الجمعة 26-04-2024

غسان كنفاني.. رجل في الشمس

×

رسالة الخطأ

موقع الضفة الفلسطينية

غسان كنفاني.. رجل في الشمس
رغم حياته القصيرة التي انتهت بالاغتيال وهو لا يزال في سن السادسة والثلاثين، فقد احتل الكاتب، والروائي، والسياسي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني مكانة مُتميزة استقرت حتى وصلت إلينا كاملة، فلا تزال أعمال وكتابات كنفاني ساطعة كنجوم في سماء أدب المقاومة، وسجّلت بأسلوبه المُتميز حكايات ثورة الفلسطينيين الأولى على من جاءوا ليسرقوا وطنهم.
ولد غسان لأب طموح من عكا، عانى من أجل إكمال دراسته، التحق بمعهد الحقوق بالقدس مُعتمدًا على جهده الشخصي فكان ينسخ المحاضرات لزملائه، ويبيع الزيت الذي يرسله له والده، ويشارك بعض الأسرفي مسكنها، حتى تخرج كمحام، وعند عودته إلى عكا تزوج من أسرة ميسورة ومعروفة، ثم انتقل وزوجته للعمل في مدينة يافا، وكان يترافع في قضايا أغلبها وطنية، فتم اعتقاله أكثر من مرة كانت إحداها بإيعاز من الوكالة اليهودية، وكان غسان هو ثالث أبناء ذلك الرجل، وهو الوحيد بين أشقائه الذي ولد في عكا في التاسع من أبريل عام 1963 أثناء قضاء والديه الإجازة، وحين جاء المخاض لأمه لم تستطع أن تصل إلى سريرها قبل أن تضع وليدها الذي كاد يختنق بسبب ذلك.
التحق غسان بمدرسة الفرير في يافا، ولم تستمر دراسته سوى بضع سنوات، حيث كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا، وهو الحي الملاصق لتل أبيب الذي شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود إثر قرار تقسيم فلسطين، فعادت الأسرة إلى عكا حتى جري الهجوم الأول على المدينة من قِبل اليهود.
"بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون معنا، وكنا نقدم لهم القهوة تباعًا، علمًا بأن فرقتهم بقيادة أديب الشيشكلي كانت ترابط في أطراف بلدتنا، وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا التي لجأ أهلها إلى عكا، وكانت الصور ما تزال ماثلة في الأذهان"..
استمرت الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر وفي الصباح، واستطاعت الأسرة المغادرة مع العديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان فوصلوا إلى صيدا، ثم انتقلوا مع آخرين إلى حلب، ثم إلى الزبداني، حتى وصلوا إلى دمشق واستقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق؛ وافتتح أبوه هناك مكتبًا لممارسة المحاماة، فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحيانًا التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات.
أثناء دراسته برز تفوق كنفاني في الأدب العربي والرسم، وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين، والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي، وكان معظم ما عُرِض فيه من جهده الشخصى، وفي الوقت ذاته كان قد انخرط في حركة القوميين العرب، فكان يضطر أحيانًا للبقاء لساعات متأخرة من الليل خارج المنزل؛ وفي أواخر عام 1955 سافر كنفاني إلى الكويت للتدريس في المعارف الكويتية وكان شقيقاه قد سبقاه بسنوات وصاحبت هذه المرحلة إقباله الشديد على القراءة.
"لا أذكر يومًا نمت فيه دون أن أنهي قراءة كتاب كامل، أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة"..
بدأ كنفاني يكتب في إحدي صحف الكويت، وكان يكتب بتوقيع "أبو العز"، ما لفت إليه الأنظار بشكل كبير، خاصة بعد زيارته العراق عقب الثورة العراقية عام 1958، وهناك أيضًا بدأ مشواره الأدبي، حيث كتب أولى قصصه القصيرة "القميص المسروق"، التي نال عنها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية؛ وفي تلك الفترة ازداد ارتباطًا بشقيقته وابنتها الشهيدة لميس نجم التي كان يحضر لها في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها، وفي عام 1960 انتقل غسان إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية، وكانت بيروت الأرحب لعمل غسان، وفرصته للقاء التيارات الأدبية والفكرية والسياسية، فكان عمله في مجلة الحرية إضافة إلى كتابته مقالًا اسبوعيا لجريدة "المحرر" لفتت الأنظار إليه كصحفى ومفكر مهم للقضية الفلسطينية، فكان مرجعًا لكثير من المهتمين بالقضية.
في عام 1961 كان يُعقد في يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين، وكان من ضمن الوفود وكذلك كان هناك وفد دانمركي بين أعضاءه فتاة كانت متخصصة في التدريس للأطفال، قابلت الوفد الفلسطيني، لتسمع لأول مرة عن القضية الفلسطينية، واهتمت بالقضية ورغبت في الاطلاع عن كثب على المشكلة، فسافرت إلى بيروت مرورًا بدمشق، حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية؛ ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج الذي تم في 19 أكتوبر 1961، ونتج عن زواجهما فايز وليلي، وبعد الزواج انتظمت حياته وخاصة الصحية، حيث أصيب في بيروت بمضاعفات لمرض السكري الذي أصابه إبان وجوده في الكويت، وزاد عليه النقرس؛ وكانت كانت ساعات وجوده بين زوجته وأولاده من أسعد لحظات عمره وكان يقضى أيام عطلته يعمل في حديقة منزله.
"أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل"..
جاء أدب غسان كنفاني وإنتاجه الأدبي متفاعلًا دائما مع حياته وحياة الناس، فكان في كل ما كتب يصور واقعًا عاشه أو تأثر به؛ ففي "عائد إلى حيفا" وصف رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا، وهو ما شاهده عندما كان ما يزال طفلًا يجلس ويراقب ويستمع ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية؛ وكانت "أرض البرتقال الحزين" تحكي قصة رحلة عائلته من عكا وبقائهم المؤقت في الغازية؛ أمّا "موت سرير رقم 12" استوحاها من مكوثه بالمستشفي بسبب المرض؛ وجاءت "رجال في الشمس" لتحكي جزءًا من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت؛ وكذلك عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء؛ فكانت المعاناة ووصفها ترمز إلى ضياع الفلسطينيين في مرحلة تحولت قضيتهم فيها إلى قضية لقمة العيش مثبتًا أنهم قد ضلوا الطريق.
كذلك تُعتبر قصته "ما تبقي لكم" مُكمّلة لـ"رجال في الشمس" حيث يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين ما اعتبره البعض تبشيرًا بالعمل الفدائي، وكانت قصص "أم سعد" وقصصه الأخرى كلها مستوحاة من أشخاص حقيقيين، وكانت في ذهنه فكرة مكتملة لقصة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر في جراج البناية التي يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر"؛ وفي إحدى فترات حياته كان كنفاني يُعّد قصة ودراسة عن ثورة فلسطين ضد الانتداب عام 1936 فاجتمع إلى سكان المخيمات مُسجلًا ذكرياتهم عن تلك الحقبة، وما سبقها، والأيام التي تلتها، وقد أعد هذه الدراسة التي نُشرت فيما بعد في مجلة شئون فلسطين، أما القصة فاكتملت منها فصول تم نشر بعضها في كتابه "عن الرجال والبنادق"، كما كتب كنفاني أيضًا الكثير من القصص التي كان أبطالها من الأطفال، ونُشرت مجموعة من قصصه القصيرة في بيروت عام 1978 تحت عنوان "أطفال غسان كنفاني"، وهي التي نشرت ترجمتها الإنجليزية بعنوان "أطفال فلسطين".
"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية"..
و لا أحد يجهل أن غسان كنفاني كان أول من كتب عن شعراء المقاومة، ونشر لهم أعمالهم، وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية في تلك الفترات الأولى لتعريف العالم العربي على شعر المقاومة، فلم تكن تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها كنفاني، كما أصبح كتابه عن "شعراء الأرض المحتلة" مرجعًا مُقررًا في عدد من الجامعات وكذلك مرجعًا للدارسين؛ كما كانت الدراسة الوحيدة الجادة عن الأدب الصهيوني في تلك الفترة هي ما كتبها كنفاني، وهي التي نشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني، كذلك كان يبذل مسعاه من أجل القضية في كل مكان مارس فيه عمله الصحفي، فكان عضوًا في أسرة تحرير مجلة "الرأي" في دمشق، وأسرة تحرير مجلة "الحرية" في بيروت، ورئيس تحرير جريدة "المحرر" في بيروت، ورئيس تحرير القسم الفلسطيني في جريدة المحرر، ورئيس تحرير ملحق "الأنوار" في بيروت، كما كان مؤسس ورئيس تحرير "مجلة الهدف" في بيروت؛ أيضًا صمم العديد من ملصقات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان قد رسم كذلك العديد من اللوحات.
"إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس"..
كان سعي كنفاني الدائم وتحمّسه لقضية عمره التي هي قضية بلاده، إضافة إلى عضويته في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين دفعت جهاز المخابرات الإسرائيلية لتنظيم عملية اغتياله وهو لا يزال في السادسة والثلاثين من عمره، فقام عملاء المخابرات الإسرائيلية في 8 يوليو 1972 بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت.

انشر المقال على: