنظمتها الحاكمة، سياسياً واقتصادياً.
4- عدم إمكانية إنجاز "تحرر وطني" داخل "الأوطان" المصممة سلفاً من قبل الاستعمار لتكون مفرغة من إمكاناتها التحررية بواسطة العناصر المذكورة أعلاه. هذا ينطبق بشكل خاص على دول الهوامش والأطراف، ويقل نسبياً في دول المراكز.
هكذا نستطيع الاستنتاج باطمئنان إلى أن "الإصلاح" هو مجرّد مصطلح تلفيقي آخر يهدف إلى:
1- شرعنة البنية القائمة الأقرب إلى الإقطاع وإعطائها صفة "الدولة".
2- الإعتراف بقواعد وقوانين اللعبة/"الدولة" (القاعدة والقانون هو عدم وجود قاعدة وقانون باستثناء إرادة السلطة) وبالتالي...
3- جرّ القوى الاجتماعية المختلفة والنخب المثقفة إلى داخل مربع "الدولة" بما يرتبه ذلك من الخسارة سلفاً أو الاندماج ضمن آليات العمل المشوّهة والفاسدة لتحقيق المكاسب تحت شعار "الإصلاح من الداخل".
لن نفاجأ إذاً إن علمنا أن أول من رفع شعار "الإصلاح" هو السلطة ذاتها، بينما كان "التغيير" هو الهدف الأساسي الدائم للناس، والشعار الأساسي للانتفاضات العربية: "الشعب يريد إسقاط النظام".
المنطقي إذاً أن يصطدم المثقف مع هكذا "دولة"، لأن الخلل البنيوي يعالج باستبدال البنية المختلة لا ترقيعها. النتيجة واضحة: "الإصلاح" هو خطابٌ تسووي غير مثقف حقاً، خطابٌ تلفيقي، خطابٌ يتمسّح بالسلطة ويستجديها. من سيحقق الإصلاح؟ الإصلاح يأتي من داخل البنية، وعلاقات القوة داخل البنية معروفة. الثورة تأتي من خارج البنية، من الأطراف المتضررة التي تمثّل الأغلبية الساحقة. الإصلاح يتعامل سطحياً مع الظواهر. الثورة تعيد إنتاج القواعد التأسيسية المنتجة للظواهر. وهنا بالضبط، يحصل الانقسام بين المثقفين.
3- الغضب في مواجهة البلادة.
تحمل كلمات وألحان أغاني الرّوك والميتال شحنات هائلة من الغضب والطاقة، وتتناول عادة قضايا ومسائل موغلة في العمق: فلسفية واجتماعية وسياسية، مليئة بالنقد وتدفع إلى التساؤل، وهي في مجملها مناهضة لـ"النظام": النظام الرأسمالي المكترث فقط بتحقيق الأرباح والقائم على التهميش والإلحاق والغزو والهيمنة وتدمير البيئة الذي تمارسه الدولة الرأسمالية المعاصرة بمساعدة من أدوات الدعاية الكبرى المتوفرة لها، وكل ذلك بغطاء "الحرية" الكاذب. لا يوجد في الموسيقى العربية شيء مشابه، وإن كنا نستطيع تحديد بعض الظواهر النقدية في الغناء العربي مثل الشيخ إمام وزياد الرحباني، إلا أن الموسيقى العربية نفسها تفتقد إلى مسار يرفع الأدرينالين ويحفّز على الغضب.
مقابل ذلك، تحمل الأغاني العربية –فيروز مثلاً- جرعات هائلة من التهدئة، وغالباً ما يمتدح الغناء العربي بأنه "مُطرِب" أو "طربيّ"، والطرب هو شعور يشبه التخدير والدروشة. من الصباح، تنهال عليك الإذاعات بفيروز: جرعة التهدئة والتخدير هذه ضرورية لاحتمال بؤس الحياة في سياق إعادة إنتاج رومانسية للواقع البائس. الدول تفعل مثل هذا في سياقات أخرى: "إسرائيل" مثلاً تغطي الجدار العازل البشع من جهتها بالتراب والأشجار محوّلة إياه إلى هضبة خضراء، الفيليبين وقبل اجتماع هيئة محافظي البنك الآسيوي للتنمية غطّت أحيائها الفقيرة بالجدران(14). السجن/الفقر/البؤس يتحوّل بفعل الموسيقى/الأشجار/الجدران إلى شيء غير منظور يمكن العيش معه.
لذلك لا عجب أن يتهم الشباب المتمرّدون على المؤسسة والباحثون عن محفّزات للغضب المعزز بالمعرفة والتساؤل في موسيقى الروك والميتال بأنهم "عبدة شياطين" و"خارجون عن تقاليد المجتمع وأعرافه"، وتجرّد من أجلهم حملات اعتقال منذ أواسط التسعينيات(15). طبعاً المنع والرقابة هذان موجودان أيضاً في الولايات المتحدة أيضاً، وتعتبر تِبِرْ غور (الزوجة السابقة لآل جور نائب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون) واحدة من أهم الناشطات من أجل منع موسيقى الرّوك والميتال أو تحديد الوصول إليها(16).
علينا ألا ننسى أن الحواجز المعرفية المحددة سلفاً والتي يمنع الاقتراب منها هي أحد أركان هيمنة السلطة الرئيسية. وباختراق هذه الحواجز، سبق بعض الفنانين والأدباء الانتفاضات العربية بسنوات طويلة، وما يزالون. فرق الميتال المناهضة للمؤسسة كانت موجودة في الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية منذ بدايات التسعينيات. الفن والأدب كسرا حاجز التابوهات المعروفة (الدين والسياسة والجنس) ووضعوها جميعاً أمام التساؤل والنقد منذ فترات مبكرة. هؤلاء "المثقفون الطليعيون" ظلوا لسنوات على هامش الثقافة الرسمية، أُقصوا وحوربوا مثل موسيقى الروك والميتال الغاضبة لأنهم مناهضون للمؤسسة/مناهضون للنظام، وتم تجييش نوع آخر من المثقفين في مواجهتهم: المثقفون التصالحيون الذين ترعاهم السلطة وتموّلهم وتدعمهم وتفتح منابرها أمامهم، ومن خلالهم نجحت في تحويل قطاعات أخرى من المثقفين إلى متسوّلين يستجدون الدعم والنشر والتأمين الصحي والوظائف.
من جانب آخر عمل تمويل السفارات للثقافة على إفراغها من المضمون المعرفي، والمعاناة، ومصادرة حرية الإبداع عبر فرضها مجموعة من القضايا التي لا يتم تمويل المشروع الثقافي إلا إذا تناولتها، فصار المبدع يعيد إنتاج مشروعه الإبداعي بما يتوافق والمواضيع التي يتم تمويلها، وهي بمجملها قضايا يتم تناولها بعيداً عن السياق العام الذي أنتجها، وبما يخدم استراتيجيات الجهة الممولة لا استراتيجيات المبدع وواقعه السياسي/الاقتصادي/الاجتماعي/الابداعي.
هكذا تم انتاج المثقف "الفيروزيّ" الهادئ البليد، المثقف البعيد عن الرؤيوية والنقد والتمرد، المثقف الأقرب إلى تقاليد الطبقة الوسطى التي تركن إلى الاستقرار وتفضل عدم التغيير، وهو أمر حصل سابقاً في سياق الأدب، في سياق الحركة الرومانسية مثلاً، ففي كتاب فيرجيل نيموانو "ترويض الرومانسية" (1984)(17)، يستعرض المؤلف المشهد الأدبي في بريطانيا وفرنسا وايطاليا وألمانيا وروسيا خلال الأعوام 1815 – 1848 والتي يسميها الكاتب أعوام ترويض الحركة الرومانسية في الأدب، حيث يتراجع اللب المتفجر الرؤيوي للرومانسية أمام نسخة مخففة وأليفة من الرومانسية التي تمجّد قيم الطبقة الوسطى.
هكذا، صار مصطلح "المثقف الإشكالي" سُبّة بدلاً من أن يكون المثقف إشكالياً بالضرورة، فما الذي لدى المثقف غير الإشكالي ليقدّمه؟! وصار المثقف يهرب من المواضيع الإشكالية خوفاً من السلطة وانقطاع الدعم من جهة، وخوفاً من المجتمع و"قيمه" و"تقاليده" من جهة أخرى، هذا ناهيك عن تحوّل بعض المثقفين إلى الشعبوية الكاملة، بل وإلى التزوير التاريخي والهويّاتي، بحثاً عن دور سياسي وضيع ضمن محددات البنى الفاسدة السائدة.
4- بيان من أجل التغيير والثورة والمثقف الإشكالي
بنظري أن ما حصل ابتداء من تونس وليس انتهاء بسورية هي انتفاضات شعبية عارمة لم تكتمل كثورات حتى الآن، ولعدة أسباب أهمها غياب الطبقة الثورية والحزب الثوري القادرين على استبدال "النظام القديم بآخر جديد"، ولغياب أي أساس نظري أو بنية معرفية/فلسفية مسبقة تقوم الثورة من أجل تحقيقها (مثلاً: الثورة الفرنسية 1789 قامت بها طبقة هي البرجوازية وسبقتها أرضيات معرفية وضعها مونتيسكو، روسو، فولتير وغيرهم، وانتقلت بالمجتمع من الإقطاع إلى الثورة الصناعية. الثورة الروسية 1918 قام بها حزب ثوري وسبقتها أرضيات معرفية وضعها ماركس، إنجلز ولينين وانتقلت بالمجتمع من الإقطاع إلى رأسمالية الدولة الاشتراكية).
مشكلة المثقف العربي أنه لم يُنتج نظرية ثورية ولم ينظّر فيها (باستثناءات قليلة أبرزها مهدي عامل)، وأنه لم يكن شريكاً في التمهيد لـِ وصناعة الانتفاضات، وليس لديه شيء ليقدّمه، ولذلك (وباستثناء الأقلية الغاضبة والمتمرّدة) فهو خائف من المستقبل لأنه ليس شريكاً في صناعته ولا شيء لديه ليقدّمه. خائف على موقعه الذي هو هبة من السلطة، رشوة صغيرة لإسكاته، لذلك –وكما في المرحلة الرومانسية- صار المثقف العربي "التقدمي" يريد شدّ التاريخ إلى الخلف، أي صار رجعياً محافظاً، وبدلاً من أن يدعم انتفاضات الشعوب (التي لطالما حلم بها مع جوليا بطرس: وين الملايين؟!) في مواجهة النظام الرسمي العربي الذي لطالما شخصه بأنه تابع وفاسد وعقبة في وجه مشروع التحرر، صار ذلك المثقف يشد الجماهير المتقدّمة عليه إلى الخلف، ويدافع دفاعاً مستميتاً عن "الدولة" الناشئة بعد الاستعمار المفرغة من امكاناتها التحررية (وهي ليست دولة، بل فوضى مقموعة بقوة القمع)، ويدافع دفاعاً مستميتاً عن النظام الرسمي العربي، وتحوّلت الشعوب المنتفضة إلى كتلة كبيرة صمّاء من العملاء، وصار ذلك المثقف داعية رسمياً للإصلاح، وهو الإسم الكوديّ لاستبدال الجالسين على الكراسي دون استبدال الكراسي نفسها!
كتبت سابقاً: "المثقف حالة ضميرية، حالة كاملة الاستقلال عن الانظمة، حالة تتجسد فيه الحرية ككلية لا تتجزأ. ومثل اولئك الذين ارتضوا لأنفسهم مواقع التبعية والتلوّن والتبرير والتحوّل إلى أبواق ليسوا "مثقفين" بهذا المعنى. والمضحك أنهم يفذلكون مواقفهم باسم "الواقعية السياسية" نفسها التي أدانوا الأنظمة على أساسها عندما ذهبت هذه الأخيرة (أي الأنظمة) لتوقيع معاهدات الاستسلام مع الكيان الصهيوني! المثقف حالة استشرافية، مستقبلية، لا تلعب السبع ورقات، ولا تقدم التنازلات التكتيكية، تلك يفعلها السياسي الباحث عن موقع. المثقف لا يبحث عن انسجام مع "الرأي العام"، تلك يفعلها السياسي الباحث عن الأصوات، والمثقف غالباً ما يكون متصادماً مع الرأي العام لأنه يتحدث عن مستقبل: عن عدالة اقتصادية واجتماعية، عن حريّات اجتماعية وسياسية كاملة غير منقوصة، عن بنى جديدة تقام على أنقاض القديم."(18)
لذلك سأنفض عني أوهام "المثقف والإصلاح"، وأنطلق في سعيي الإشكالي نحو التغيير والثورة.

انشر المقال على: