الجمعة 26-04-2024

رواية "عائد إلى حيفا": ضربة كنفاني الاستباقية.. تفكيك وعي وثقافة التطبيع فكرًا وممارسة!

×

رسالة الخطأ

موقع الضفة الفلسطينية

رواية "عائد إلى حيفا": ضربة كنفاني الاستباقية.. تفكيك وعي وثقافة التطبيع فكرًا وممارسة!
بقلم: نصار إبراهيم
ظهر يوم الثلاثين من حزيران ، 1967 ، كانت سيارة " الفيات " الرمادية التي تحمل رقما اردنيا أبيض تشق طريقها نحو الشمال ، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة ، وتتسلق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي . وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهار الجدار كله ، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع ، ووجد نفسه يقول لزوجته (صفية ): -" هذه هي حيفا يا صفية !")
***
(1)
أن يكون غسان كنفاني (أو غيره من المثقفين الفلسطينيين والعرب) نموذجا حاضرا للمثقف الثوري التقدمي الملتزم في الوعي والذاكرة الفلسطينية والعربية، أمر هام وضروري يعبر عن القيمة الكبرى والحيوية لدور المثقف والثقافة في مواجهة التحديات وتعزيز قيم المقاومة والانتماء، كما هو ضروري أيضا توظيف الأرث الثقافي والأدبي لتأكيد المواقف والتحفيز على الصمود والثقة بالذات الوطنية والقومية.
ومع ذلك يبقى ما هو أهم من ذلك، ألا وهو التجاوز إلى مستويات أبعد وأعمق بهدف إدراك المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية العميقة التي عبر عنها كنفاني في إبداعاته المختلفة، ذلك لأن كنفاني لم يكن يكتب أدبا منفصلا عن الواقع الفلسطيني، إنه لم يكن يمزح، بل كان مثقفا ثوريا يترجم رؤيته وقناعاته وثوابته الوطنية والإنسانية العميقة في كتاباته الأدبية، تلك القناعات والثوابت التي التزم بها وكافح من أجلها، وصولا إلى اللحظة التي دفع فيها حياته ثمنا لها دون تردد، كما أنه في ذات الوقت والسياق كان يكشف في كتاباته ويؤكد على الثوابت العميقة الراسخة في وعي وممارسة الإنسان الفلسطيني والشعب الفلسطيني المتمسك بقضيته وحقوقه ووطنه كالقابض على الجمر مهما بدت الظروف مجافية، وحتى لو بدت للوهلة الأولى أنها غير واضحة.

كل هذا جعل من مجمل كتابات كنفاني الإبداعية مقدمة لمشروع ثقافي فلسطيني وطني جدي، غير أن وعي ملامح هذا المشروع مشروط بتجاوز المقاربات السريعة والعاطفية نحو عملية تحليل متعبة وعميقة لتلك الإبداعات، تحليلها بالمعنى الاجتماعي والسياسي والفكري بصورة منهجية تكشف لنا ركائز مقاربات كنفاني الثقافية للواقع الفلسطيني في نصوصه الإبداعية الأدبية والسياسية.
حينها سنكتشف كم أن تلك الإبداعات عميقة ومركبة، وكم هي راهنة وحيوية، بهذا يتحول الاحتفاء بكنفاني كمثقف ثوري مبدع إلى عملية وعي ونقد وبناء وتعميق للمشروع الثقاقي الوطني الفلسطيني المقاوم... بهذا يجري تحصين الوعي الفلسطيني بصورة علمية راسخة بما يتجاوز الحالة العاطفية الانفعالية والتوظيف المباشر، على أهميته، نحو فاعلية ثقافية عميقة.
هذه الفكرة أو الهدف هما الدافع من وراء هذه القراءة في أحد أعمال غسان كنفاني الروائية الأساسية؛ رواية "عائد إلى حيفا".
بطبيعة الحال هناك أبعاد وجوانب أخرى في الرواية لها علاقة بالذاكرة والتاريخ وعلاقة الإنسان بالمكان، وهي أبعاد بالتأكيد تستحق التناول والتحليل، غير أنني حصرت النقاش ما أمكن في القضية المحددة والهدف المحدد من وراء هذه القراءة.
(2)
لقد قرأ الكثيرون، وربما أكثر من مرة، رواية "عائد إلى حيفا" التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1969 ، لكن الزاوية التي شدت القراء أكثر من غيرها بمن فيهم أنا أيضا، تركزت في الغالب على البعد الدرامي للنص، أي على وصف الحالة والمعاناة الفلسطينية التي تجسدت في أم واب فقدا طفلهما (خلدون) في حيفا أثناءأحداث نكبة عام 1948 وما ترتب على ذلك من تشرد وتهجير ولجوء، ومع ذلك بقي الأمل يراودهما بإيجاده ولقائه واستعادته من جديد...

وهذا ما حدث بالفعل بعد عشرين عاما، أي بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967... حين توجه سعيد وصفية إلى بيتهما في حيفا.. وفعلا التقيا مع "ابنهما/خلدون/دوف"، غير أن ما جرى منذ بداية هذه الرحلة وأثنائها تجاوز تماما مسألة الدراما والعواطف، ليضعنا أمام نص مدهش يفكك فيه كنفاني وبصورة في منتهى الذكاء بعض ركائز الوعي السياسي، ومن بينها فكرة في منتهى الخطورة والجدية، ألا وهي فكرة وثقافة التطبيع.
بطبيعة الحال هذه القراءة الخاصة لرواية "عائد إلى حيفا"، قد تصيب وقد تخطئ، ومع ذلك فإنها كانت بالنسبة لي محاولة مدهشة ومتعبة في آن.. لكنها فكرة تستحق كل هذا التعب وأكثر، في عمل أدبي إبداعي لكاتب فلسطيني مدهش، أعطى عمره وحياته لشعبه وقضيته العادلة، وهذا أقل ما يمكن أن نقوم به ليكون الإنسان جزءا من عملية التفاعل مع الفكرة وإغناء الوعي.
في رواية عائد إلى حيفا يتجاوز كنفاني الدهشة وهو يأخذ القارئ في نص درامي متوتر... لكنه وهو يقوم بذلك بأسلوب سردي أدبي عالٍ، فإنه أيضا كان يوجه ويحفز القارئ بالمعنى الثقافي والسيكولجي والأدبي والسياسي ليعي ويدرك أسس ومنطلقات فكرة ووهم التطبيع من خلال تفكيكها بمهارة وبراعة، وفي ذات الوقت كان يحطمها... أو لنقل أنه كان يقدم تدريبا كثيفا لتفكيك وتحطيم ثقافة التطبيع. بالطبع لقد انجز هذه العملية دون أن يستخدم مفهوم التطبيع بصورة مباشرة.. ذلك لأنه لم يكون مفهوما رائجا في زمن كتابة الرواية .. غير أن هذه الفكرة الخطرة كانت تلوح في وعي كنفاني المتوقد. ولكي يفكك كنفاني أبعادها بصورة علمية مقنعة، أي بعيدا عن اللغة الخطابية والاندفاعات العاطفية، فإنه قام بالاشتغال على بناء مشروعه الروائي بعقلية الباحث العلمي إن جاز التعبير، بمعنى تحديد الإشكالية أو لنقل سؤال البحث الذي يمكن صياغته كما يلي: ما هي حظوظ النجاح في إمكانية استعادة سعيد لإبنه بالحوار والإقناع بعد أن فقده في سياق الكارثة الوطنية وبعد أن تربى وكبر ونشأ في سياق وشروط أسرة يهودية استولت عليه وعلى وعيه وذاكرته وعلى بيته ومدينته ووطنه بالقوة، اي هل يمكن استعادة الحقوق (ابن أو وطن) من موقع الهزيمة؟.

كنفاني وهو يتصدى لهذه المسألة، ويذهب لمعالجة مخاطرها الثقافية والسياسية، فإنه لم ينطلق من مقاربة الفرضية المشار إليها بصورة مجردة، بل كان يذهب إليها في سياقاتها، أي وهو يعي أن ما جرى كان عملية اغتصاب عنيف وواع وبالقوة لفلسطين وهذه حقيقة أو معطى أول، وأن عملية تشريد شعبها واقتلاعهم من بيوتهم وديارهم هي عملية سياسية ضمن مشروع استيطاني استعماري يقوم على أيديولوجيا واضحة ومحددة وهذه حقيقة أو معطى ثابت آخر، وأيضا في ظل هزيمة ساحقة للجانب العربي – الفلسطيني، وهذا معطى ثالث.
(3)
انطلاقا من ذلك فإن تحويل هذه الإشكالية المشار إليها إلى فرضية للنقاش كان يستهدف، وفق مقاربة كنفاني، البرهنة من على قاعدة الوعي العميق للواقع على استحالة ذلك عبر الحوار أو من خلال تطبيع العلاقات مع عدو من هذا الطراز، أي بدون مقاومة وبدون تغيير موازين القوى وبدون حرب.
ولكي تأخذ "التجربة" مداها الأعمق والمقنع قام كنفاني بتصميم الرواية بحيث يكون "ممثل" الطرف الآخر، بما هو مشروع استيطاني استعماري اقتلاعي عنفي وعنصري شخصية غير يهودية، بل وهو من ناحية وراثية شخصية فلسطينية، لقد شكلت هذه إحدى نقاط الارتكاز الحاسمة في مقاربة كنفاني، وقد أراد من ورائها أن يقول لنا: بأن المشكلة ليست في طبيعة الفرد المحدد، فحتى لو كان فلسطينيا من ناحية البيولوجيا إلا أنه من ناحية السياقات والوعي والممارسة أصبح جزءا عضويا من مشروع استعماري اقتلاعي استيطاني عنصري.
بمعنى أن الإنسان يمكن أن يكون صهيونيا فكرا وممارسة دون أن يكون يهوديا، كما يمكن أن يكون مع الشعب الفلسطيني وحقوقه أيضا مناصرين ومقاومين دون أن يكونوا عربا أو فلسطينيين.
قيمة هذه النقطة أنها تحرر النقاش من "تهمة " الانحياز المسبق من منطلق العاطفة الفطرية التي تتوسل البيولوجيا أو الانتماء القومي أو الإثني أو الديني دون أن تضرب في ذات الوقت جوهر الفرضية أعلاه، أي أن كنفاني أراد أن يقول: حتى لو كان من يقف في الطرف الآخر تجري في عروقه دماء فلسطينية فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئا، بمعنى أن الأساس في المقاربة هي البنية والمنظومة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التي تلتزم بأيديولوجيا صهيونية استعمارية تعرف جيدا ماذا تفعل ولأية أهداف وكل من يدعمها ويتبناها ويناصرها بغض النظر عن جنسيته وقوميته ودينه وجنسه.
كما يمكن مقاربة هذه الفكرة بصورة أكثر تعقيدا ربما، أي أن كنفاني جعل "خلدون" بصورة ما معادلا رمزيا لفلسطين، فكما تم الاستيلاء على فلسطين بالقوة، كذلك أيضا تم الاستيلاء على خلدون من قبل عائلة يهودية استيطانية مهاجرة، وأخضعته منذ تلك اللحظة لغسيل دماغ شامل، اي بالضبط كل ما قام ويقوم به الاحتلال الصهيوني الاستعماري في فلسطين من استيلاء واستغلال وشطب لذاكرة المكان وتغيير لتاريخه. وعليه هل يمكن استعادة خلدون أو فلسطين من سيطرة احتلال من هذا الطراز بالحوار، أي بدون مقاومة وحرب؟.
بمعنى؛ هل نحن هنا أمام سوء فهم يمكن حله بساعة أو ساعتين من الحوار أو التفاوض والنقاش الإنسانوي، أم نحن أمام مشروع سياسي أيديولوجي عنصري شرس وعنيف، يستحيل معه استرادد أي حق جدي من حقوق الشعب الفلسطيني إلا بمقاومته وهزيمته الشاملة.
هذه بالضبط هي الفرضية الأساسية التي قام كنفاني بالاشتغال عليها في نص عائد إلى حيفا. أي البرهنة على استحالة استعادة الأبن، أو الوطن المغتصب بدون مقاومة.
من خلال متابعة صيرورات أحداث الرواية ومواقف شخصياتها، سندرك جيدا هذه الفكرة بكل وضوح وسهولة... وهي بالضبط فكرة تتناقض تماما مع ثقافة وسياسة وممارسة التطبيع، التي تقوم على الاعتقاد بإمكانية استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية من خلال الحوار وتطبيع العلاقات مع الاحتلال، أو الرهان على إمكانية إقناعه بأن يعيد إلينا بعض حقوقنا التي استولى عليها بالقوة.
(4)
بناء على هذه المقاربة يمكن تكثيف البنية العامة لحركة الرواية بشكل عام بما يلي: رحلة سعيد وصفية إلى حيفا، هنا نلاحظ أنه وقبل أي حوار ومن اللحظة الأولى، فإن سعيد يعلن موقفه ومنذ بداية الرحلة حين يقول:" كل الأبواب يجب ألا تُفتَح الا من جهة واحدة ، وإنها إذا فُتِحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها لا تزال مغلقَة"... إنه يشير بذلك إلى أن زيارته هذه إلى بيته في حيفا كما غيره من فلسطينيي الضفة الغربية وغزة الذين ذهبوا لزيارة بيوتهم تجري بسبب انتصار إسرائيل في حرب عام 1967، فهي التي فتحت بوابة "مندلبوم" بالقوة، وهي من يسمح للفلسطينيين بزيارة مدنهم وقراهم وبيوتهم في منطقة 48.
في هذا السياق يقوم كنفاني بسرد كثيف لذلك اليوم الذي فقد فيه سعيد وصفية ابنهما خلدون، وكيف استمات كل منهما من موقعه لكي يصلا إلى أبنهما.. ولكن دون جدوى... فرعب الهزيمة كان جارفا شاملا تحت ضغط الموت والرصاص والجموع التي وجدت نفسها تساق نحو قدرها المحتوم بلا حول ولا قوة :
" وفجاءة جاء الماضي ، حادا مثل سكين : صباح الأربعاء ، 21 نيسان ، عام 1948 . كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً ، رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض . وفجأة جاء القصف من الشرق ، من تلال الكرمل العالية . ومضت قذائف المورتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية . وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى ، واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها . كان المساء قد بدأ يخيم على المدينة ، ليس يدري (سعيد) كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها ، مرتدا عن شارع الى شارع ، أما الآن فقد بات واضحا أنهم يدفعونه نحو الميناء ، فقد كانت الأزقة المتفرعة عن الشارع الرئيسي مغلقة تماما ، وكان إذ يحاول الاندفاع في أثرها ليتدبر أمر عودته الى بيته ، يزجرونه بعنف، واحيانا بفوهات البنادق وأحيانا بحرابها.
كانت السماء نارا تتدفق بأصوات رصاص وقنابل وقصف بعيد وقريب ، وكأنما هذه الأصوات نفسها كانت تدفعهم نحو الميناء . ورغم أنه كان غير قادر على التركيز على أيما أمر معين ، إلا أنه رأى كيف بدأ الزحام يتكاثف مع كل خطوة . كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلك الشارع الرئيسي المتجه الى الميناء، رجالا ونساء وأطفالا، يحملون أشياء صغيره أو لا يحملون ، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح . وضاع بين أمواج البشر المتدفقه وفقد القدرة على التحكم بخطواته . إنه ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر وكأنه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول ، غير قادر على التفكير في أي شيء، وفي رأسه كان ثمة صورة واحده معلقة كأنما على جدار: زوجته صفية وابنه خلدون ...... (...) وفجأه رأت (صفية) نفسها في موج الناس ، يدفعونها ، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة ، في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده ، كانها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش. كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن خلدون الطفل ما زال في سريره في الحليصا (حي في حيفا)؟
ليست تتذكر تماما ، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض ، فيما أخذ السيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء ، وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها . وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة . ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل الى أي أذن . لقد رددت كلمة " خلدون" ألف مرة ، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل في فمها صوتا مبحوحا مجروحا لا يكاد يسمع . وظلت كلمة " خلدون " نقطة واحدة لا غير ، تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء. .. (...) واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها ، وقررت أن تعود بأي ثمن .... فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد في وجهها طريق العودة.".
هذا السرد بتفاصيله وتوتره هام وضروري كونه يؤسس لفهم سياقات النقاش، بمعنى أن فقدان سعيد وصفية ابنهما خلدون لم يكن بسبب خوف أو بسبب جبن شخصي، وإنما هو نتيجة حتمية لهزيمة مفاجئة شاملة وجارفة، لم يكن بمقدور أي إنسان ومهما كان شجاعا أن يوقف تداعياتها المخيفة، إنها تشبه سقوط قذيفة على بيت أعزل فتقتل الأطفال أمام عيون أمهاتهم دون أن يكون بمقدورهن فعل أي شئ...
أؤكد على هذه النقطة لانه قد يتبادر إلى ذهب البعض أن يسأل مستغربا: كيف كان لسعد وصفية أن يطاوعهما قلبيهما فيغادرا تاركين طفلها الرضيع في البيت!؟

نعم ممكن أن يحدث هذا جدا... إنه يحدث حين تقيم عصابات قاتلة تنفذ مشروعا داميا سدا من النار والموت والجحيم بين الإنسان وإبنه... يحدث حين توضع السكين على عنق إنسان أعزل ومقيد ويذبح أمامه أطفاله.
بعدها يصل سعيد وصفية إلى بيتهما في حيفا، هنا أيضا ومن البداية وحتى قبل أن يلتقي مع ابنه (خلدون/ دوف) يحسم سعيد الحوار مع ميريام اليهودية البولونية التي تحتل بيته، حين يقول لها: "طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي من هنا ، ذلك يحتاج إلى حرب..". إذن نحن هنا لسنا أمام حوار وجدال بهدف الاقناع لمن الحق في البيت، فالموقف والحالة لا يحسمهما حوار، ذلك لأن خسارة البيت/ الوطن جرت في الحرب .. إذن لا يمكن استعادتهما إلا بالحرب، وغير ذلك لا يعود هناك أي منطق لحرب عام 1948 وفق الرؤية الصهيونية، ذلك لأن احتلالها لفلسطين لم يجر بسبب خطأ أو سوء فهم، وإنما تنفيذا لمشروع واضح تماما.
بعد ذلك تأتي مشاهد الحوار مع ابن سعيد "خلدون/دوف" ، هنا نجد أنفسنا أمام حوار "غريب" ليس له اي علاقة بفكرة أو منطق والدين يسعيان لاقناع ابنهما، الذي فقداه قبل عشرين عاما بالعودة إليهما من خلال توضيح وتبرير ملابسات فقده بهدف اقناعة بالعودة إليهما كما يُفترض في هكذا موقف وهكذا حالة... فطيلة مشاهد الحوار لم نجد أي تلميح أو سلوك من سعيد يشي بأنه يستهدف إقناع (خلدون/ دوف ) بالعودة... بل كان الحوار محاكمة قاسية لمنطق الاحتلال بما يتناقض تماما مع فكرة ومنطق عملية إقناع (دوف/خلدون) بالعودة كما هو مفترض... بعدها يمضي النص نحو نهايته الحتمية .. أي تحديد وتأكيد البديل عن كل هذه الثرثرة البائسة، حيث يعلن سعيد في نهاية الرواية خياره الحاسم : " أرجو أن يكون خالد قد ذهب أثناء غيابنا... (يقصد أن يكون ابنه الآخر خالد قد التحق بالفدائيين) .... "، فهذا هو الخيار المنطقي والعقلاني الوحيد في التعامل مع عدو اغتصب فلسطين أرضا وتاريخا وشعبا.
(5)
انطلاقا من ذلك يمكن وعي وظيفة تفاصيل الرواية والخيط الناظم لبنيتها السردية.

يقول سعيد لزوجته صفية وهما ينطلقان في رحلتهما إلى حيفا " -لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ...... لسواد عينيك وعيني؟ . لا . ذلك جزء من الحرب . إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا… ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء… كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير ".
هنا يحلل كنفاني فكرة مفصلية، وهي أن انفتاح العدو على محيطه الفلسطيني والعربي ليس شأنا عفويا أو عابرا أو اعتباطيا... إنه انفتاح القوة التي تريد بعد أن استولت على الجغرافيا أن تحتل الوعي والحالة النفسية، لهذا فإنه يقوم بعملية الانفتاح ليرسخ فكرة انتصاره وحقه في احتلال المكان وإظهار قوته الشاملة، وبالتالي التأكيد على أن لا جدوى من مقاومة تفوقه وقوته العاتية، إنه يريد أن يرسخ مفهوم التفوق ليس في الميدان العسكري فقط، بل وفي الميادين السياسية والنفسية والحضارية.. ولكنه يقدم ذلك باعتباره تعبيرا عن "تقاطع المصالح" ومدى "إنسانيته"... أي بالضبط ذلك الوهم الكبير الذي سقط ويسقط في مصيدته الكثير من الساذجين الفلسطينيين والعرب تحت عنوان "المصالح الاقتصادية المشتركة" مثلا، أو عبر المقارنة بين سلوك الأنظمة العربية القهري تجاه شعوبها مقارنة بتصرف إسرائيل مع الفلسطينيين: "انظروا إلى إسرائيل إنها أكثر إنسانية ورحمة من العرب"!. إنها تسمح لنا بزيارة بيوتنا ومدننا وقرانا التي تحتلها وتستوطنها.
الوجه الآخر لهذه المعادلة أو العملية هو تكريس ثقافة الهزيمة عند الطرف الفلسطيني والعربي، الذي يذهب إلى العلاقة مع دولة الاحتلال من موقع الهزيمة والانكسار... اي من موقع القبول باشتراطات العدو والاعتراف بتفوقه.. سواء جرى ذلك بصورة واعية أو غير واعية. هذه الفكرة المحورية عبر عنها كنفاني في الرواية بمنتهى القوة والتكثيف: "هذه هي حيفا يا صفية! أتعرفين ؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبدا أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى . لم يكن ذلك يخطر لي على بال ، ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهينا تماما … قد أكون مجنونا لو قلت لك أن كل الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة ، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها لا تزال مغلقة، ولكن تلك هي الحقيقة ". .
بمعنى أن العودة إلى حيفا ما كان يجب أن تتم لأن العدو سمح بذلك.. لأن سماح العدو "بالعودة" بهذا الشكل وبهذه الشروط هو فقط من أجل إظهار تفوقه وقوته وإجبار الفلسطيني على الذهاب من خلال إحناء رأسه وكسر روحه وفق شروط ومعادلات القوة التي يمسك بها المحتل... لهذا كان يجب فتح "بوابة مندلبوم" بالقوة من جهة واحدة، أي تحقيق الانتصار الواضح لكي تكون العودة ذات معنى وقيمة وجدوى.. عودة بكامل الكرامة.
في الحوار الذي جرى بين ميريام (والدة خلدون/دوف) التي تقيم/تحتل بيت سعيد وصفية في حيفا يفكك كنفاني هذا الفكرة بصورة أكثر عمقا: "وأخيراً قالت (ميريام) دون أن تجعل تلك الابتسامة تفر:
- "منذ زمن طويل وأنا أتوقعكما ". وانحنى سعيد إلى الأمام وسألها : "- هل تعرفين من نحن ؟ ". "- وهزت رأسها بالإيجاب عدة مرات لتزيد الأمر تأكيداً، وفكرت قليلاً كي تنتقي كلماتها، ثم قالت ببطء: "أنتما أصحاب هذا البيت، وأنا أعرف ذلك". (ثم) "سمع صوت العجوز (ميريام – من بولونيا) ، وقد صار الآن خافتا وأشد بطئا: -" أنا آسفة ، ولكن ذلك ما كان . لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن ". وابتسم سعيد بمرارة: -" أقصد أن وجودك هنا ، في هذا البيت ، بيتنا نحن ، بيتنا أنا وصفية ، هو موضوع آخر، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء، هذه الأشياء لنا ، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك". فقالت بسرعة : -" أفهم ، ولكن …." وفجأة فقد أعصابه : -" نعم ، ولكن ! .. هذه ال " لكن " الرهيبة ، المميتة ، الدامية …." -" طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي من هنا ، ذلك يحتاج إلى حرب..". هنا في هذه الجملة يحسم كنفاني النقاش بضربة واحدة لا تترك مجالا لأي رهان أو التباس .. أي أن استعادة البيت، واستعادة حيفا واستعادة فلسطين واستعادة ابنه خلدون تحتاج إلى شروط أخرى مغايرة تماما عن شروط اللحظة: إنها ذلك مشروط بفتح بوابة مندلبوم بالقوة من جهة واحدة، وبكلمة إن كل ذلك "يحتاج إلى حرب".

(6)
لكي يعزز كنفاني هذه الفكرة فإنه (وأثناء الحوار مع ميريام وقبل أن يحضر (خلدون /دوف) يقوم بنقلة مفاجئة في رواية عائد إلى حيفا، وذلك حين ينتقل لسرد نص مواز عن حدث آخر مختلف تماما، حدث جرى في مكان مختلف ووقت مختلف، وهي قصة فارس اللبدة الذي عاد بدوره بعد هزيمة 1976 ليتفقد بيته في يافا، لقد قام كنفاني بهذه النقلة المفاجئة لكي يؤكد بأن القضية هنا لا تتعلق بحالة فردية وحالة هناك، أو برد فعل شخصي في لحظة معينة...
فحين فتح الرجل الذي يقيم في بيت فارس اللبدة في يافا له الباب كان رد فعل فارس المباشر والفوري لافتا: "واخيراً انفتح الباب ، ومد الرجل الطويل القامة ، الاسمر والذي كان يلبس قميصاً ابيض مفتوح الازرار، مد يده ليصافح القادم الذي لا يعرفه . الا ان فارس تجاهل الراحة الممدودة ، وقال بالهدوء الذي يحمل كل معنى الغضب : - "جئت القي نظرة على بيتي . هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح . تستطيع ان شئت ، ان تطلق علي الرصاص هذه اللحظة، ولكنه بيتي، وقد انتظرت عشرين سنة لاعود اليه .. واذا".
هي ذات الفكرة بالضبط، التي بدأ بها سعيد نقاشه مع ميريام حين قال أو أعلن مسبقا:" طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي من هنا ، ذلك يحتاج إلى حرب..". ذات الموقف يكرره فارس اللبدة وبنفس الحسم مع الشخص الذي يحتل بيته في يافا مباشرة وقبل أي نقاش، وقبل أن يعرف حتى من يقيم في بيته: "هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح".
ولكن فجأة ينقلب المشهد ويتغير اتجاه النقاش حين يضحك الرجل الذي فتح له الباب ودعاه للدخول وهو يخبره بأنه فلسطيني عربي.. حينها يأخذ الحوار منحى مختلفبصورة جذرية، حيث تصبح الأسرة الفلسطينية التي تقيم في البيت أسرة تحمي وتحرس البيت وذاكرته من خلال حفاظها على صورة الشهيد بدر اللبدة أخو فارس اللبدة في مكانها على الجدار طيلة عشرين عاما. أي بالعكس مما قامت به الأسرة التي تحتل بيت سعيد واحتلت معه المكان وذاكرته ووعي ابنه خلدون الذي أصبح اسمه دوف.
من هنا تبدو "عائد إلى حيفا" نصا يتجاوز مفهوم الدراما التي تغمر حركة الرواية... لقد قاد كنفاني النقاش بوعي عميق جدا ليؤكد فكرته الناظمة، وهي استحالة استحقاق الحقوق الوطنية والفردية في صراع من هذا المستوى من خلال آليات التطبيع والنقاش "الإنسانوي" أو "القانوني" الساذج.
هذا هو الذي يفسر ويكشف لنا تماما أن سعيد وهو ذاهب مع صفية إلى حيفا لم يكن لديه أية أوهام منذ البداية.. فلو كان النص مجرد سرد درامي عادي عن حالة إنسانية في سياقات طبيعية، أي لا ترتبط بصراع قومي شامل، لترك الكاتب حركة ومواقف الشخصيات للحظة المحددة .. بحيث تتصرف بناء على ردود الفعل والقدرة على الاقناع والاقتناع... وبقدرة المشاعر والعواطف على تحديد وحسم المواقف والخيارات.
وهذا ما يفسر لنا أيضا جوهر الفكرة التي قالها سعيد لصفية وهم في الطريق إلى حيفا، أي قبل أن يصل إلى البيت وقبل أن يلتقي بميريام ودوف/ خلدون، أي قبل أي حوار: "بلى. كان علينا الا نترك شيئاً . خلدون ، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا . هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! . الا ينتابك هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين!".
بمعنى أن الواقع وحقيقة الهزيمة المرة هما من قرر وحسم مسبقا نتيجة الرحلة: فكما تنكرنا حيفا، وكما ينكرنا بيتنا، سينكرنا أيضا ابننا خلدون... ذلك لأننا نعود في ظلال الهزيمة وحقائقها المرة والقاسية، بمعنى آخر لا جدوى من أي حوار.. فهذا مجرد مضيعة للوقت وهبوط بالقضية وتشويه للوعي وجوهر الصراع.
(7)
هذا يعني أن الركائز التي تستند إليها مواقف الشخصيات في "عائد إلى حيفا" تتجاوز بالكامل الرهانات الساذجة ... بمعنى أن كنفاني قام بحسم النقاش نظريا وسياسيا ووعيا بصورة مسبقة ولم يترك المواقف من قضية بهذه الحساسية للانفعالات العاطفية وكأنها تجري في واقع هلامي وملتبس يحتاج فقط لحسن النية مع بعض التوضيحات في جلسة حوار لطيفة لكي تذهب الأمور نحو نهايتها السعيدة بكل يسر وسهولة...
لكي ندرك ونعي هذه العملية الفكرية والسياسية المركبة التي طرحها كنفاني بمهارة وذكاء لنعيد قراءة وتأمل المشهد التالي في الرواية:
"إلا أن ميريام تقدمت الى الأمام ، ووقفت معدة نفسها لتقول شيئا صعبا . ثم ببطء أخذت تنتزع تلك الكلمات التي تبدو وكأن يدا ما تنتشلها من أعماق بئر محشو بالغبار : -" إسمع يا سيد سعيد . أريد أن أقول لك شيئا مهما ولذلك أردتك أن تنتظر دوف ، أو خلدون إن شئت ، كي تتحدثا . وكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي ، أتعتقد أن الأمر لم يكن مشكلة لي كما كان مشكلة لك ؟ طوال السنوات العشرين الماضية وأنا محتارة ، والآن دعنا ننتهي من كل شيء . أنا أعرف أبوه ، وأعرف أيضا أنه ابننا ، ومع ذلك لندعه يقرر بنفسه ، لندعه يختار . لقد أصبح شابا راشدا ، وعلينا نحن الإثنين أن نعترف بأنه هو وحده صاحب الحق في أن يختار ... أتوافق؟".
لنلاحظ هنا منطق ميريام اي منطق القوة الواثقة والمهيمنة: "لكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي"... ماذا تقصد يا ترى ميريام بمفهوم الطبيعة التي ستحسم النقاش، ماذا تقصد بذلك إن لم يكن الإشارة إلى انتصار المشروع الصهيوني بالقوة بكل ما ترتب على ذلك من حقائق باتت تراها طبيعية، بما في ذلك حقيقة احتلال فلسطين ووعي وذاكرة(خلدون/دوف)!؟ هل لذلك تفسير آخر!؟..
حينها "قام سعيد عن مقعده واخذ يدور في انحاء الغرفة ثم وقف امام الطاولة المنقوشة بالصدف وسط الغرفة واخذ، مرة أخرى ، يعد ريشات الطاووس في المزهرية الخشبية الجاثمة هناك، الا انه لم يقل شيئاً . وظل صامتاً كأنه لم يسمع حرفاً . وكانت ميريام تنظر اليه متحفزة ، واخيراً التفت الى صفية وشرح لها ما قالته ميريام ، فقامت من مكانها ووقفت الى جانبه ، ثم قالت بصوت مرتجف:

- "ذلك خيار عادل ... وانا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين . لا يمكن ان يتنكر لنداء الدم واللحم". وفجأة أخذ سعيد يضحك بكل قوته ، وكانت ضحكته تعبق بمرارة عميقة تشبه الخيبة : "- أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون . يوماً يوماً ، ساعة ساعة ، مع الاكل والشرب والفراش .. ثم تقولين: خيار عادل ! ان خلدون ، أو دوف ، أو الشيطان ان شئت ، لا يعرفنا! أتريدين رأيي ؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي . انتهى الامر . سرقوه".
نعم لقد التقط كنفاني وبمهارة فكرة ميريام عن "الطبيعة التي ستحسم، " حينها قام وبطريقة مدهشة وبمنتهى الوضوح بتفكيك هذه المعادلة وهذا الخطاب الذي يبدو للوهلة الأولى عادلا وعقلانيا للإنسان العادي إي ذلك الجزء من الناس الذين تمثلهم صفية في الرواية، أي الذين يقاربون النقاش بحسن نية تصل إلى السذاجة، وهنا نلاحظ أنا كنفاني لا يتهم هذا النوع من الناس، ولا يقوم بتخوينهم، بل يقوم بشرح القضية لهم لإضاءة وعيهم.
بمعنى أن كنفاني لم يكن ينتظر لا تبريرات ميريام ولا أية نتيجة أو جدوى أو رهان على النقاش الذي سيدور مع دوف (خلدون) لاحقا... ذلك لأن سعيد يعرف ويدرك حقيقة ما جرى، وبالتالي فهو يعرف النتيجة مسبقا، ولهذا فهو من البداية لم يكن يتوقع شيئا آخر أبدا.. فقد كان ذهاب سعيد في الرحلة أو لنقل صياغة كنفاني للرواية بهذا الشكل كان يجري وفق معادلة واعية لم تغادر منطقها الداخلي المحكم... وهي أن كل هذه الرحلة لم يكن لها ضرورة.. لهذا كان سعيد يستمع صامتا وكأنه لم يسمع حرفا... ثم يأتي انفجاره بالضحك بكل قوته الممزوجة بالمرارة العميقة والخيبة... ثم تساؤله بسخرية " أي خلدون يا صفية؟..... أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الأمر. سرقوه.".
الفرضية التي اشتغل عليها كنفاني وقادته في هذه الرواية وأراد تأكيدها وحسمها بصورة مقنعة هي أن مجرد الاستماع والتفكير ضمن شروط القوة السائدة هو بحد ذاته استسلام واعتراف بالهزيمة.. ليس هذا فحسب بل وهو مقدمة لتشريع الوقائع التي فرضها الاحتلال والتخلي عن خيار المقاومة...
لهذا فإن سعيد يعلن حتى قبل ان يلتقي ب"ابنه" خلدون (دوف) .. "أنه انتهى .. لقد سرقوه.."، والسؤال هنا هو: ما دام الأمر كذلك فلماذا كل هذه النقاشات والحوارات والانفعالات!؟.
الفكرة بسيطة وهي أن كنفاني أراد أن يصفي مسبقا منطلقات وأسس الفكر والوعي المشوه، وأن يخلخل السياسات الواهمة التي تقوم على فرضية بائسة حول إمكانية استعادة الحقوق الوطنية من خلال الحوار العقلاني والإنساني والعاطفي، أو من خلال التطبيع مع احتلال استعماري استيطاني (كولونيالي) يعتمد أيديولوجيا صهيونية متطرفة وعنصرية قام على اساسها وبقوة الحديد والنار بارتكاب المجازر الوحشية والتطهير العرقي المنظم بحق ملايين الفلسطينيين وانتهت العملية باستيلائه على أرض فلسطين.
بناء على هذه الحقائق، اي ما حققه المشروع الصهيوني من انتصارات في الميدان فإنه بالتأكيد سيرفض الاعتراف بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني... وبالتأكيد سيرفض التنازل عن أي مكسب او امتياز استحقه بالحرب.. إنه لن يعطي ولن يتنازل إلا بما يعود عليه بمكاسب وفوائد مضاعفة، سياسية ، اقتصادية، أمنية وغيرها. فقط في هذه الحالة"سيتنازل".. وفي هذه الحالة لا يعود لهكذا تنازل قيمة أو معنى.
فعلا.. لماذا على المنتصر أن يتنازل للمهزوم عن بعض ما كسب في الحرب...!؟ ما الذي يجبره على ذلك!؟،
(8)
وهكذا يواصل كنفاني بدأب وبراعة كشف الجذور السياسية والنفسية للتطبيع.. يفككها تماما ويحولها إلى كومة تافهة على مسرح الصراع الدامي الممتد على مساحة أكثر من قرن.

في سياق هذه العملية الحاسمة.. فإن كل تفاصيل النقاش اللاحق مع (دوف/ خلدون) كانت فقط من أجل التأكيد على ما هو واضح لا أكثر.. ذلك لأنه لم يكن هناك ومنذ البداية أي رهان على هذا الحوار أبدا، ومن كان ينتظر غير ذلك فإنه لم يدرك كل الهدف العميق من وراء رواية عائد إلى حيفا...
ولهذا حين استدار دوف(خلدون) وسأل سعيد: "- ماذا تريد يا سيدي ؟". أجابه " لاشيء . لا شيء .. إنه مجرد فضول ، كما تعلم ". ثم سأله سعيد ، بهدوئه المفاجيء : "- أنت في الجيش ؟ من تحارب ؟ لماذا ؟". وانتفض الشاب واقفاً فجأة : "- ليس من حقك ان تسأل هذه الاسئلة . انت على الجانب الاخر ". "- انا ؟ انا على الجانب الاخر ".
هنا تفترق المعادلات والمقاربات تماما... جانب هنا وجانب هناك... والمقصود ب"هنا وهناك" ليس مجرد وجهات نظر، إنما المقصود جبهات صراع ومواجهة يفصل بينها حقل شاسع من الدماء.. جيوش وموازين قوى .. وليس طرفان يختلفان على صفقة أغنام أو "سحّارة" بندورة، وبالتالي فإن حسم المواجهة بين هاتين الجبهتين المشتبكتين حتى الموت ليست مسألة مفاوضات ونقاش من حيث المبدأ.. لهذا لم يجد سعيد أمامه سوى أن يضحك على اقتراح دوف (خلدون) حين قال: "دعونا نتحدث كأناس متحضرين". واخذ سعيد يضحك مرة اخرى ، ثم قال : "- أنت تريد ان تفاوض ... اليس كذلك ؟ كنت تقول انك ، او انني ، في الجهة الاخرى .. ماذا حدث ؟ هل تريد ان نفاوض ام ماذا؟".
هذا التساؤل من سعيد يعبر عن السخرية المرة أكثر مما يقصد فكرة التفاوض فعلا... يتوضح ذلك في الحوار التالي: يقول دوف:"انا لم اعرف ان ميريام وايفرات ليسا والدي الا قبل ثلاث او اربع سنوات.... وحين قالا لي – بعد ذلك – ان والدي الاصليين هما عربيان ، لم يتغير اي شيء . لا ، لم يتغير . ذلك شيئ مؤكد .. ان الانسان هو في نهاية الامر قضية ".

- " من قال ذلك ؟". "- قال ماذا ؟". "- من الذي قال ان الانسان هو قضيه ؟". "- لا اعرف ، لا اذكر .. لماذا تسأل ؟". - لمجرد الفضول ، الصحيح لمجرد ان ذلك بالضبط ما كان يدور في بالي هذه اللحظة . "- ان الانسان هو قضية؟". "- بالضبط ". "- اذن لماذا جئت تبحث عني ؟". "- لست ادري . ربما لانني لم اكن اعرف ذلك ، او كي أتأكد منه اكثر...."
هنا يدفع كنفاني بفكرته الناظمة حول ثقافة التطبيع والمساومات والنقاشات الساذجة بقوة للأمام... لنلاحظ كيف وبماذا أجاب سعيد حين توجه إليه دوف بسؤال مباشر: "إذن لماذا جئت تبحث عني؟"، أجابه سعيد:" لست أدري، ربما لأنني لم أكن أعرف ذلك... أو كي أتأكد منه أكثر" ... جملة "لست أدري. ربما لأنني لم أكن أعرف ذلك" تعود إلى أولئك الذين فعلا لا يملكون موقفا أو وعيا كصفية، بينما سعيد ومن البداية كان واضحا، ولهذا فقد استخدم تعبير "كي أتأكد أكثر".. بمعنى أن النتيجة مؤكدة... ولو أراد تأكيد الشق الأول لما اضاف تعبير "أكثر"، وبالتالي فإن الهدف هنا هو تأكيد فكرة قائمة ولكن أكثر فأكثر.
عبر هذا الحوار يغادر كنفاني النقاش النظري والمواقف الخطابية العامة .. وهذا غير ممكن إلا من خلال استحضار موقف عملي حقيقي، وإدارة حوار "واقعي"، بهدف اختبار الفرضية في الواقع مباشرة... أي أنه قام بما يشبه المناورة العسكرية التي يجري تصميمها كمعركة حقيقية... وبهذا قام بتفكيك الفكرة من خلال فرضية الحوار مع دوف/ خلدون.
واختيار دوف (خلدون) كطرف لنقاش الفكرة فيه قوة مدهشة كما جرى التنويه سابقا.. ذلك أن كنفاني أراد التأكيد على مفهوم العدو بالمعنى العميق، السياسي والأيديولوجي والسلوكي، أي مقاربته بعيدا عن العواطف أو البعد الإثني أو الديني بحيث يبقى واضحا ومكشوفا كمنظومة سياسية وأيديولوجية وأمنية واقتصادية بغض النظر عن جنسية ولغة هذا العدو... بمعنى أن دوف وبالرغم من كونه الإبن البيولوجي لسعيد وصفية الفلسطينيان، إلا أنه وبفعل ديناميات وحقائق الصراع أصبح جزءا عضويا من الجبهة النقيضة بكل سماتها ومكوناتها...
توظيف غسان لشخصية دوف (خلدون) من أجل تفكيك فكرة التطبيع يؤشر إلى فكرة عميقة وهي أن المسألة هنا أي وفق محددات الصراع الحاكمة، ليس لها علاقة بالعواطف والانفعالات أو بموقف عدائي من اليهود لأنهم يهود، فالتطبيع مع من يحتل الوطن مرفوض حتى لو لم يكن يهوديا، بمعنى أن التناقض هو مع المشروع الصهيوني كاستراتيجية عنصرية استعمارية... من هنا نفهم قيمة النقاش الذي دار حول مفهوم أن"الإنسان قضية" ومفهوم "الوطن" .
-" الانسان في نهاية المطاف قضية ، هكذا قلت ، وهذا هو الصحيح ، ولكن أية قضية ؟ هذا هو السؤال ! فكر جيدا . خالد هو ايضا قضية ، ليس لأنه ابني ، ففي الواقع ... دع تلك التفاصيل ، على أية حال ، جانبا... إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر ... هل تستطيع أن تفهم ذلك ؟ حسنا ، دعنا نتصور أنك استقبلتنا –كما حلمنا وهما عشرين سنة- بالعناق والقبل والدموع ... أكان ذلك قد غير شيئا؟ إذا قبلتنا أنت ، فهل نقبلك نحن؟ ليكن اسمك خلدون أو دوف او اسماعيل او اي شيء آخر ... فما الذي يتغير ؟ ومع ذلك فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك ، والذنب ليس ذنبك وحدك ، ربما سيبدأ الذنب من هذه اللحظه ليصبح مصيرك ، ولكن قبل ذلك ماذا؟ أليس الانسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوما وراء يوم وسنة وراء سنة ؟ إذا كنت أنا نادما على شيء فهو انني اعتقدت عكس ذلك طوال عشرين سنة "!
في هذه الفقرة يشير كنفاني إلى مسألة هامة، وهي أنه حتى لو جرت الأحداث بصورة مغايرة، أي بمعنى إنساني صرف اي لو أن دوف، مثلا، رق قلبه فاستقبل والديه الحقيقيين بالعناق.. فهل كان مثل هذا العناق الشخصي والعاطفي سيغير من علاقات القوة وواقع الاحتلال شيئا!؟ فبعد لحظات سينتهي العناق وتتراجع الدموع، وفي النهاية سيعود كل طرف إلى الجبهة التي ينتمي إليها... بهذا المعنى نفهم المعنى المضمر من قول سعيد لدوف: " ومع ذلك فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك ، والذنب ليس ذنبك وحدك"... المسألة إذن ليس لها علاقة بالاحتقار (على المستوى الإنساني والوجداني) ولكن بحقائق الواقع، ومع ذلك تبقى جملة "الذنب ليس ذنبك وحدك"! بحاجة لتوضيح، فما الذي كان يقصده كنفاني بهذه الجملة الغريبة نوعا ما يا ترى؟.

" الذنب ليس ذنبك وحدك" تعني وفق السياقات، أنك تتحمل جزءا من الذنب، ذلك يرتبط بوعيك وما تدعيه من عقلانية إنسانية وغير ذلك، وهذه مسألة نسبية، ولكن هناك طرف آخر يتحمل جزء اساسيا من الذنب ألا وهو نحن... نحن الذين سمحنا بهزيمتنا وسكوتنا عن نتائجها بل والتعامل معها كأمر واقع بأن يحدث كل ذلك.. هذا هو المعنى الكثيف للسؤال والعميق الذي طرحه كنفاني على صفية وهم في طريق العودة من حيفا: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ".. نعم... ولكن لكي لا يحدث ذلك كله، كان علينا أن نقاتل ونقاوم... ولكي لا يستمر ما حدث فإن علينا أن نقاتل ونقاوم.
(9)
يلاحق كنفاني في الرواية بنية ثقافة وأوهام التطبيع ويكشفها بلا رحمة، يهز منطلقاتها من وجذورها بكل براعة وتماسك.. لم يسقط في الخطاب الأجوف... بل بقي ممسكا بناصية الفكرة وشدها لكي تقف عارية تماما... لهذا حتى ولو كفرضية قام دوف باستقبال والديه بالعناق والدموع.. فإن ذلك لن يغير من حقيقة الواقع والمعادلات التي تحكمه شيئا...ذلك لأن تغيير هذا الواقع هو موضوع صراع شامل وليس مسألة حوار على فنجان قهوة.
في هذا السياق نلاحظ أن كنفاني ومع أنه قد حسم ومن البداية موقفه من فكرة الحوار وجدواه، إلا أنه في ذات اللحظة لم يدر ظهره لخطاب (العدو) .. فهو لم يكتف بالقول بأن الحوار في ظل هذه المعادلات لا جدوى منه.. بل قام بشن هجوم معاكس على بنية الخطاب الصهيوني، ولكن من على قاعدة المواجهة وليس من على قاعدة وهم تغييره أو لإقناعه بالتنازل من خلال الحوار:
-" زوجتي تسأل إن كان جبننا يعطيك الحق في أن تكون هكذا ، وهي ، كما ترى، تعترف ببراءة بأننا كنا جبناء ، ومن هنا فأنت على حق ، ولكن ذلك لا يبرر لك شيئا ، إن خطأ زائد خطأ لا يساويان صحا ، ولو كان الأمر كذلك لكان ما حدث لايفرات ولميريام في أوشفيتز صوابا ، ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم ؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة ، هذه المعادلات الحسابية المترعة بالأخاديع ... مرة تقولون أن أخطاءنا تبرر أخطاءكم ، ومرة تقولون أن الظلم لا يصحح بظلم آخر... تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا ، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه ، ويخيل إلي أنكم تتمتعون الى أقصى حد بهذه اللعبه الطريفة ، وها أنت تحاول مرة جديده أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي الذي تعتلي صهوته ... لا ، أنا لا أتحدث إليك مفترضا إنك عربي ، والآن أنا أكثر من يعرف أن الإنسان هو قضية، وليس لحما ودما يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائع والزبون معلبات اللحم المقدد ، إنما أتحدث إليك مفترضا أنك في نهاية الأمر إنسان . يهودي . أو فلتكن ما تشاء . ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي ... وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء ، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها ، كائنا من كان ، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم ، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه".
لنلاحظ أن الخطاب الموجه لدوف هنا ليس له أي علاقة بحوار بين والد وأبنه، كما ليست له اية علاقة بالأبعاد العاطفية والبيولوجية، فدوف هنا هو معادل للصهيونية والفكر الصهيوني.. مما استدعى هجوما مباشرا على وعيه وخطابه.
من هنا جاء التلميح السريع والذكي لغسان حول ما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية أي"الهولوكوست"، فبالرغم من كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني على يد الحركة الصهيونية، إلا أن كنفاني بالمعني الفكري والأنساني لم يستخدم المأساة الفلسطينية لكي يعبر عن سعادته بالهولوكوست، لقد ارتقى كنفاني هنا إلى مستويات أخلاقية وإنسانية هائلة هي جوهر وركيزة الأساس الأخلاقي لنضالات الشعب الفلسطيني الذي لا يقبل أي قهر أو قتل للإنسان على أساس عرقي أو ديني او جنسي. اي على عكس سلوك الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال التي تقوم بتوظيف الهلوكوست لتبرير ممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وكأن ما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية يعطيهم الغطاء السياسي والأخلاقي لممارسة وحشيتهم واحتلالهم ضد الشعوب الأخرى.

(10)
بعد هذه المحاكمة الصارمة والدقيقة فكريا وسياسيا وإنسانيا... يعود كنفاني للتذكير بالبديهيات:
"ثم نظر مباشرة في عيني ( دوف): "- وأنت ، أتعتقد أننا سنظل نخطئ ؟ وإن كففنا ذات يوم عن الخطأ ، فما الذي يتبقى لديك ؟". هنا ينتهي النقاش... هنا تكتمل الفكرة... وتسقط أية فرضيات أو أوهام ساذجة في الممارسة السياسية والثقافية .. وهكذا " شعر ، ثمة ، أن عليهما أن ينهضا وينصرفا ، فقد انتهى الأمر كله ،ولم يعد هناك ما يقال بعد... وأحس تللك اللحظة بشوق غامض لخالد ، وود لو يستطيع أن يطير اليه ويحتويه ويقبله ويبكي على كتفه ، مستبدلا أدوار الأب والأبن على صورة فريدة لا يستطيع تفسيرها . " هذا هو الوطن" ، قالها لنفسه وهو يبتسم ، ثم التفت نحو زوجته : -" أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ". إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد هو شرفنا الباقي... ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى حرب ؟ ... هيا بنا !".
الفكرة هنا أنه يستحيل إدارة حوار واستعادة حقوق من خلال الرهان على حوار او نقاش مع طرف يذكرنا دائما بهزائمنا وعارنا.
ولهذا بالضبط يقوم كنفاني بدفع الفكرة النقيضة أو البديل عن كل هذه المهزلة من خلال فكرة معانقة سعيد لابنه الفدائي خالد.. الذي أصبح معادلا للوطن، ذلك لأنه كرمز للمقاومة هو البديل لفكر وسياسة الهبوط والرهانات العقيمة، إنه النقيض لإمكانية استعادة الوطن والحق بدون مقاومة وبدون تغيير موازين القوى... إنه الطريق لإعادة تصحيح التاريخ.. لهذا فإن خالد هو الوطن... ذلك لأن الوطن وفق محددات الصراع الصارمة لن يعود بدون مقاومة.
هذا هو المعنى العميق لتلك الجملة الحاسمة التي قالها سعيد حين وصل إلى الباب متوجها بها إلى دوف: -" تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب ". بعد كل هذا العصف... ظل سعيد صامتا طوال الطريق ، ولم يتلفظ بأيما شيء إلا حين وصل مشارف رام الله ، عندها فقط نظر الى زوجته وقال : "- أرجو أن يكون خالد قد ذهب .... أثناء غيابنا "!
المقاومة... تلك هي الفكرة والبديل الحاسم والعالي عن كل هذه المهزلة... المقاومة كخيار سياسي وثقافي استراتيجي...
لهذا ولكي تترسخ هذه الفكرة كثابت وركيزة فقد قام كنفاني بتعزيزها من خلال التعبير عن الاحترام الهائل الذي عبرت عنه العائلة التي سكنت في بيت فارس اللبدة في يافا للشهيد بدر اللبدة فاحتضنت صورته عشرين عاما... ذلك لأنه يمثل النقيض أو الخيار الآخر الممكن مقابل من غادر الوطن، بدر اللبدة الذي اختار المقاومة حتى الاستشهاد... ولهذا فإنه أصبح كرمز من حق فلسطين... ومن حق من سيواصل أهدافه وتضحياته. بمعنى أن القيمة العميقة لتضحية الشهيد بدر اللبدة تكمن في كونه يشكل الامتداد المضئ لخالد الذي التحق بالفدائيين ليحرس ذات الفكرة وذات القضية... لهذا حين قام (فارس اللبدة أخو الشهيد بدر اللبدة) بإنزال الصورة عن الجدار ليأخذها ، بدا المكان الذي خلفته الصورة وراءها مستطيلاً باهتاً من البياض الذي لا معنى له ، والذي يشبه فراغاُ مقلقاً.
هذه "الحركة العميقة" تحمل دلالات مضمرة مدهشة، إنها تعني أن فلسطين الوطن تحتاج لمن يحرس ذاكرتها ويحرس فكرة المقاومة من أجل استردادها، وليس تحويلها إلى مجرد ذكرى مؤلمة، وصورة تعلق على الجدار للبكاء...
لهذا السبب حين "حمل فارس الصورة معه الى السيارة ، وعاد الى رام الله وكان طوال الطريق ينظر اليها متكئة الى جانبه على المقعد ، ويطل منها بدر وهو يبتسم تلك الابتسامة الشابة المشرقة، وقد ظل يفعل ذلك حتى اجتاز القدس ، وصار على الطريق المتجه نحو رام الله ، وعندها فقط انتابه شعور مفاجيء بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة ، ولم يستطيع ان يفسر الامر لنفسه، الا انه طلب من السائق العودة الى يافا ، ووصلها في الصباح". وأعاد الصورة إلى مكانها.. لأنهم هم أهلها الشرعيون.
في هذا السياق العالي جاء أيضا رد فعل رب الأسرة الفلسطينية التي بقيت صامدة في بيت فارس اللبدة في يافا طيلة عشرين عاما وهي تحتفظ بصورة الشهيد بدر اللبدة في صدر البيت، فقد شعر بعد أن أخذ فارس الصورة وغادر بذلك الفراغ المروع وقد عبر عن مشاعره هذه قائلا: "شعرت بفراغ مروع حين نظرت الى ذلك المستطيل الذي خلفته على الحائط . وقد بكت زوجتي ، واصيب طفلاي بذهول ادهشني . لقد ندمت لانني سمحت لك باسترداد الصورة ، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن . عشنا معه وعاش معنا وصار جزءاً منا . وفي الليل قلت لزوجتي انه كان يتعين عليكم ، ان اردتم استرداده ، ان تستردوا البيت ، ويافا ، ونحن ... الصورة لا تحل مشكلتكم ، ولكنها بالنسبة لنا جسركم الينا وجسرنا اليكم" .
نعم هذا الرجل لنا نحن... ذلك لأنه ذاكرة فلسطين، إنه الامتداد العميق والأصيل لخالد الذي التحق بالفدائيين.. وهما معا(أي الشهيد والمقاوم الذي يواصل مهمته ومسؤوليته وواجبه الوطني والأخلاقي) يشكلان التكثيف العالي لخيار المقاومة بمعناه الشامل من أجل استرداد فلسطين... إنهما النقيض لعارنا الذي يجسده احتلال فلسطين واحتلال "خلدون/دوف".
نعم بالضبط " إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد (وبدر اللبدة) هما شرفنا الباقي... ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى حرب ؟ ... هيا بنا !".
(11)
في النهاية... وبعد هذه القراءة لرواية عائد إلى حيفا بما فيها من اجتهاد ومقاربات، قد تخطئ وقد تصيب.. فإنني أعيد صياغة خلاصة الفكرة ولكن بلغة سياسية.
في المسافة الممتدة ما بين صدور رواية "عائد إلى حيفا" عام 1969 وحتى اليوم، جرت في نهر الواقع الفلسطيني والعربي مياه كثيرة، حتى باتت ثقافة وممارسة التطبيع، الذي كان حالة هامشية ومدانة، ظاهرة مقيمة وشبه عادية تجتاح السياسات العربية وخاصة أوساط المثقفين والإعلاميين تحت تبريرات مختلفة... وكأني بغسان كان يتنبأ بهذا التهديد والتشويه للوعي... فكتب رواية عائد إلى حيفا لكي يفكك ركائز ومنطلقات هذا التهديد الثقافي والسياسي المحتمل بصورة مباشرة وملموسة، ويهز بنيته ويكشف خطورته على الوعي والممارسة، بما يحصن الوعي والثقافة بصورة علمية عميقة وراسخة .
لقد باتت ثقافة التطبيع وممارسته في مختلف الحقول اليوم حقيقة واقعة، فلسطينيا وعربيا.. فلم يعد التطبيع يقتصر على حالة فردية هنا وأخرى هناك..بل أصبح تيارا تحميه وتسنده سياسات وحكومات ومثقفين وإعلاميين ومؤسسات... فبات الانفتاح والتطبيع مع الاحتلال ومؤسساته سياسيا وثقافيا واقتصاديا وأمنيا أمرا عاديا، يجري الترويج له كنوع من عقلانية ذكية. مما يجعل من تحليل وتفكيك أسس هذه الثقافة البائسة بصورة منهجية مسألة ملحة وراهنة.
هنا من الضروري التمييز بين ممارسة التطبيع كعملية سياسية نفسية اقتصادية واعية.. أي كتعبير عن خيار سياسي طبقي يعكس مصالح طبقات وسلطات سياسية ترى مصلحتها في التحالف والتعاون مع الاحتلال.. وبين التطبيع الذي يعبر عن حالة إرتباك وتشوش والتباس نتيجة غياب أو ضعف الوعي العميق لطبيعة الصراع.. الأول واضح... ومجابهته وصده تشترط مشروعا سياسيا ثقافيا اجتماعيا واقتصاديا نقيضا، أي مشروعا ثقافيا وسياسيا مقاوما بالمعنى الواسع والعميق للكلمة... لأن هذا النمط من التطبيع المنهجي والواعي يعبر عن خيار سياسي واقتصادي يجد مصلحته في التموضع في الجبهة النقيضة...
النوع الثاني من التطبيع.. هو الذي يجري عادة بحسن نية.. أي دون أن يعي من يقوم به بأنه يخطو في دائرة المحرم.. إنه يقوم بذلك وهو يعتقد أنه يساهم في دعم الشعب الفلسطيني والدفاع عن قضيته... من خلال مناقشة الطرف الآخر ليكتشف خطأه وبالتالي سيتنازل هكذا طوعا ويعيد للفلسطينيين حقوقهم ووطنهم. هنا قد تكون الدوافع نبيلة لكنها في العمق تعكس خللا جوهريا في الوعي يصل حد السذاجة... بمعنى أن الطريق معبدة بالنوايا الحسنة ولكنها تقود في النهاية إلى الجحيم ذاته.. وهنا لا يعود الفرق في النتيجة كبيرا بين مظهري التطبيع.. حيث يتبادلان التاثر والتاثير..

من يعتقد أن اللقاء مع مؤسسات ووسائل إعلام وشخصيات سياسية حكومية وغير حكومية إسرائيلية صهيونية إنما يوفر مساحة لطرح وجهة النظر العربية إنما يقع هنا في مجموعة من الأخطاء الفادحة:
الأول: الاعتقاد المغلوط بأن المشكلة تكمن في سوء الفهم عند الإسرائيلي.. بمعنى الافتراض أن ليس عنده معلومات أو أنه لا يعي حقيقة الصراع، وبالتالي فإن مجرد مناقشته ومحاججته من منطلق عاطفي وإنسانوي أو حتى قانوني فإنه يمكن إقناعه بالتنازل عما كسبه بالحرب والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وإعادتها، هذا يعبر عن ضحالة وتبسيط غير عادي للصراع... فالصراع هنا ليس خاضعا للأمزجة الشخصية والفردية... إنه مواجهة شاملة يعي كل من طرفيها حقيقته ومضامينه وأهدافه منذ البداية... وبالتالي فإن ما هو قائم من محددات ونواظم لهذا الصراع ليس لها علاقة بسوء الفهم الذي يمكن إزالته وتجاوزه من خلال طاولة حوار ونقاش هادي لكي تحل المشكلة كما يعتقد بعض السياسيين والمثقفين الفلسطينيين والعرب .. وبمناسبة هذه الفكرة يمكن التذكير فقط بأن الحوار مستمر بين القيادة الفلسطينية والاحتلال منذ أكثر من 25 عاما... والنتائج أكثر من واضحة، إذ لم يغير هذا الحوار من الواقع شيئا باستثناء استفحال ممارسات الاحتلال وقهره ومواصلة تكريس وترسيخ مشروعه الاستيطاني الاقتلاعي.
الثاني: أنه بمجرد قبول الدخول في هذه العملية فإن المثقف العربي أو الفلسطيني الواهم يكون مسبقا قد تنازل واعترف بأن للطرف المعتدي حقا فيما يقوم به... ليس بالضرورة كله ولكنه اعتراف بأن له حق ما وما يقوم به المثقف الواهم هنا هو محاولة عقلنة هذه العلاقة...
الخطأ الثالث: هو الوهم السياسي والمعرفي والثقافي الذي يقوم على الاعتقاد بأن حل الصراع واستعادة الحقوق هو مسألة سجال وحوار وقدرة على الإقناع.. فيما الحقيقة التاريخية والسياسية تقول بأن استعادة الحقوق هي مسألة صراع شامل(سياسي، كفاحي، ثقافي، اقتصادي ، اجتماعي ونفسي) يستهدف تغيير موازين القوى بالمقاومة... وأي ترويج لغير ذلك هو ضار بكل المقاييس ونتيجته تشويه الوعي والارباك لمحددات الصراع...

الخطأ الرابع: يتجلى في وهم الذهاب للتفاوض من أجل استحقاق الحقوق بدون مقاومة وبدون امتلاك عناصر القوة وبدون تغيير موازين القوى، بمعنى أنه يمكن الذهاب في اختبار امكانية التفاوض ولكن من على قاعدة المقاومة وامتلاك عناصر القوة، وليس التفاوض من على قاعدة الٌإقرار بالهزيمة وعدم السعي لتغيير موازين القوى بالمقاومة، هذا هو الاختلال البنيوي الذي تعاني منه كل المفاوضات الفلسطينية والعربية مع الاحتلال الإسرائيلي وما ترتب عليها من اتفاقيات مختلة ومهينة، ذلك لأنها جرت من على قاعدة معادلة أن التفاوض يجري ما بين طرف منتصر تماما وطرف مهزوم تماما، وبأن هذه المعادلة حاكمة إلى ما لا نهاية.
الخطأ الخامس: الاعتقاد بفكرة حيادية وسائل الإعلام سواء كانت إسرائيلية أو غربية.. تلك الوسائل التي تجاهد لتثبت حياديتها... كي تبرر تمريراتها السياسية المحددة والمنضبطة لسياسات الدول... فقط نحن من نعتقد أنها حيادية لأننا نلتبس ونحن نقارنها بوسائل إعلامنا المتخلفة...
الخطأ السادس: عدم إدراك خطورة هذه الممارسة على وعي الناس والأجيال القادمة... وهذا يعبر عن استهانة وإهانة لشعب يقاتل منذ مئة عام، ولا يزال يقدم الشهداء والجرحى والأسرى... فماذا سيكون تأثير هذه الثقافة والممارسة على الوعي الجمعي حين يرى سياسييه ومثقفيه وهم يجلسون ويتبادلون الابتسام مع مؤسسات وممثلي الاحتلال، بينما في ذات اللحظة وغير بعيد عن طاولة الحوار يسقط الفلسطيني شهيدا .. أو يعتقل أو يدمر بيته أو تصادر أرضه... أليس في ذلك استخفاف بالناس وتضحياتهم..!!!؟.
أخيرا.. إن عدم إدراك خطورة دعم وتشجيع ثقافة التطبيع تحت ضغط اللحظة وموازين القوى القائمة بعتبارها حقيقة أزلية، بما يعنيه ذلك من استخفاف وعدم ثقة بالأجيال القادمة وقدرتها على المبادرة ومواصلة النضال لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني واستحقاقها بالمقاومة بالمعنى الشامل والإستراتيجي للكلمة، يعني في العمق قطع الطريق وإغلاق الأفق أمام أية إمكانية أو مبادرة مستقبلية لمواصلة المقاومة وهزيمة الاحتلال.

انشر المقال على: