الجمعة 03-05-2024

للأسرى..إضاءة زيتها مشاعرهم

×

رسالة الخطأ

علي جرادات

للأسرى..إضاءة زيتها مشاعرهم
علي جرادات
20 نيسان / أبريل 2016
يبدو أن كل ما يمكن أن يُكتب عن الأسرى الفلسطينيين قد كُتبَ، أو قيل، لتذكير هيئة الأمم بأنه ما كان لقرارها الظالم، في العام 47، "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، أن ينجب إلا "دولة يهودية" استعمارية استيطانية عنصرية إقصائية احلالية، وبالتالي، فاشية وعدوانية النظام، والأحزاب، والحكومات، و"المعارضات"، والسياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والأمن، والجيش، والقوانين. ولتذكير هيئة الأمم بأنها بإصدار ذاك القرار الظالم قد أسست، فيما أسست، لأن يصبح السجن مصاحباً للفلسطينيين كظلهم. ولتذكير هيئة الأمم بأنه لولا تحوّلها إلى غطاء لدعم بعض حكومات العالم، وتواطؤ بعضها، وصمت أغلبها، لما بقيت إسرائيل دولة مارقة و"فوق كل قانون"، ولما نجت من جرائم تنفيذ مليون حالة اعتقال، منذ العام 67، ولما أصبحت في عداد المسائل العادية جرائمها المتعلقة بحبس الأطفال والتنكيل بهم، واعتقال أصحاب الرأي إدارياً، (بلا تهمة)، لسنوات، ولما صارت "مسائل فيها نظر" فظاعاتها المتمثلة في قتل الأسرى والمعتقلين عمداً، وعن سبق إصرار، إما بالتعذيب، أو بالإهمال الطبي، أو بالإعدام الميداني، أو بتركهم يموتون ببطء عبر حبسهم لعقود. وبالمناسبة، لم يعد "قدامى الأسرى" هم، "المعتقلون قبل أوسلو"، فقط، فقد انضم إليهم المعتقلون في الفترة بين 1993-2000، بينما مضى على المعتقلين في سنوات "الانتفاضة الثانية"، (2000-2004)، بين 12-16 عاماً.
ويبدو، أيضاً، أن كل ما يمكن أن يكتب عن بطولة ومعاناة الأسرى الفلسطينيين، قد كُتب، أو قيل، لتذكير هيئة الأمم، والعالم بأسره، "عرباً وعجماً"، بأن السجن، (عدا القتل والجرح والطرد والتشريد واللجوء والتدمير)، لم يردع، ولن يردع، شعب فلسطين، ولم يدفع أجياله المتعاقبة، ولن يدفعها، نحو التسليم والاستسلام، بل نحو المقاومة الدفاعية المشروعة، واستمرارها، وتنويع أشكالها، وابتكار المزيد من وسائلها، وما "انتفاضة السكاكين" المستمرة، كما يصفها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، سوى دليل آخر، ولن يكون خاتمة المطاف، في هذا السياق. ولتذكير هذا العالم بأن 7 آلاف فلسطيني وفلسطينية تلفهم، الآن، عتمة السجون، ما انفكوا، رغم هول المعاناة، وقسوة التنكيل، ومجافاة الظروف، على "الجمر يقبضون"، في الخنادق المتقدمة يقاتلون، وبالمقاومة، ثقافة وتنظيماً وأدوات فعل، يتمسكون، وعن هدف حرية فلسطين، الشعب والوطن، لا يحيدون. وللتذكير بأن الأسرى الفلسطينيين، قد صنعوا، ولا يزالون، بطولة وطنية تتاخم الأسطورة، ومساهمة تتجاوز حدود الملحمة، (وتُنسى أحياناً)، في الدفاع عن مباديء الحرية والعدالة والمساواة وقيمها الإنسانية السامية.
لكن، لما كانت مواقف شعوب العالم غير مواقف حكامها وأنظمتها من قضية فلسطين العادلة، وبالتالي، من قضية الأسرى الفلسطينيين، فإن ثمة فائدة سياسية أكيدة، وحاجة دائمة، لتظهير، وإبراز، ما تنطوي عليه هذه البطولة الوطنية من ملحمة إنسانية فريدة، وربما نادرة، بكل المعاني والمقاييس. وفي السياق، أن أكتب، (إحياء ليوم الأسير)، كأسير سابق، سكن السجن، وسكنه السجن، لسنوات طويلة، عن شركاء القيد و"البرش" والزنزانة، يعني أنني، (كأي أسير)، إنما أضع على الورق، يسيراً من مخزون ذاكرة مثقلة بما لا يُحصى من صور البطولة والمعاناة الحسية، ويعني أنني، إنما استعيد رنين أحاسيس صناعها ومشاعرهم، وهم يخوضون معارك المواجهة المفتوحة والممتدة على مدار اليوم مع السجان، وليس الإضراب المفتوح أو الجزئي عن الطعام، سوى أبرز أشكالها، وأقساها، وأكثرها عنفواناً ونجاعة. ويعني أنني، إنما انقل خلاصة آراء هؤلاء الشركاء، كما سمعتها خلال حواراتي، ونقاشاتي الطويلة معهم، في باحات "الفورة"، ومركبات "البوسطة"، وغرف وخيم السجن، وزنازين التحقيق والتعذيب. وبالتالي، فإنه لا فضل لي فيما أكتب، الآن، إلا بمقدار تمكُّني من تأطير خلاصة حوارٍ مع عدد من "قدامى الأسرى"، كحوار تعمدت فيه، الإنصات لرنين مشاعرهم وأحاسيسهم بعد عقود من معيش السجن، وعقدين من حالة وطنية تغيظ كل صديق وتسر كل الأعداء. ليتني أكون قد نجحت في تحويل آرائهم وأحاسيسهم ومشاعرهم، (كما طلبوا)، إلى إضاءة ثقافية تضيء عتمة زنازينهم، هي مقدمة ما كتبت، في حينه، وسبق أن نشرتها، وأعيد نشرها بمناسبة حلول يومهم، هي إضاءة بقلمي وزيتها مشاعرُهم، ومضمونها ما أرادوا تعميمه:
(نحن) السجين و(هم) السجان....كان لهم "مسألتهم"، بلغت ذروتها في "كارثتهِم". فتَظلموا، بصرف النظر عن أن "مسألتهم" لم تكن رغماً عن، بل بفضل، تاريخ طويل من خرافة "تفوُّقِ عرقهِم". لقد أزاحوا اضطهاد "أغيارهم" بخطف حُر طليقنا نحن الأبرياء من "مسألتهم" و"كارثتهم"، واقتلعوا مسألتهم من التاريخ بزراعة نكبتنا فيه. ولا ندري، وليس مهما أن ندري، إنْ كانت "كارثتهم" أكثر أو أقل قسوة وبشاعة من نكبتنا. فمبدأ "كارثتهم" و نكبتنا واحِدُ السببِ والنتيجة. إنه الاضطهاد لمجرد اختلاف الهوية، ورجحان ميزان القوة الفيزيائية المملوكة.
لقد بتنا عقوداً في سجونهم نصنع السبيل لاستعادة الحُر الطليق لنا ولهم، لنا بعودة جمالية المبيت بين أطفالنا، والعمل في مصنعنا وحقلنا، والتعلُّم والتعليم في مدارسنا وجامعاتنا، ولهم باقتلاع بؤس ثقافة السجن المتأصلة في نفوسهم. عقود من بطولتنا لم تظفر بعد بحريتنا من سجونهم، وعقود من معاناتنا لم تفلح بعد بوقف استباحتهم الشاملة لنا، وطناً وأرضاً وشعباً ومقدرات وكرامة وطنية وإنسانية. عقود وهم يرددون: "السيد والعبد إثنان، الأول نحن والثاني أنتم". وعقود ونحن نردد "بل السيد والعبد واحد في الإنسان"، لأن "زائد سجنكم هو ناقص حريتنا"، و"ناقص سجنكم هو زائد حريتنا". ففي الطبيعة لا أول بلا ثانٍ، ولا ثانٍ بلا أول، أما في السياسة والمجتمع، "فلا سيد من دون عبد، ولا عبد من دون سيد". منطقنا غريب عليهم، ومنطقهم غريب علينا، فنحن وهُمْ زمنان في زمن. نحن زمن انعتاق الحرية مِن السجن، وهم زمن زج الحرية في السجن. هم زمن خرافة تفوق "عرقِهم"، ونحن زمن الإنسان جذر كل الأعراق. نحن السجين نحمل السجن على جسدنا، وهم السجان يحملونه في وعيهم.
غرابا نرى السجن، وحمامة يرونه. بالعتمة نصفه، وبالنور ينعتونه. جهنم نراه، وجنة يرونه. بإبر ثقافة الحرية نخلع السجن، وبفأس ثقافة العبودية يزرعونه. نلفظه فيبتلعونه. نحاربه فيصادقونه. نُطلِّقه فيتزوجونه. ننهره فينادونه. نشتمه فيمدحونه. نهدمه فيبنونه. نمقته فيحبونه. نلعنه فيباركونه. نجابهه فيحمونه. نمزقه فيرتقونه. لقد نفوا (بسجنهم) حر طليقنا، فنهضنا ببطولة معاناتنا لاستعادة حريتنا، فغدونا "جمل المحامل" لنفي ثقافة السجن فيهم. وما معاناتنا نحن "قدامى الأسرى" إلا غيضاً من فيضِ نكبتنا، ومجرد نزر يسير مِن "بطولة ومعاناة" مئات آلاف الأسرى الفلسطينيين.
هذا يعني أن قدامى الأسرى يحثون على إبراز البعد الإنساني الكامن في البطولة الوطنية للأسرى الفلسطينيين، لأن فيه ما يهبها الحفظ والصون والتخليد، وما يمنح صناعها تفوقاً أخلاقياً على قادة الكيان الذي أذاقهم بالقوة، ولا يزال، معاناة زنازين، وصمَّمها ضيقة مثل "الغيتو"، وفيها حشر رحابة حرية هؤلاء المناضلين الوطنيين الإنسانيين، ووصموهم، زوراً وبهتاناً، بـ"التخريب" و"الإرهاب"، وكأن كيانهم العنصري الإقصائي الاحلالي، ليس مفرخة الإرهاب المنظم الأولى في العالم. لكن، من أسف، فإن فيما تقدم نقد غير مباشر، لما يمكن تسميته بـ"حالة التسليع السياسي" التي سادت ثقافة التحرر الفلسطينية في العقدين الأخيريْن، بكل ما أنتجه هذا التسليع من سلوك استخدامي بائس يفصل بين جهود النضال الوطني لنيل الحرية من الاحتلال، وبين تطلعات باذليها، داخل السجن وخارجه، لوجود قيادة سياسية فلسطينية ديموقراطية ترتكز إلى مبادئ العدالة والإنصاف والمساواة، بحسبانها المرجعية الثقافية لكل حركة تحررية تناضل لإزاحة سيطرة خارجية. هنا، ثمة نقد تشفع لقسوته شدة بؤس الحالة القيادية الوطنية الراهنة، مقابل هول المعاناة، وجسامة التضحيات، وما توجبه من سلوك قيادي مقاوم ديمقراطي، ينأى عن الاستخدام، ويبني سياسة اجتماعية مقاومة، تعزز الصمود، وتحقق القدر الممكن من المساواة والعدالة.

انشر المقال على: