الأربعاء 15-05-2024

عولمة الليبرالية المتوحشة أعلى مراحل الاستغلال

×

رسالة الخطأ

د. محمود الخفيف

عولمة الليبرالية المتوحشة أعلى مراحل الاستغلال
د. محمود الخفيف

قبل انطلاق المؤتمر السنوى لمنتدى الاقتصاد العالمى الذى انعقد فى دافوس بسويسرا يوم الأربعاء، 21 يناير 2015، ومثلما حدث فى العام الماضي،
أصدرت منظمة أوكسفام تقريراً آخر عن تفاقم حالة عدم المساوة فى العالم واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وكان تقرير هذا العام بعنوان «الثروة: امتلاك كل شيء وهل من مزيد».وفى مثل هذا الوقت من كل عام يجتمع فى دافوس اغنى الأغنياء وصناع السياسات الاقتصادية والمالية فى العالم، والمتحكمون فى إدارة عولمة اقتصادات دول الكرة الأرضية، لمناقشة الازمات التى تواجههم أو قد تواجههم وكيفية تفاديها، ومناقشة إمكانية احتواء المنافسات الشرسة فيما بينهم، مما يقلل الضرر عليهم ويحافظ على ديمومة السياسات الليبرالية المتوحشة (غير المروضة أو غير المنظمة وغير متحكم فيها من قبل الحكومات) التى وضعوها لعولمة ثروات الدول «الساعية للنمو» (النامية).ويبدو أن أوكسفام تحاول من خلال هذه التقارير أن تُخبِر المجتمعين فى دافوس بمدى اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء فى العالم وتستجديهم للتقليل من سرعة اتساع هذه الفجوة. وقد يكون ذلك مجدياً مع بعض زعماء العالم الثالث المهمومين بالفعل بمشاكل الفقر والعدالة الاجتماعية فى بلادهم، ولكن هل تجد مثل هذه التقارير صدى لدى كبار الرأسماليين وأغنى أغنياء وزعماء الغرب «المتقدم»، ولدى من يتبنون ويسعون لتطبيق مزيد من سياسات الليبرالية المتوحشة لتحقيق مزيد من الأرباح والثروات؟ هل من الممكن لهذه التقارير أن تجد صدى لدى هؤلاء إذا كانت زيادة الفقر واتساع الهوة بين الغنى والفقر هما نتيجة مباشرة للسياسات الليبرالية المتوحشة والتى تؤدى لمزيد من اكتناز الثروات فى يد قلة قليلة من الرأسماليين وتعمل على إزالة أى حواجز قد تضعها دول العالم الثالث للاحتفاظ بالثروة فى بلدانها، وبذلك تسرع وتسهل من انتزاع ونقل ثروات العالم الفقير إلى دول الاستعمار القديم فى الغرب «المتقدم»، وبالتالى تحافظ على بقاء العالم الثالث تابعاً ومتخلفا وتحافظ على العولمة فى شكلها الحالي.
ويوضح تقرير أوكسفام مدى فداحة مأساة الغنى ومأساة الفقر والهوة بينهما حيث ان 1% فقط من سكان الكرة الارضية لديهم ثروة تساوى تقريبا كل ما لدى الـ 99% من البشر على وجه البسيطة (ستة مليارات وتسعمائة مليون نسمة). وتصبح بشاعة الموقف أكثر وضوحاً إذا علمنا أن ثروة أغنى 80 نفراً فى العالم فى سنة 2014 كانت تعادل ما لدى ثلاثة ونصف مليار إنسان - أى النصف الفقير من سكان الكرة الأرضية، بعد أن كان يستأثر بهذا النصيب ما يقرب من 400 نفر فى عام 2010، أى أن الثروة الفلكية لأغنى 80 نفراً فى العالم قد تضاعفت عدة مرات فى غضون أربع سنوات فقط. ويشير التقرير بوضوح إلى أن التراكم السريع لهذه الثروات لا يرجع إلى عمل وكد وذكاء وإبداع الرأسماليين والاغنياء، بل يرجع بالأساس لتوارث الغنى واستخدام النفوذ وقدرة الأغنياء والرأسماليين على تسخير القوانين والجهاز الحكومى من أجل تحقيق مصالحهم وزيادة ثرواتهم، أى باستخدام أنواع مختلفة من الفساد المقنن أو غير المقنن. غير أن تقرير الأوكسفام لم يوضح أن اكتناز الثروات والاستقطاب بين الدول الساعية للنمو (الفقيرة) ودول الغرب «المتقدم» (الغنية) مستمر باطراد من عهد الاستعمار القديم، وأن معدلاته تضاعفت منذ أن فُرِضَت عولمة الليبرالية المتوحشة على العالم. وقد لخص هذه المسألة أحد مواقع الانترنت (www.therules.org) فى تقرير مصوّر بعنوان «ثروة العالم وعدم المساواة ما لم تعرف إنك لن تعرف» (Global Wealth Inequality - What you never knew you never knew)، حيث يوضح هذا التقرير أنه منذ 200 عام، أى فى أوائل العهد الاستعمارى (فى ثوبه القديم)، كانت ثروة الدول الغنية «الاستعمارية» تمثل ثلاثة أضعاف ثروة الدول الفقيرة «المُستعمَرة»، وبعد 160 سنة وفى بداية سبعينيات القرن الماضي، أى فى نهاية فترة الاستعمار القديم، ومع ضعف حركات التحرر الوطني، وصلت هذه النسبة إلى 35 ضعفاً، ولكن بعد أربعة عقود فقط من تطبيق عولمة الليبرالية المتوحشة، فى عام 2010، قفزت هذه النسبة إلى 80 ضعفاً، وباستمرار هذا المعدل تكون ثروة الدول الغنية قد زادت 100 مرة عن ثروة الدول الفقيرة فى عام 2015. غير ان الاستغلال ونقل الموارد والثروات لم يعد يأتى عن طريق التحكم المباشر كما كان الحال فى عهد الاستعمار القديم، بل عن طريق العولمة والسياسات الليبرالية. ففى سنة واحدة فقط (2010) انتقل من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية حوالى تريليونين و100 مليار دولار، مقسمة كما يلي: 900 مليار من خلال سياسة تسعير السلع التى تبيعها الشركات المحمية بقوانين الاستثمار الأجنبى والتى تستفيد من تغير سعر نفس السلعة من بلد إلى آخر؛ و500 مليار دولار عن طريق عولمة التجارة الحرة المتحيزة للدول الغنية؛ ثم 600 مليار دولار تدفعها الدول الفقيرة لخدمة ديونها للدول الغنية. وتعنى هذه التريليونات أن الدول الغنية تأخذ كل عام من فقراء العالم 10% من كل ما تنتجه الـ 167 دولة نامية، أى تأخذ ما يساوى 8 أضعاف ما تنتجه بلد مثل مصر ذات الـ 90 مليون نسمة! أى أن على ما لا يقل عن 700 مليون إنسان من البلدان النامية أن يعملوا ويكدوا سنة كاملة ليدفعوا للغرب «المتقدم» الفاتورة السنوية للاستعمار الجديد الذى يرتدى ثوب ما يسمى بالعولمة. ويبدو جلياً أن الاستعمار الجديد (والذى ما زال هو نفسه الغرب «المتقدم») أكثر حنكةً واستغلالاً من الاستعمار القديم.

والآن اين نحن من كل ذلك؟ لقد طبقت مصر وكل الدول العربية الروشتة الكاملة «لتوافق واشنطن» فى العقود الأربعة الماضية. ومن المؤكد أنه قد تم دفع جزء كبير من الفاتورة الضخمة سابقة الذكر، وأن ذلك من الأسباب الرئيسية لثورة مصر وتونس وما يحدث الآن فى كثير من دول العالم العربي. إن فك الارتباط بعولمة الليبرالية المتوحشة أمر ممكن، من خلال التعامل مع البريكس BRICS كبديل على سبيل المثال، وكذلك يجب اعادة النظر فى كثير من القوانين والسياسات الاقتصادية المتحيزة للأغنياء والتى طبقت فى العقود الأربعة الماضية، وبإمكان مصر أيضاً أن تدفع، بالتعاون مع العالم النامى (كما فعلت فى ستينيات القرن الماضي)، لخلق شروط أفضل لعولمة الجنوب-جنوب المتحيزة للفقراء والصناع الحقيقين لثروات العالم. ولكن الأكيد ايضاً أن كل ذلك لن يأتى بدون تكلفة، وأن هذه التكلفة تهون إذا كانت هناك إرادة لكسر التبعية للغرب وتحجيم استغلال الاستعمار الجديد، وإن كنا لا نريد أن نعيش فى مجتمع تمتلك فيه صفوة الـ 1% الغنية أكثر من نصف ثروات وموارد الشعب كله.

انشر المقال على: