الجمعة 19-04-2024

سلمى.. والوطن.. والحرية

د. فيحاء عبد الهادي

سلمى.. والوطن.. والحرية
د. فيحاء عبد الهادي

حين كتب المناضل "إبراهيم سليمان جرار" مذكراته عام 1960؛ لم يعرف إن كانت سوف ترى النور أم تبقى حبيسة الأدراج، لكنه أدرك أهمية أن يوثق تجربته الشخصية، ببعديها السياسي والإنساني، وبقيت كلماته مخطوطة حتى دفعتها ابنته "دينا جرار" إلى النشر نهاية العام 2017، تحت عنوان "سلمى.. والوطن"*.
نوَّهت "دينا" في المقدّمة إلى أن المخطوطة ربما تخلط بين الواقع والخيال، في محاولة منها لحثّ القارئ على التفكير فيما يقرأ، وعدم التسليم المطلق بما جاء بها من وقائع.
وأعتقد أن الملاحظة لها ما يبرِّرها؛ إذا ما انتبهنا إلى أن ما يتاح لنا أن نطّلع عليه حين نقرأ الكتاب؛ هو صوت المؤلف/الراوي، ووجهة نظره بالأحداث وبالأشخاص الذين يتحدث عنهم؛ أما أصوات الشخصيات الأخرى؛ فلا يتاح لنا سماعها إلاّ من خلال صوته.
تتأرجح المذكرات منذ أول كلمة فيها حتى آخر كلمة، بين الحاضر، والماضي البعيد، والماضي الأقرب؛ لتعود في نهاية الكتاب إلى الحاضر.
يبدأ المؤلف مذكراته بكتابة يومياته من على سرير المستشفى، يوم 10 آذار 1960، والتي تنتهي بعد نجاح عمليته الجراحية، وخروجه معافى يوم 26 نيسان 1960.
بعدها يبدأ كتابة قصة حياته منذ ولادته في قريته "الهاشمية/ البارد - جنين" في 5 كانون الثاني 1922، مروراً برحلة العلم في حيفا والقدس وبيروت. إلى الشروع في رحلة النضال الطويلة، في بيروت وفلسطين والعراق وحيفا والناصرة والأردن،
في حيفا، وفي المدرسة الإسلامية التي التحق بها "نزار"، في سنّ السابعة؛ تتلمذ على يد الشيخ "كامل"، الذي كان ينمّي في طلابه الروح الوطنية، والإيمان بالبلد وبالقومية، وتعرَّف إلى بعض السوريين الفارّين من ظلم فرنسا وطغيانها أمثال: "شكري القوتلي"، و"الجابري"، و"الزركلي". "كنا نعيش في جو وطني صرف. نرى الأبطال يروحون ويجيئون أمامنا، صوراً حية للكفاح في سبيل الوطن والتضحية في سبيله".
ولا عجب في أن هذا الجو جعل "نزار" وزملاءه يشاركون في المظاهرات السياسية عام 1933، التي كانت موجّهة ضد الإنجليز مباشرة، حيث خرجت المظاهرات لتحتج ضد سياسة فتح الأبواب للهجرة اليهودية الواسعة، وعندما اشتدّ الهياج أطلق الإنجليز النار فسقط القتلى والجرحى، كما أن الجو الوطني الحماسي، هو الذي جعل نزار يلتحق بجمعية إنقاذ الوطن، التي أسَّسها مدرِّس الدين الإسلام، العالِم والقائد الوطني "الشيخ عزّ الدين القسام"، الذي آمن بــ"أن القوة لا يمكن أن تكبح إلاّ بالقوة، وأن خروج الشعب في المظاهرات أعزل من السلاح لا فائدة من ورائه، وأن الثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين؛ فأخذ يعدّ العدّة لليوم الذي سيخرج فيه، مصطفياً إخوان الجهاد مدّخراً السلاح".
ومن حيفا إلى القدس، للالتحاق بالمعهد الحكومي، حيث ازدادت الروح الوطنية اتقاداً، ثم إلى بيروت للالتحاق بالجامعة الأميركية، حين التقى "نزار" و"سلمى"، وبدأت قصة العشق التي ملكت عليه حواسّه، وتخلَّلت صفحات المخطوطة منذ البداية حتى النهاية.
*****
يفرد الكاتب المساحة الأوسع في مذكراته للحبّ؛ حب سلمى وحب الوطن. شكَّل الحب دافعاً للراوي كي يلتحق بالمقاومة الفلسطينية العسكرية، ويساهم مع رفاقه في إشعال نار الثورة التي بدأت تخبو عام 1939، ويشتبك مع البريطانيين مراراً، موجّهاً ضربات موجعة إلى المستعمرات اليهودية، ثم يشتبك مع العدو الصهيوني، في ردّ لاعتداءات العصابات الصهيونية على المدن والقرى الفلسطينية، إبّان التطهير العرقي للشعب الفلسطيني 1948.
وتتبيَّن من خلال القصّ مكانة متميزة للنساء في الثلاثينيات والأربعينيات. تبرز المرأة كفاعل رئيس، في البيت والحقل وعلى مقاعد الدراسة الجامعية. تقوم "سلمى" بدعم "نزار" حين قرَّر الالتحاق بالثوار، في محاولة لإشعال النار بالثورة المسلحة التي خبا نارها نهاية الثلاثينيات. ولم يقتصر دورها على الدعم؛ بل كانت قائدة طلابية، تتزعم حلقات نقاش طلابية، تهدف إلى التوعية السياسية، بالإضافة إلى أنها آمنت بقدرة المرأة على حمل السلاح، وطالبت بالتدريب على استخدامه، والمشاركة في العمليات العسكرية.
وحين تسلل اليأس إلى قلب نزار بعد ضياع فلسطين عام 1948، وضياع سلمى، احتفظت حبيبته بتفاؤلها المستند إلى إيمانها اللامحدود بعدالة القضية الفلسطينية، وبحتمية نهوض الشعب الفلسطيني من عثرته ليواصل نضاله من أجل استعادة وطنه:
"فلسطين وإن ضاعت مؤقتاً فإن ذلك لا يعني أن نتخلى عن العمل لاسترجاعها، وإذا كنت أنت الذي بذلت دمك مرتين في سبيلها تهز كتفيك متخلياً عنها، فماذا يفعل الآخرون؟".
*****
تكمن أهمية المذكرات أنها تضيئ جانباً معتماً من نضالات الشعب الفلسطيني، وكفاحه من أجل حريته، منذ الثلاثينيات حتى عام 1948، كما أنها تكشف تفاصيل غنية عن حياة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلادهم منذ العشرينيات.
يحثّ الكتاب الفلسطينيين على كتابة تاريخهم بأنفسهم؛ ليضيئوا عتمات الذاكرة، ويضيفوا إلى الرواية الفلسطينية الجماعية.

انشر المقال على: